أوروبا القلقة بعد سنتين من الحرب الأوكرانية

عام 2022 سجل إنفاقها العسكري مستوى قياسيا بلغ 240 مليار يورو

Getty Images
Getty Images
جندي أوكراني في مخزن أصابه القصف الروسي قرب زباروجيه

أوروبا القلقة بعد سنتين من الحرب الأوكرانية

مع حلول الذكرى الثانية لاندلاع الحرب الأوكرانية، يتأكد أنها تنتمي إلى فئة "الحروب التي لا تنتهي" وأن احتمالات الحسم أو الحل غير واردة على المدى القصير، وذلك في ظل تداخل الأبعاد السياسية والاقتصادية وتحول هذه المواجهة الدائرة إلى حرب استنزاف يغذيها صراع الكبار حول إعادة تشكيل النظام الدولي في زمن الاضطراب الاستراتيجي.

في هذا الإطار، لا بد من اقتفاء أثر الحرب الأوكرانية على الوضع في أوروبا خاصة بعد اتجاه الأمور في العام الماضي لصالح موسكو، ونتيجة السيناريوهات المتداولة عن احتمالات حرب جديدة ووجوب استعداد أوروبا لهجوم روسي. وتزايد القلق بعد تصريحات الرئيس الأميركي السابق وأبرز مرشحي السباق الرئاسي لهذا العام دونالد ترامب الذي هدد بعدم دفاع واشنطن عن أي بلد في حلف شمال الأطلسي من الدول المتخلفة عن احترام التزاماتها. ويأتي كل ذلك وسط مشهد سياسي أوروبي منهك على مسافة أربعة أشهر من الانتخابات التشريعية الأوروبية التي يمكن أن تشهد صعودا لليمين المتطرف المعارض لتحول الاتحاد إلى قطب جيوسياسي ودفاعي.

نظرت الأوساط الأوروبية إلى الهجوم الروسي على أوكرانيا كمؤشر على انتهاك القانون الدولي وانطلاق دورة جديدة من الحروب. وكذلك كان حافزا للاستنهاض العسكري الأوروبي خاصة مع ألمانيا وأسهم هذا الحدث بتوسيع حلف "الناتو" وتعزيز القيادة الأميركية على حساب الاستقلالية الأوروبية. ومما لا شك فيه أن أي تصعيد روسي أو عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض سيضعان أوروبا على المحك وسيمثل ذلك اختبارا جديا لحصانة القارة القديمة.

أوكرانيا واختبار استمرار الدعم

رزنامة فبراير/شباط حملت عدة مواعيد لافتة أبرزها اجتماع وزراء الدفاع في دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل (15 فبراير) والدورة الواحدة والستين من مؤتمر ميونيخ للأمن (16-18 فبراير) ودخول الحرب الأوكرانية عامها الثالث في 24 فبراير. ويطغى شبح "الخطر الروسي" والتغييرات العالمية على أجندة الأوروبيين.

خلال هذه السنة الانتخابية الأميركية، يسود من كييف إلى العواصم الأوروبية المعنية هاجس شح المساعدات الأميركية لأوكرانيا وتوقف أي مساعدات إضافية (وفق إحصاء دقيق بلغت المساعدات الأميركية العسكرية 42.2 مليار دولار بين فبراير 2022 وديسمبر 2023. وبلغت المساعدات الأوروبية العسكرية 35.2 مليار يورو من أصل 49.7 مليار يورو).

وسيكون من الصعب جدا أن يتمكن الجهد الأوروبي من التعويض عن الزخم الأميركي. لذا سيتركز العمل على تحمل المسؤولية لمنع الانهيار الأوكراني خلال الفترة الانتقالية الأميركية.

Reuters
جندي أوكراني قرب راجمة صواريخ "غراد" عند خط المواجهة مع القوات الروسية في منطقة دونيتسك في 4 فبراير

وتأتي الذكرى الثانية للحرب الأوكرانية مع تحول ميزان القوى على الأرض. إذ لا يقتصر الأمر على فشل الهجوم الأوكراني المضاد الذي انطلق في بداية صيف عام 2023، بل تعاني قوات كييف الآن من نقص الذخيرة وخاصة قذائف مدفعية الميدان ما ينعكس سلبا على قوتها. وتأكد التراجع مع سقوط بلدة أفدييفكا، الواقعة شمال دونيتسك التي شهدت معركة شرسة منذ الخريف الماضي وتخطت بعنفها معارك باخموت.

ومن الأسباب التي أدت إلى التراجع الأوكراني الأخير الشح في المساعدات العسكرية الأميركية بعد تحولها إلى مادة سجال بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة. ويزيد ذلك من خشية الأوكرانيين أن يكون عام 2024 صعبا للغاية. ومن هنا تنبري أوروبا عبر عقد اتفاقات أمنية ومساعدات مالية ضخمة وتسليم أسلحة في محاولة إنقاذ فولوديمير زيلينسكي.

