المشهد السياسي الأوروبي في ضوء الحرب الأوكرانية

منعكسات حرب غزة على حلفاء كييف

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

المشهد السياسي الأوروبي في ضوء الحرب الأوكرانية

كان الهدف الأول للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من إطلاقه للغزو العسكري على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 تحقيق السيطرة على البلاد في غضون ثلاثة أيام، والإطاحة بالحكومة الحالية، وإقامة نظام جديد يكون مواليا للكرملين.

ولتحقيق هدفه، قامت روسيا بتجميع قوة قوامها نحو 200 ألف جندي على حدود أوكرانيا، استعدادا للمشاركة في أكبر هجوم على دولة أوروبية يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك، مع وصول الحرب إلى ذكراها السنوية الثانية عام 2024، تظل آمال موسكو في تحقيق أهدافها الحربية الأولية بعيدة المنال كما كانت دائما. وبصرف النظر عن استكمال غزو أوكرانيا، فقد أصبحت الجهود العسكرية الروسية غارقة في حرب استنزاف مكلفة، حيث لا يمكن لأي طرف تحقيق اختراق حاسم فيها.

من ناحية أخرى، ومع تكبد الجانبين خسائر كبيرة، سواء من حيث الرجال أو المعدات، يبدو أن حرب أوكرانيا ستتحول إلى مجرد صراع آخر من الصراعات "المجمدة" في العالم، خاصة وأن موسكو وزعيم أوكرانيا في زمن الحرب، الرئيس فولوديمير زيلينسكي، لم يبديا أي رغبة في مفاوضات سلام لحل الصراع.

وفي الواقع، ستدخل الحرب بين روسيا وأوكرانيا ذكراها العاشرة عام 2024، منذ أن شنت القوات الروسية هجومها الأول للاستيلاء على شبه جزيرة القرم ومساحات واسعة من شرق أوكرانيا في ربيع عام 2014.

ومنذ ذلك الحين، انخرط الجانبان في حملة دموية لا هوادة فيها للسيطرة على المناطق المتنازع عليها، وهي الحملة التي أدت في النهاية إلى قرار بوتين بإطلاق خطته الطموحة للسيطرة على أوكرانيا بأكملها عام 2022 من خلال ما سماه "العملية العسكرية الخاصة".

ولكن مع اقتراب الحرب من ذكراها السنوية الثانية، لا يبدو أن أيا من الطرفين على استعداد للتوصل إلى تسوية، على الرغم من تعرض الزعيمين لضغوط متنوعة للقيام بذلك.

ويأتي أكبر تهديد يواجهه زيلينسكي في سعيه لمواصلة الصراع حتى تحرير كل شبر من الأراضي الأوكرانية التي تحتلها روسيا من حلفائه في الغرب، الذين- وعلى الرغم من تزويدهم لكييف بالأسلحة اللازمة لمواصلة جهدها العسكري ضد روسيا- فإنهم يعانون بشكل متزايد من إرهاق الحرب.

وعلاوة على ذلك، أدى اندلاع الصراع في غزة بين إسرائيل و"حماس" في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى تقويض رغبة القادة الغربيين الرئيسين في الحفاظ على دعمهم لزيلينسكي، إذ أدى هذا الصراع إلى تحويل انتباه العالم بعيدا عن أوكرانيا.

هناك عامل آخر سيكون له تأثير مباشر في قدرة أوكرانيا على مواصلة القتال، وهو قدرة حلفاء كييف الغربيين على الاستمرار في شحن الأسلحة بنفس المستوى السابق

وفي واشنطن، كانت إدارة بايدن تتعرض بالفعل لضغوط لإعادة تقييم دعمها للقضية الأوكرانية قبل وقت طويل من شن "حماس" هجومها المدمر ضد إسرائيل، والذي أسفر عن مقتل ما يقدر بنحو 1200 إسرائيلي واحتجاز 240 آخرين أو نحو ذلك كرهائن.
وبينما واصل الرئيس الأميركي جو بايدن إصراره على دعم أوكرانيا "طالما اقتضت الضرورة ذلك"، فإن نهجه تعرض للتقويض باستمرار من قبل الكونغرس، حيث أعرب عدد متزايد من الجمهوريين والديمقراطيين عن مخاوفهم بشأن نهج "الشيك على بياض" الذي تتبعه واشنطن في تقديم المساعدات إلى كييف.

