تونس وصندوق النقد الدولي اتفاق أم طلاق؟

تضارب المواقف وعدم الانسجام بين الرئاسة والحكومة في المفاوضات يفقدها صدقيتها

Nathalie Lees
Nathalie Lees

تونس وصندوق النقد الدولي اتفاق أم طلاق؟

لم تصل تونس في تاريخ علاقاتها مع صندوق النقد الدولي الى المستوى الراهن من عدم الوضوح والضبابية التي تزداد يوما بعد يوما. وفق منطق الضرورة، يبدو التوصّل الى اتفاق مع هذه المؤسسة المالية الدولية المانحة، مسألة حتمية تعني حتما وأيضا القبول بالمحظور أو بما سمّاه وزير الخارجية التونسي نبيل عمار بالخطوط الحمر التي قال انه لا عودة ولا تراجع عنها في النقاشات مع الصندوق، نافيا بذلك قطيعة كان قد اعلنها ضمنيا رئيس الجمهورية قيس سعيد الاسبوع الماضي خلال اجتماع مجلس الأمن القومي.

فُتحت المنابر الإعلامية في الفترة الأخيرة لمجموعة من "الخبراء الاقتصاديين المتفائلين" أو الموالين للسلطة مثلما تصفهم المعارضة، لتسويق فكرة عدم حاجة البلاد الى الاستدانة من صندوق النقد الدولي، مستندين في ذلك الى نجاحها حتى شهر سبتمبر/أيلول في تأمين سداد ديونها الخارجية المبرمجة لهذه السنة، علاوة على تحقيقها فائضا في الموازنة قيمته 58,8 مليون دينار(18,7 مليون دولار) خلال النصف الأول من 2023. منطلق هذه القراءة الوردية هي المؤشرات الصادرة عن البنك المركزي التي كشفت سداد 74 في المئة من خدمة الديون الخارجية حتى يوم 10 سبتمبر/أيلول الجاري.

فقد بلغت قيمة الديون المستحقة 6,6 مليارات دينار (2,09 مليار دولار) من مجموع 8,9 مليارات دينار ( 2,8 مليار دولار) حلت آجال استحقاقاتها خلال السنة المالية الحالية، بحسب بيانات المصرف المركزي.

مع تواصل تفاقم الديون وتحولها الى معضلة، عاد الى الواجهة الكلام عن احتمال مطالبة تونس بشطب ما يسمى بالديون الهالكة. تبيّن ذلك مثلا من خلال تصريحات سعيّد وأيضا وزير خارجيته نبيل عمار في أعمال الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك لهذه السنة.

الأرقام طبعا لا تكذب، لكن الشيطان يسكن مثلما يُقال في التفاصيل التي تتحول الى النقيض، كحال المؤشرات المالية الصادرة أخيرا وأصبحت تؤسس لسردية نجاح اقتصادي ومالي عمادها عملية "تجميل الأرقام" التي مثّلت سياسة تضليل اعتمدتها حكومة يوسف الشاهد عام 2019 مع اقتراب المواعيد الانتخابية وكان من نتائجها تعليق صرف بقية أقساط قرض الـ 2,9 مليار دولار الممنوح من صندوق النقد.

علما أن مديرة صندوق النقد كريستالينا جورجيفيا قالت الاسبوع الماضي  أن اعادة هيكلية الديون ليست مطروحة الآن، لأن البلاد ليست في وضع خطير بعد، داعية مع ذلك السلطات التونسية الى الإسراع في اتخاذ بعض الاجراءات لتعزيز وضعها المالي وادائها الاقتصادي العام.

مفاوضات مالية أم سياسية؟

لا تختلف السياقات كثيرا اليوم، اذ لا يخفى على أحد أن حملة رئاسيات 2024 انطلقت فعلا، حاملة معها هواجس المسؤولين المعنيين، من تكلفة البحث عن حصيلة او منجز سواء من خلال الايغال في تعطيل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية أو في إقرار إجراءات شعبية تتقاطع مع الزمن الانتخابي لكنها ستزيد تعميق أزمة البلاد. لذلك أصبح من شبه المؤكد ان رئيس الجمهورية قيس سعيد لن يدخل تحت سقف صندوق النقد وأنّ آفاق أي اتفاق مع هذا الصندوق، إن وجدت، لن تكون إلا على قاعدة القبول بشروطنا وليس بشروطهم مثلما أكد وزير الخارجية في حواره مع وكالة "سبوتنيك" خلال زيارته روسيا هذا الشهر.

