صندوق النقد والمغرب قصة عمرها 65 سنة

التلميذ النجيب الذي نجح في تحويل الدعم المالي إلى تنمية اقتصادية وتوسع استثماري

صندوق النقد والمغرب قصة عمرها 65 سنة

يعتبر المغرب من أهم وأقدم شركاء البنك الدولي في منطقة شمال أفريفيا والشرق الأوسط، وتعود علاقتهما إلى 65 سنة. وتحتل الرباط المرتبة التاسعة عالميا في حجم التمويل والدعم المالي، ومواكبة برامج التنمية، وصد الصدمات الخارجية، والمساعدة في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، بتمويلات تراوحت بين 600 مليون ومليار دولار سنويا في إطار برامج الدعم القُطري الاستراتيجي.

استنجد الاقتصاد المغربي خمس مرات بصندوق النقد الدولي منذ انضمامه إلى المؤسسة عام 1958، وكانت البداية مع إصدار العملة الوطنية، الدرهم، نهاية خمسينات القرن الماضي، وتواصلت مطلع الثمانينات مع برامج التقويم الهيكلي (Programme d’Ajustement Structurel) على مدى عشر سنوات. وكان الاستنجاد الثالث مع الأزمة العالمية بسبب الرهن العقاري وتداعيات الربيع العربي عام 2010.

واستمر دعم صندوق النقد مطلوبا في أزمتي جائحة كوفيد-19، وتأثيرات الحرب الروسية في أوكرانيا وأزمة تضخم الأسعار والإمدادات عام 2022. ويصف صندوق النقد الدولي المغرب بـ"التلميذ النجيب"، في إشارة إلى نجاحه في تحويل الدعم المالي إلى تنمية اقتصادية وتوسع استثماري وزيادة في الثروة.

مراكش الساحرة الناهضة بعد الزلزال الأخير

عندما قرر الملك الراحل محمد الخامس إنشاء مصرف مركزي مستقل عن فرنسا عام 1958، واجه صعوبات نقدية في تغطية قيمة العملة الجديدة، الدرهم، المستوحاة من التراث العربي الإسلامي. كانت فرنسا تعارض بشدة خروج المغرب من دائرة الفرنك خوفا من تمرد نقدي مماثل في مستعمرات سابقة. أصر الملك على الاستقلال النقدي والمالي الكاملين، فتم شراء الحصص الفرنسية في رأس مال "البنك المخزني المغربي"، الذي كان يصدر عملة الفرنك منذ عام 1912 بعد موافقة مؤتمر الجزيرة الخضراء في إسبانيا عام 1906، بدعوى تخلف المملكة عن تسديد ديون فرنسية أنفقت على بناء مرفأ الدار البيضاء.

لم يعد المغرب بالنسبة إلى الصندوق مجرد "زبون"، بل أصبح قائد تجربة ورهان جيواستراتجي في كل منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لتعميم الاستقرار السياسي واجتذاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والاندماج في الاقتصاد الدولي 

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1959، تم تدشين المصرف المركزي، "بنك  المغرب" (BankAl Maghreb)، الذي أصدر أوراقا  نقدية جديدة، باسم الدرهم المغربي، طبعت في سويسرا، عليها صورة الملك. وكان سعره  يوازي 1,20 فرنك فرنسي. لعب بيار جايكبسون، مدير صندوق النقد الدولي آنذاك، دورا حاسما في منح المغرب الغطاء النقدي المطلوب بقيمة 25 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة. شهدت العلاقة بين فرنسا وصندوق النقد مرحلة فتور وشبه قطيعة، وتم اتهام مدير مكتب  باريس، جان فيكتور ملاذيك، بتسريع خروج المغرب من دائرة الفرنك وتسهيل حصوله على دعم واشنطن ومجلس المحافظين في مؤسسة "بريتون وودز".

تفيد بعض الروايات أن شخصيات يهودية مرموقة من عالم المال والأعمال، لعبت دورا (في الخفاء) لمساعدة المغرب في تكريس استقلاله الاقتصادي عن فرنسا، كنوع من رد الجميل للملك محمد الخامس الذي رفض تسليم بعض اليهود المغاربة والجزائريين إلى حكومة فيشي، التي كانت متحالفة مع النازيين في الحرب العالمية الثانية.  

مند ذلك التاريخ، توطدت العلاقة مع صندوق النقد الدولي ومجموعة "بريتون وودز"،وتكررت حالات الاستنجاد بالمجموعة عند كل أزمة عالمية طارئة. وغالبا ما كان يتم التساهل ماليا مع المغرب قياسا بدول أخرى لديها صعوبات مماثلة، لاعتبارات كانت توصف دوما بالتاريخية.