Eduardo Ramon

ومع انطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية لعام 2024، فإن بايدن لن يرغب في تطور الأزمة الأوكرانية إلى قضية سياسية رئيسة. وبناء على ذلك، قامت إدارته بتكثيف ضغوطها على زيلينسكي لدراسة الخيارات المتاحة لإنهاء الصراع. وتحول النقاش حول المساعدات المقدمة إلى أوكرانيا بالفعل إلى قضية حزبية، حيث بات الناخبون الجمهوريون مدفوعين لمشاركة الرئيس السابق دونالد ترمب، المرشح الأقوى لحزبهم لمنصب الرئيس في العام المقبل، في تساؤلاته وشكوكه العلنية حول سبب استمرار واشنطن في تقديم المساعدات لأوكرانيا. أما الديمقراطيون، فكانوا على النقيض من ذلك، إذ استمروا في تقديم الدعم على نطاق واسع.
هناك عامل آخر سيكون له تأثير مباشر في قدرة أوكرانيا على مواصلة القتال، وهو قدرة حلفاء كييف الغربيين على الاستمرار في شحن الأسلحة بنفس المستوى السابق. وكما أوضح الأدميرال روب باور، وهو أعلى مسؤول عسكري في حلف شمال الأطلسي، أمام منتدى وارسو الأمني في أكتوبر/تشرين الأول، فإن "ذخيرة القوى العسكرية الغربية التي يمكن إرسالها إلى أوكرانيا بدأت تنفد إلى حد كبير جدا".
ولا تعاني روسيا من نقص الأسلحة الذي شهده الغرب، إذ كانت أكثر استعدادا للاستثمار بشكل كبير في الجهود الحربية، حيث يمثل الإنفاق العسكري ما يقرب من 40 في المئة من ميزانيتها الوطنية. علاوة على ذلك، عُززت قدرة بوتين على تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد حربي من خلال القرار الذي اتخذه في نهاية عام 2023 بزيادة حجم الجيش الروسي بـ170 ألف جندي إضافي، مما يزيد بشكل كبير من تفوقهم العددي على خصومهم الأوكرانيين.
كما أن هناك ميزة هامة أخرى تتمتع بها روسيا على حساب أوكرانيا، ألا وهي وجود انقسامات عميقة داخل أوروبا بشأن دعمها لأوكرانيا؛ إذ واجه أولاف شولتز، المستشار الألماني، ضغوطا مستمرة من داخل ائتلافه الحاكم لتخفيف الدعم المقدم لكييف، إلى درجة أن صحيفة "بيلد" الألمانية أفادت في ديسمبر/كانون الأول 2023 بأن برلين تعمل بالتعاون مع واشنطن على وضع خطة ألمانية أميركية "سرية" لإجبار أوكرانيا على الدخول في محادثات سلام مع موسكو من خلال تقليص شحنات الأسلحة المرسلة إلى كييف.

مع التراجع المتسارع في عدد السكان، تصبح معظم دول أوروبا في حاجة ماسة إلى تدفق المهاجرين المستمر للمحافظة على نموها الاقتصادي

ومن المؤكد أن أي محاولة من جانب الغرب في عام 2024 لإجبار أوكرانيا على التفاوض لإنهاء الأعمال العدائية ستعود بالفائدة على روسيا؛ إذ ليس لدى بوتين أي نية لتقديم أي تنازلات إقليمية كبيرة لصالح كييف. وبعد إحياء الحظوظ العسكرية الروسية في أوكرانيا قرب نهاية عام 2023، لن يكون لدى بوتين أي اهتمام بالانخراط في محادثات سلام هادفة حتى صدور نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، فهو يعتقد أنه من المرجح أن يحصل على صفقة أفضل إذا عاد ترمب إلى الرئاسة.
إن الضغط الكبير الوحيد الذي سيتعرض له بوتين لإنهاء الحرب سيكون من الروس المنتقدين للصراع، وخاصة عائلات الضحايا الروس الذين يقدر عددهم بنحو 200 ألف شخص، والذين يسعون لتجنب إراقة المزيد من الدماء. وقد يتعرض أيضا لضغوط للتفاوض في حال حدوث تراجع حاد في الاقتصاد الروسي. ولكن حتى الآن تمكن الكرملين من الصمود في وجه تأثير العقوبات الدولية المفروضة بسبب أوكرانيا.
ومع تراجع الدعم الغربي لأوكرانيا، سيرغب بوتين في مواصلة الحملة العسكرية الروسية لأطول فترة ممكنة، وخاصة أنه كلما طال أمد الحرب، زاد احتمال تعزيز الانقسامات داخل التحالف الغربي بشكل أكبر.
وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ فبصرف النظر عن الاختلافات الكبيرة في الرأي بينهم حول دعم الكتلة المستمر لأوكرانيا، فإن هذه الدول تكافح أيضا لتشكيل جبهة موحدة لمعالجة قضية الهجرة غير الشرعية، وهي قضية شائكة من شأنها أن تتسبب في المزيد من التوتر عام 2024؛ إذ أصبحت قضية الهجرة في كثير من دول الاتحاد الأوروبي، قضية مثيرة للانقسام خلال العقد الماضي، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن الغالبية العظمى من الأوروبيين يعارضون بشدة التدفق الهائل للمهاجرين غير الشرعيين باتجاه القارة، خاصة مع وصول أغلبهم إلى جنوب أوروبا قادمين من شمال أفريقيا.
ومع التراجع المتسارع في عدد السكان، تصبح معظم دول أوروبا في حاجة ماسة إلى تدفق المهاجرين المستمر للمحافظة على نموها الاقتصادي؛ إذ من المتوقع أن ينخفض عدد سكان الاتحاد الأوروبي من 453 مليون نسمة عام 2026 إلى 420 مليونا مع نهاية القرن. وبحلول تلك المرحلة، سيتقلص عدد السكان القادرين على العمل (المرحلة العمرية القادرة على العمل) إلى 50 في المئة من الإجمالي بعد أن كان 59 في المئة.