توصّلت تونس مثلما هو معلوم خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2022 الى اتفاق على مستوى الخبراء حول قرض التسهيل الممدّد على 3 سنوات وقيمته 1.9 مليار دولار. أُدرِج الملف على جدول أعمال مجلس إدارة الصندوق للتصديق عليه في اجتماع كان مقرّرا ليوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2022. لكنه سُحِب قبل أيام قليلة من موعد الاجتماع بسبب عدم إتمام السلطات التونسية شروطا حدّدها الصندوق بما جعل ملفها وفق رئيس الوفد المفاوض مروان العباسي "غير جاهز للحصول على المصادقة النهائية".

تمثّلت تلك الشروط، بحسب العباسي، في المصادقة على الموازنة العامة لسنة 2023 واصدار التعديلات على قانون الشركات العامة في الجريدة الرسمية للدولة التونسية.

الأسباب التي قدمها العباسي، وهو أيضا محافظ المصرف المركزي، كانت صادمة نظرا الى ان القانونين كانا خلال تلك الفترة على مكتب رئيس الجمهورية ولم يكونا ينتظران إلا توقيعه من جهة، والى ان قرض الصندوق كان بمثابة استحقاق عاجل بُنيت عليه موازنة 2023 وهو مرتبط بتعبئة بقية الموارد المالية الخارجية من جهة أخرى.

الا ان المحافظ العباسي غيّب السبب الأهم عندما شرح أسباب السحب، وهو طلب الصندوق توقيع رئيس الجمهورية على "رسالة النيات" بحسب ما نقله الأمين العام لمنظمة العمال نور الدين الطبوبي عن رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن.

رواية الطبوبي لم يكذّبها أي مسؤول رسمي وإنما أكّدتها المواقف المتتالية للرئيس سعيد وأيضا زيارة مسؤول أميركي رفيع المستوى لتونس، قدّم خلال لقاءات جمعته بفاعلين وإعلاميين أسباب تعثّر الاتفاق فقال إنها لا تتعلق بالصندوق وان الكرة في ملعب الرئيس سعيّد لتحويل الاتفاق المبدئي الى اتفاق نهائي مضيفا ان واشنطن تنتظر الضوء الأخضر منه.

dpa
الرئيس التونسي قيس سعيد

توقيع رسالة النيات مع صندوق النقد الدولي، يعني الكثير بالنسبة إلى الرئيس سعيّد، فهو سيضع على المحك منظومة حكم هشّة اصبح الفاعل الوحيد فيها نتيجة فشل اقتصادي واجتماعي طيلة العقد الماضي، علاوة على أن الاتفاق بمضامينه يعني نسفا لوعوده بتعزيز الدور الاجتماعي للدولة(يبلغ عدد العاطلين عن العمل 626,1 الف شخص بحسب بيانات معهد الإحصاء في تاريخ أغسطس/آب 2023). وقال وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي في جلسة للبرلمان خلال شهر أغسطس/آب المنقضي ان 70 في المئة من حاملي الشهادات العليا عاطلون عن العمل وان أربعة ملايين تونسي يعيشون تحت خط الفقر (من مجموع 12 مليون نسمة).

نظريات رئاسية تمويلية جديدة

ثنائية مواجهة الفقر والبطالة مسألتان ذات أولوية بالنسبة الى الرئيس سعيد، فرفع الدعم الذي يُعدّ من بين أهم مضامين الاتفاق مع الصندوق غير ممكن في الواقع الحالي على الرغم من ان الحكومة أقرّت خفضا في نفقات الدعم في الموازنة بـ26,4 في المئة وهو خفض غير مسبوق ويُعدّ سابقة في تاريخ البلاد بما شكّل أحد مؤشرات بداية تنفيذ اتفاق الصندوق قبل ان يُعلن سعيد رفضه "شروط الصندوق" خلال شهر أبريل/نيسان المنقضي وجدّد الموقف نفسه في الداخل والخارج وتحديدا خلال زيارتيه لفرنسا وواشنطن.

هذا الموقف الرافض لشروط الصندوق، والمخاوف من ضرب "السلم الاجتماعي"، تحوّل تدريجيا الى موقف مناهض للصندوق وسياساته التي تتطلّب إعادة نظر بحس الرئيس  سعيّد، الذي طالب خلال مشاركته في المؤتمر الدولي عن التنمية والهجرة المنعقد في روما بإنشاء مؤسسة مالية عالمية جديدة تمول من القروض بعد الغائها ومن الأموال المنهوبة بعد استرجاعها. واعتبر ان من شأن هذه الخطوة المساهمة في إرساء نظام انساني جديد.