برنامج التقويم الهيكلي

توسع الاقتصاد المغربي، كغيره من الدول العربية، في سبعينات القرن الماضي، مستفيدا من ارتفاع أسعار الفوسفات والمواد الأولية والمعادن والسياحة بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وأزمة الطاقة. توسعت الاستثمارات العمومية والاقتراض الخارجي للبنى التحتية وزادت الأجور والاستهلاك وتضاعف الدخل الفردي، لكن أسعار المواد الأولية انهارت في السوق الدولية مطلع الثمانينات، وفوجئ المغرب بعسر مالي غير مسبوق. ارتفع عجز الموازنة إلى 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفاق التضخم 10 في المئة، وتجاوز عجز التجارة الخارجية 12 في المئة بعد تبخر الاحتياطي النقدي وانهيار قيمة العملة. فكان من الضروري الاستنجاد بصندوق النقد الدولي من جديد.

Alex William

لكن الأيام والأجيال تغيرت، وتم فرض برنامج التقويم الهيكلي الصعب التحمل في الفترة 1983-1993، في مقابل تسهيلات مالية من حسابات حقوق السحب الخاصة. وتم إخضاع إعداد الموازنة السنوية إلى نوع من الرقابة باسم رسائل النوايا.تقلصت نفقات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والتوظيف، وارتفعت البطالة والأسعار والضرائب والانقطاع الدراسي، وزادت الهجرة القروية والقلاقل الاجتماعية والإضرابات والاحتجاجات العمالية التي كانت تعارض برامج الخصخصة وبيع جزء من شركات القطاع العام لتقليص العجز المالي.

ويعتقد نيكولا بلنشيه، الرئيس السابق لقسم المغرب العربي في صندوق النقد الدولي، في حديث سابق مع "المجلة"، أن تلك النصائح كانت في مجملها خاطئة، لأنها كانت تضع الأهداف المالية والحسابات الماكرو-اقتصادية قبل تعليم الإنسان وصحته. وتزامنت تلك المرحلة مع حرب باردة بين الشرق والغرب، وجد المغرب فيها نفسه في لعبة الاستقطاب، بعدما تمت إضافة اسمه إلى قائمة الدول الـ17 التي تقرر منحها تسهيلات مالية في مقابل إصلاحات هيكلية، وجدولة ديونها الخارجية. كان الدعم لأسباب إيديولوجية وليست اقتصادية في عهد الرئيس رونالد ريغان في واشنطن، ورئيسة الوزراء مارغريت تاتشر في لندن، وحلف الليبيرالية غير المحدودة. يقول بلنشيه "إن جيل العاملين في 'بريتون وودز' كانوا من المدرسة المنغلقة على نفسها التي تسببت في مشاكل اجتماعية في كثير من دول العالم الثالث".

ينصح الصندوق بمواصلة الانفتاح على فرص الاستثمار الخارجي في المجالات الواعدة مثل الطاقات المتجددة والصناعات المتطورة واعتماد التكنولوجيا وتحسين مناخ الأعمال ورقمنة الإدارة ومراجعة القوانين المتقادمة البالية، لتحديث أسس اقتصاد عصري وأكثر ديناميكية

أطلق على تلك المرحلة الحالكة من تاريخ المغرب الاقتصادي والاجتماعي بـ"زمن السكتة القلبية"، كما وصفها الملك الراحل الحسن الثاني، في إحدى رسائله إلى رئيس البنك الدولي، جيمس وولفنسون، عاش خلالها المغرب سلسلة من الاضطرابات الاجتماعية العنيفة بين عامي 1981 و1990، باسم انتفاضات الخبز التي طالت كل دول شمال أفريقيا من الجزائر إلى مصر مرورا بتونس، وكل هذه الدول كانت تحت وصاية برامج التقويم الهيكلي مع صندوق النقد الدولي. 

"الربيع العربي"

تحسن الوضع الاقتصادي بين عامي 1968 و2011، وارتفع الدخل الفردي من 220 دولارا إلى 3000 دولار، وزاد متوسط العمر من 48 سنة عام 1960 إلى 75 سنة عام 2015. لكن "الربيع العربي"، وقبله الأزمة المالية العالمية عام 2008، لم يساعدا في الحفاظ على معدلات النمو التي كانت تقدر بـ5 في المئة في العقد الأول من الألفية الثالثة، وتعد من بين الأفضل في العالم.