بموجب الخطط التي اقترحتها حكومة المملكة المتحدة، ستتم زيادة عتبة الأجور للعاملين الأجانب اعتبارا من ربيع عام 2024 بنسبة تقارب 50 في المئة

ومع ذلك، بينما يُعتبر الحفاظ على تدفق مستمر للمهاجرين أمرا أساسيا لتحقيق الرفاهية الاقتصادية في معظم الدول الأوروبية، يبقى الرأي العام معارضا للتدفق الكبير للمهاجرين إلى بلدانهم، بالأخص مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين الذين يشقون طريقهم إلى أوروبا؛ إذ أشارت التقديرات في عام 2023 إلى وصول نحو 250 ألف مهاجر غير شرعي إلى الاتحاد الأوروبي.
وبينما تمكنت أخيرا الدول السبع والعشرون الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من التوصل في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى مقاربة جديدة لقضية الهجرة واللجوء لمعالجة هذه الأزمة، بهدف إصدار تشريعات جديدة لمواجهة الهجرة غير الشرعية، ساهمت هذه القضية بالفعل في تفاقم الانقسامات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والتي نشأت بسبب أزمة أوكرانيا وقضايا أخرى، مثل أزمة تكلفة المعيشة وقضية الإجهاض. وتثير هذه التوترات مخاوف مبررة من تشكل تحديات صعبة للمفوضية الأوروبية في العام المقبل.
وقد شهدت الانتخابات الأخيرة في بولندا وسلوفاكيا، على سبيل المثال، ازديادا في الدعم للأحزاب الشعبوية القومية، وهو ما هدد بالمزيد من الضغط على الوحدة الهشة للاتحاد الأوروبي بشأن الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا. واتهم الزعيم المجري المناهض للهجرة، فيكتور أوربان، الاتحاد الأوروبي بمحاولة فرض اتفاق جديد للهجرة على دول الاتحاد الأوروبي، في حين أُرجعت الشعبية الجماهيرية الكبيرة التي حققها زعيم اليمين الهولندي خيرت فيلدرز في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني في بلاده إلى اضطراب الرأي العام المتزايد حيال قضية الهجرة.
ويُتوقع أن تشكل قضية الهجرة عاملا محوريا في الانتخابات العامة المقبلة في المملكة المتحدة، المقررة في 2024. وتعتبر الهجرة واحدة من العوامل الرئيسة التي أدت إلى تصويت الناخبين البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الجدلي عام 2016، ورغم أن المملكة المتحدة لم تعد عضوا في الاتحاد الأوروبي، إلا أن الهجرة تظل قضية مثيرة للجدل بشدة؛ يمكن أن تجبر رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في نهاية المطاف على ترك منصبه.
وفي نهاية عام 2023، وعلى خلفية أرقام الهجرة المتزايدة، أعلن وزير الداخلية جيمس كليفرلي عن خطة مكونة من خمس نقاط، لخفض مستويات الهجرة والحد من إساءة استخدام نظام الهجرة، مما أدى إلى أكبر انخفاض على الإطلاق في معدلات صافي الهجرة. وبناء على هذه الحزمة، فإن الأعداد التي وصلت إلى المملكة المتحدة في العام الماضي والمقدرة بنحو 200 ألف شخص لن تتكرر بعد الآن.
لكن الانقسامات العميقة حول هذه القضية بين كبار الوزراء المحافظين تجلّت عند استقالة وزير الهجرة روبرت جينريك المؤثرة في ديسمبر/كانون الأول، مدعيا أن مقترحات الحكومة لن تحقق النتيجة المرجوة المتمثلة في الحد من الهجرة.