ويقدّر الرئيس سعيّد فعلا ان ذلك قد يشكل البديل من النظام المالي الحالي بالنسبة الى الدول التي كبّلتها الديون. فسيرتفع حجم الدين العام بحسب تقديرات وزارة المالية، الى 124,5 مليار دينار (39,2 مليار دولار) في نهاية العام الحالي وسط اجماع على ان سياسة الاستدانة تحوّلت الى معضلة وخصوصاً أنها مخصصة للنفقات ولشراء السلم الاجتماعي خلال عشرية ما بعد الثورة.  

مع تواصل تفاقم الديون وتحولها الى معضلة، عاد الى الواجهة الكلام عن احتمال مطالبة تونس بشطب ما يسمى بالديون الهالكة. تبيّن ذلك مثلا من خلال تصريحات سعيّد وأيضا وزير خارجيته نبيل عمار في أعمال الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك لهذه السنة.

وكان سعيّد طالب من واشنطن في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي بإسقاط ديون الدول الافريقية ومنها تونس مشدّدا على انها تراكمت منذ عقود.

وكشف رئيس اللجنة المالية في البرلمان عصام شوشان في شهر أغسطس/آب الماضي ان حجم القروض والهبات التي تلقتها الدولة من عام 2011 إلى عام 2021 بلغ  113,3 مليار دينار ( 36,6 مليار دولار) وان شبهات فساد تحوم حول بعضها. مصدر المعطيات المذكورة  تقرير "استقصائي" كلّف الرئيس سعيّد وزيرة الماليةسهام نمصية إعداده منذ أغسطس/آب 2021. وكانت الوزيرة نفسها حذرت في البرلمان من أن التخلّف عن سداد قرض يعني اعلان افلاس الدولة.

وعرفت تونس على مدار تاريخها صدقيتها في الأسواق المالية الدولية مثلما يقول خبراء الاقتصاد عبر التزامها سداد ديونها في اجالها من دون ان تتخلّف ولو مرة واحدة.

في العودة الى سعيّد، يتبيّن من تصريحاته وتصريحات محيطه ان استرجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة الى الخارج (لا وجود لأرقام رسمية حول قيمتها وتقدّر تقريبا بحسب منظمات دولية ومحلية بـ 20 مليار دولار) واعتماد البلاد على ثرواتها سيُغنيانها عن الاستدانة من اية جهة كانت وفي مقدمتها صندوق النقد. فالرئيس يُحيل دائما على "أحداث الخبز" الشهيرة عام 1984 التي خلّفت عشرات القتلى اثر احتجاجات عرفتها مختلف محافظات البلاد بسبب رفع الدعم.

لا بد من المرور عبر الصندوق لتفعيل وعود المانحين الخليجيين الذين يشترطون من جهتهم إصلاحات واتفاقا مع صندوق النقد ضمن سياساتهم الجديدة، وهو شرط الاتحاد الأوروبي نفسه الذي كان قد تعّهد بتقديم دعم بـ 900 مليون يورو يبقى تفعيله رهن الاتفاق مع الصندوق

اللافت ان سعيّد أدرج ملف تعبئة موازنة العام 2024 ضمن اجتماع مجلس الأمن القومي وذلك للمرة الأولى في تاريخ البلاد، مؤكدا ان البلاد لن تفرط في سيادتها الوطنية "أبدا" وانها ستتجه الى التعويل على الذات وقال ان كلامه "موجه الى وزيرة المالية والى كل العالم". هذا يعني طلاقا مع النقد الدولي على الرغم من أن حكومته تشدّد على ان لا بديل من الاقتراض من الصندوق.

مؤشرات عديدة تؤكد هذا التوجه أهمها على الاطلاق إعلان سعيّد اعتزامه ادخال تعديل على القانون الأساسي للمصرف المركزي الذي منحه استقلالية، مما يعني عمليا منع الاقراض المباشر للدولة. ويرى سعيد ان ذلك تسبب في تضخّم الفائدة على مستوى نسب الفائدة لحساب المصارف التي تمكّنت من تحقيق أرباح قياسية.

AFP
تجمع لموظفي المخابز أمام مقر وزارة التجارة في تونس العاصمة في 7 أغسطس 2023

للتذكيرض، فقد حصل تعديل عام 2016 في سياق مشاورات الحصول على قرض من الصندوق، منح المصرف المركزي الاستقلالية. ذلك التعديل معروف في تونس بالفصل 25 وكان من بين شروط استكمال الاتفاق على أضخم قرض حصلت عليه البلاد على امتداد تاريخها (2,9 مليار دولار).