فجأة، تدهورت الموازنة المغربية بعد أزمة الرهن العقاري ودومينو سقوط المصارف الأميركية والأوروبية وإفلاسها. ارتفع العجز المالي إلى 7,5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، واقترب عجز ميزان المدفوعات الخارجية من 10 في المئة، وظهرت الصعوبات المالية وتداعياتها الاجتماعية، في وقت تصاعد لهيب حريق الربيع العربي من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، ومن لم يحترق بيته وصله دخان الجيران.

سارع صندوق النقد الدولي في صيف 2011 إلى  اقتراح خطوط سيولة ائتمانية (Precautionary and Liquidity Line - PLL) بسقف 14 مليار دولار، ولمدة سنتين قابلة للتجديد، لتغطية الأخطار الخارجية وعدم اليقين في الأسواق الدولية. هذه المرة جاءت المبادرة من "بريتون وودز" في واشنطن بعد إقرار دستور جديد في المملكة، يتضمن إصلاحات كبيرة في مجال الحوكمة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وأعلن صندوق النقد الدولي أنه يدعم التجربة المغربية ويراهن على نجاحها وتعميمها إلى كل المنطقة بعد انقشاع دخان حرائق الجيران. لم يعد المغرب بالنسبة إلى الصندوق مجرد "زبون"، بل أصبح قائد تجربة ورهان جيواستراتجي في كل منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لتعميم الاستقرار السياسي واجتذاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والاندماج في الاقتصاد الدوليوالافادة من العولمة والتجارة العالمية.

Alex William

واعتبر الصندوق نجاح تجربة المغرب في صناعة السيارات وأجزاء الطائرات التي انفرد بها في المنطقة العربية وأفريقيا من إيجابيات الانفتاح على الاستثمار الخارجي والعولمة. ولم يتوان الصندوق عن تغطية نصائح سلبية قديمة بأفكار جديدة، نضجت مع الزمن من تجربة الآخرين والتعامل معهم. حتى أن أحد الخبراء كشف أن الصندوق استلهم كثيرا من الأفكار المغربية في مجال التنمية المستدامة والبنى التحية والاقتصاد الاستباقي، اعتمدها الصندوق كنصائح لتطوير قدرات اقتصادات دول أخرى.

مع مرور الزمن، فقد صندوق النقد تأثيره على المغرب بعد الاستغناء عن استخدام حقوق السحب الخاصة، ونجاحه في تحقيق مناعة اقتصادية بالاعتماد على الذات والخبرات المحلية في مجالات يسعى الصندوق إلى إشراك المغرب في تطويرها في مناطق أخرى، خصوصا أفريقيا جنوب الصحراء. وكانت الفرصة مواتية زمن جائحة كوفيد-19 عندما انتقد البنك الدولي سلوك الدول المتقدمة وجشعها وأنانيتها في توزيع اللقاحات. في المقابل دعم مشاريع المغرب في إنشاء وحدات صناعية صيدلانية لإنتاج الأدوية واللقاحات المختلفة لتغطية حاجة القارة السمراء التي حرمت منها زمن "كوفيد". 

عودة الأزمات

بعد تسع سنوات من "الربيع العربي"، حلت جائحة كوفيد-19 بكل متاعبها، إذ انكمش النمو للمرة الأولى 7 في المئة، وعجز الموازنة 8 في المئة، وتدهور ميزان المدفوعات الخارجية من جديد بارتفاع العجز التجاري وشح عائدات السياحة المتوقفة في كل العالم.

استخدم المغرب هذه المرة الخط الائتماني الوقائي من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار لمواجهة إغلاق الحدود وتوقف السياحة. لكنه لم يستخدم فعليا من هذه التمويلات سوى ملياري دولار بعد تحسن الاقتصاد عام 2021 وتحقيق نمو بنسبة 8 في المئة بعد ضخ تمويلات محلية إضافية بقيمة 13 مليار دولار لإنعاش الاقتصاد وسوق العمل.

لكن الأزمة تكررت مع شح الأمطار وتراجع الإنتاج الزراعي وارتفاع الأسعار الدولية عام 2022، مما اضطر المغرب إلى طلب خط ائتماني مرن (Flexible Credit Line - FCL) بقيمة 5 ملياراتدولار يمكن استخدامه عند الحاجة، لمواجهة تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا ومشكلة الإمدادات. سبق ذلك إخراج المغرب من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالية في باريس كشرط أولي للحصول على الدعم.

لكن تكلفة تحرير الأسعار، خصوصا المحروقات، كان لها تأثير سلبي على الأسعار والتضخم وأضرت بالطبقات الوسطى التي اكتوت أيضا بأسعار الفائدة المصرفية المرتفعة، حيث كان الصندوق يربط كل دعم مالي بتحرير الاقتصاد وبزيادة مساحة اقتصاد السوق.