Eduardo Ramon

وبموجب الخطط التي اقترحتها حكومة المملكة المتحدة، ستتم زيادة عتبة الأجور للعاملين الأجانب اعتبارا من ربيع عام 2024 بنسبة تقارب 50 في المئة، أي من وضعها الحالي البالغ 26.200 جنيه إسترليني إلى مستوى 38.700 جنيه إسترليني. ويمكن أن يشجع هذا الشركات على البحث عن المواهب البريطانية أولا والاستثمار في قوتهم العاملة، مما سيسهم في منع أرباب العمل من الاعتماد المفرط على اليد العاملة المهاجرة، مع جعل الرواتب تتماشى مع متوسط الراتب بدوام كامل لهذه الأنواع من الوظائف.

الانقسامات العميقة داخل السياسة البريطانية تشير إلى أن عام 2024 سيكون عاما من عدم الاستقرار السياسي الواضح داخل التحالف الغربي، مما سيؤدي إلى تقويض فعالية استجابته لتحديات كبيرة مثل الصراع الأوكراني والهجرة الجماعية

وستقوم الحكومة أيضا بزيادة الحد الأدنى للدخل المطلوب للمواطنين البريطانيين وأولئك المستقرين في المملكة المتحدة الراغبين في إحضار أفراد عائلاتهم إليهم. في المجمل، سيعزز هذا الأمر الفكرة بأن جميع الراغبين في العمل والعيش هنا يجب أن يكونوا قادرين على إعالة أنفسهم، والمساهمة في الاقتصاد، وأن لا يشكلوا عبئا على الدولة.
وقد وضعت خطة الهجرة الجديدة بعد أن أظهرت الأرقام الرسمية في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023 أن صافي الهجرة إلى المملكة المتحدة ارتفع إلى مستوى قياسي بلغ 745 ألفا عام 2022، مما دفع النواب المحافظين إلى تكثيف الضغط على سوناك وحكومته لخفض صافي الهجرة (الفارق بين القادمين إلى المملكة المتحدة، والمغادرين منها).
وبالتأكيد يمثل الارتفاع الحاد في صافي الهجرة تحديا سياسيا كبيرا لسوناك والحزب الحاكم، اللذين وعدا مرارا وتكرارا بالحد من صافي الهجرة منذ فوزهم بالسلطة عام 2010، واستعادة السيطرة على حدود المملكة المتحدة بعد تصويت البريكست. وكان البيان الانتخابي للحزب في انتخابات عام 2019 قد تعهد بخفض هذا العدد دون تحديد عدد معين كهدف، في حين أن ديفيد كاميرون تعهد ذات مرة بخفض صافي الهجرة إلى أقل من 100 ألف عندما كان رئيسا للوزراء.
وقالت وزيرة الداخلية في حكومة الظل العمالية، إيفيت كوبر، إن الإعلان بمثابة "اعتراف بسنوات من فشل حزب المحافظين على مستوى نظام الهجرة والاقتصاد"، وحذر حزب العمال من أن قواعد الهجرة الجديدة التي وضعتها الحكومة قد تؤدي إلى "زيادة كبيرة في الزيجات المستعجلة" في الأشهر القليلة التي ستسبق دخولها حيز التنفيذ. لكن تحدي سجل المحافظين، يعتبر أمرا سهلا بالنسبة لخصومه السياسيين.
ويتوقع أن يصل حزب العمال إلى الحكومة في غضون عام، عندها سيرث التحدي المتمثل في كيفية تأمين ثقة الجمهور وموافقته على خياراته في مجال الهجرة ونتائجها. ويمكن لحزب العمال أن يتوقع بالفعل أن تكون الأعداد الإجمالية أقل في المستقبل مما هي عليه، مقارنة بالمستويات الاستثنائية العالية التي سيرثها. مع ذلك، وكما هو الحال مع بقية أنحاء أوروبا، فإن الانقسامات العميقة داخل السياسة البريطانية تشير إلى أن عام 2024 سيكون عاما من عدم الاستقرار السياسي الواضح داخل التحالف الغربي، مما سيؤدي إلى تقويض فعالية استجابته لتحديات كبيرة مثل الصراع الأوكراني والهجرة الجماعية.

font change

مقالات ذات صلة