لا قروض بلا اتفاق

فشلت السلطات التونسية في تعبئة الموارد المضمّنة كقروض خارجية ضمن موازنة الدولة لعام 2023. فحسب وثيقة تنفيذ الموازنة للنصف الأول الصادرة عن وزارة المالية بلغت قيمة القروض الخارجية التي تم تحصيلها 2710,3 مليون دينار (853,5 مليون دولار) فيما قدّرت وزارة التخطيط والاقتصاد حاجات الدولة من الاقتراض الخارجي لهذا العام بـ 14.2 مليار دينار (4,47 مليارات دولار). 

ويُعزى هذا التعثّر الى عدم التوصّل الى اتفاق مع الصندوق الذي كان سيفتح باب الاقتراض الخارجي لتجميع نحو 3 مليارات دولار مع  شبه استحالة الخروج للاقتراض من السوق المالية الدولية. وحسب تقرير صادر في شهر اغسطس/آب الماضي عن المنظمة  الالمانية  "روزا لكسمبورغ افريقيا"، فإن سعر الفائدة على قروض تونس الجديدة من السوق المالية الدولية لن يقل عن 50 في المئة، بما يعني انه لن يكون امام تونس مقصد آخر للاقتراض إلا من الصندوق.

لا بد من المرور عبر الصندوق لتفعيل وعود المانحين الخليجيين الذين يشترطون من جهتهم إصلاحات واتفاقا مع صندوق النقد ضمن سياساتهم الجديدة، وهو شرط الاتحاد الأوروبي نفسه الذي كان قد تعّهد بتقديم دعم بـ 900 مليون يورو يبقى تفعيله رهن الاتفاق مع الصندوق.ويحذّر مسؤولوه من انهيار مالي واقتصادي في تونس بسبب عدم انخراطها في الإصلاحات.

الهجرة والهرولة الأوروبية

منذ بداية تفاقم أزمة المهاجرين غير النظاميين، حاولت عواصم أوروبية الضغط على تونس للمضي قدما في توقيع اتفاق مع النقد الدولي. وتحوّلت روما مثلا الى مفاوض باسم الدولة التونسية والتقى وزير خارجيتها بنظيره الأميركي في واشنطن خلال شهر يونيو/حزيران الماضي من دون ان يشهد الملف أي تطوّر باستثناء ما تم تداوله في الكواليس في خصوص إعادة جدولة زمنية لتنفيذ الإصلاحات التي تتمحور حول تجميد الأجور وتقليص عدد موظفي الدولة الذي يتجاوز الـ600 الف ورفع الدعم عن المحروقات والمواد الاستهلاكية وتقليص النفقات وتخصيص الشركات العمومية.

فوتت تونس فرصة تقديم برنامج تونسي - تونسي بما ينهي سردية "إملاءات الصندوق وشروطه المجحفة"، على الرغم من ان أعضاء الوفد المفاوض الذي يضم محافظ المصرف المركزي ووزيرة المالية ووزير الاقتصاد أجمعوا على أن البرنامج تونسي وعلى أن 400 كفاءة من الإدارة التونسية أشرفت على اعداده

ورحبت الولايات المتحدة الاميركية على لسان وزير خارجيتها بالقول إنه اذا قدمت الحكومة التونسية الى الصندوق خطة اصلاح معدّلة فيمكن للصندوق أن يعمل عليها. وكانت وكالة "رويترز" أعلنت هذا التعديل على برنامج الاصلاحات خلال الشهر نفسه على لسان "مسؤول رفيع المستوى" لم تذكر هويته. وألمح رئيس الوفد المفاوض مروان العباسي إلى أن تونس تعمل مع الصندوق على برنامج عادل.

الا ان هذه التعديلات لم تُدرج البتة وليست حتى محل نقاشات. وفوتت تونس فرصة تقديم برنامج تونسي - تونسي بما ينهي سردية "إملاءات الصندوق وشروطه المجحفة"، على الرغم من ان أعضاء الوفد المفاوض الذي يضم محافظ المصرف المركزي ووزيرة المالية ووزير الاقتصاد أجمعوا على أن البرنامج تونسي وعلى أن 400 كفاءة من الإدارة التونسية أشرفت على اعداده.

يحذّر الخبراء الاقتصاديون والماليون من خطورة الغموض وتضارب المواقف وعدم الانسجام بين الحكومة والرئاسة في المفاوضات مع صندوق النقد بشكل سيُفقد تونس صدقيتها مع الجهات والمؤسسات المالية الدولية المانحة. وبين احتمال الطلاق والاتفاق مع الصندوق يبدو الإتجاه نحو المنحى الأول، في غياب بديل "سياسي إنتخابي" للتوصل الى اتفاق الضرورة بعد انسداد السبل للخلاص الاقتصادي.

font change

مقالات ذات صلة