نصائح الصندوق   

حاليا، يضغط الصندوق على الرباط لتوسيع مجالات تحرير سعر صرف الدرهم، إلا أن المصرف المركزي يعتقد أن الظرف الدولي غير مساعد لمزيد من التعويم بعدما بلغ 10 في المئة على مرحلتين، 5 في المئة صعودا أو هبوطا. وقال محافظ المصرف المركزي عبد اللطيف الجواهري لـ"المجلة" إن المملكة لا تقبل أي ضغط أو إكراه في مجال حرية الصرف؛ "نحن نتحين الفرص المناسبة لتوسيع الهامش كلما تحسنت الأوضاع الدولية، لنا احتياط نقدي يكفي 7 شهور من الواردات". لافتا إلى "أن التعويم قد يستغرق في المتوسط 15 إلى 20 سنة، نحن غير متسرعين ولنا خطتنا وقرار وتيرة سرعتها، ونتجه حاليا نحو إصدار عملة رقمية يمكن اعتمادها في المعاملات التجارية والمصرفية كافة".

عند استعراض تاريخ علاقة المغرب بصندوق النقد والبنك الدوليين على مدى 65 سنة، يظهر المغرب مستفيدا من هذه العلاقة، كان مجموع الناتج المحلي الإجمالي يقدر بملياري دولار عام 1960، وقارب 140 مليار دولار عام 2022، أي خلال جيلين ونصف الجيل

وكان الدرهم مر بمراحل عدة شملت فك الارتباط مع الفرنك الفرنسي عام 1959، تلاه تحديد قيمة العملة مع دول السوق الأوروبية المشتركة عام 1973 بعد ارتفاع قيمتها، ثم إصدار سلة عملات مرجعية يستند إليها الدرهم في تحديد قيمته في التعاملات المصرفية عام 1990، وتغيير تلك العملات ونسبتها في السلات الجديدة المعتمدة منذ عام 2005 على أساس نسبة 60 في المئة لليورو  و40 في المئة للدولار. 

وتعتقد مصادر وزارة المال والاقتصاد أن 85 دولة في العالم تعتمد نظام الصرف المتحرك، معظمها دول الاقتصاد الحر والدول المتقدمة، بينما تعتمد 65 دولة على نظام الصرف الثابت. لذلك، اختار المغرب نظام الصرف المتحرك بحكم موقعه الجغرافي واندماجه في الاقتصاد العالمي وعضويته في منظمة التجارة العالمية واتفاقات التبادل التجاري الحر مع 56 دولة.

وينصح الصندوق بمواصلة الانفتاح على فرص الاستثمار الخارجي في المجالات الواعدة مثل الطاقات المتجددة والصناعات المتطورة واعتماد التكنولوجيا وتحسين مناخ الأعمال ورقمنة الإدارة ومراجعة القوانين المتقادمة البالية، لتحديث أسس اقتصاد عصري وأكثر ديناميكيةمع تحسين التوازنات الكلية وخفض المديونية إلى ما دون الـ60 من المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وسيكون موضوع توجيه الدعم المباشر إلى الفئات المستهدفة والتخلي عن دعم الأسعار أحد اكبر التحديات لمعالجة الفقر والهشاشة.

في المقابل، يتعين على المغرب محاربة الفساد، ومواصلة إصلاح التعليم والصحة، ومعالجة سوق العمل، وخفض مستوى بطالة الشباب والمرأة، وتقليص الفوارق الاجتماعية، وتعزيز دور الدولة في تكافؤ الفرص، وتطوير دور القطاع الخاص في مجموع الاستثمار عبر تسهيل آليات التمويل، ودعم مشاريع الشباب والمبادرات الفردية والشركات الناشئة.

حصيلة تجربة رائدة

عند استعراض تاريخ علاقة المغرب بصندوق النقد الدولي على مدى 65 سنة، يظهر المغرب مستفيدا من هذه العلاقة، وكذلك مع البنك الدولي. كان مجموع الناتج المحلي الإجمالي يقدر بملياري دولار عام 1960، وقارب140مليار دولار عام 2022، أي خلال جيلين ونصف الجيل.في حساب الربح والخسارة، كانت الرباط رابحة من تلك العلاقة والنصائح، وهي حصيلة إيجابية للطرفين، سيقدمانها معا بلغات مختلفة وصور مشتركة أمام العالم في مراكش.

"أنظروا ما حققه المغرب من تنمية بالتعاون معنا". بعض من الدعاية وكثير من الحقيقة.

font change

مقالات ذات صلة