في هذا السياق، أتت جولة الرئيس الأوكراني الأخيرة في برلين وباريس من أجل تعزيز دعم الدول الأوروبية وعقد اتفاقات أمنية مع ألمانيا وفرنسا، بعد الاتفاق الموقع مع المملكة المتحدة.

الآن لا يمكن استبعاد احتمال اندلاع صراعات جديدة لأن العالم دخل حقبة اضطراب استراتيجي كبير

المخاوف من التهديدات الروسية وشبح حرب جديدة

على صعيد متصل، تتوالى تصريحات المسؤولين الأوروبيين حيال ما يعتبرونه خطرا روسيًا، وآخرها أتى على لسان وزير الدفاع الدنماركي، ترويلز لوند بولسن، الذي كشف عن "معلومات جديدة" تفيد بأن روسيا قد تشن هجوما على إحدى دول "الناتو" خلال 3-5 سنوات.

بدوره، شدد قائد الجيش الألماني الجنرال، كارستن برويز، على أهمية أن تكون قواته "مؤهلة لخوض حرب" في غضون خمس سنوات.
وبالتزامن مع ذلك، دعا الأمين العام لحلف "الناتو" يانس ستولتنبرغ، أوروبا إلى زيادة إنتاجها من الأسلحة لدعم أوكرانيا واستباق "عقود محتملة من المواجهة" مع موسكو.
وقال ستولتنبرغ إن "هذا يعني التحول من زمن السلم البطيء إلى إنتاج صراع سريع الوتيرة".
ومنذ فترة كان لافتا التوتر بين روسيا وفنلندا حول مسألة عبور المهاجرين. وتقول فنلندا، وهي أحدث عضو في حلف شمال الأطلسي، إن "موسكو تختبر (الناتو) من خلال تحويل طالبي اللجوء إلى عامل ضغط سياسي". وكانت موسكو حذرت من "إجراءات مضادة" بعد انضمام فنلندا إلى "الناتو" خلال أبريل/نيسان 2023، في خروج للدولة الإسكندنافية عن سياسة عدم الانحياز العسكري التي انتهجتها لعقود.
وصدر عن مسؤولين سويديين في يناير/كانون الثاني الماضي دعوات بضرورة الاستعداد للحرب المحتملة مع روسيا وأتى ذلك قبل استكمال إجراءات انضمام استكهولم لـ"الناتو". وتسري المخاوف على دول البلطيق الأخرى ومولدوفيا وبولندا.

AFP
روسيان يسيران قرب مجسم لحرف Z الذي يرمز إلى "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في وسط موسكو في 20 فبراير

وفتحت كل هذه التطورات الباب أمام تساؤلات جادة بشأن ما إذا كانت أوروبا تتعرض لتهديدات حقيقية، في وقت تواجه فيه القارة الصراع الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945.
كان من الممكن أن نعتبر هذا الكلام مستغربا لو صدر قبل الهجوم الروسي ضد أوكرانيا، والآن لا يمكن استبعاد احتمال اندلاع صراعات جديدة لأن العالم دخل في حقبة عودة دورة الحروب واضطراب استراتيجي كبير.
بعد الحرب الأوكرانية تفجرت أيضا الحرب في غزة وجوارها منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي ويمكن أن نشهد مسارح صراعات أخرى في آسيا أو أفريقيا.
تندرج إذن المخاوف الأوروبية ضمن مخاض المشهد الاستراتيجي الدولي مع ارتسام الصراعات وقيام التحالفات والتواصل بين الاقتصاد والاستراتيجيات وتصور الدفاع الأوروبي انطلاقا من تجربة الحروب الأخيرة.
وتنص معاهدة حلف "الناتو"، وفقا "للمادة 5"، على أن الهجوم على أحد أعضاء الحلف هو هجوم على جميع أعضائه، مما يهدد بنشوب صراع واسع النطاق في حال حصول اعتداء روسي على أي دولة من الدول الـ31 الأعضاء في الناتو.
في المقابل، تصر الأوساط المطلعة في موسكو على عدم وجود تهديدات روسية ضد دول "الناتو"، وتعتبر التصريحات الغربية مجرد "شيطنة لروسيا وتخويف الدول الأخرى". ويتهم الجانب الروسي دول "الناتو" بتهديد موسكو من خلال "توسع الحلف نحو الحدود الروسية دون أي سبب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي". 

تعيش أوروبا "لحظة هاملت" القدرية وعليها أن تختار نقلتها الاستراتيجية النوعية حتى تتجنب التهميش في محفل الأمم

احتمال عودة ترامب وانعكاساته 

تجدر الإشارة إلى أن حلف شمال الأطلسي الذي تعزز وتوسع منذ حرب أوكرانيا، يخشى من أن "يُضرب من بيت أبيه" إذا عاد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. 
وقد أثار تصريح ترامب الأخير عاصفة سياسية داخلية وخارجية عندما صرح في تجمع انتخابي بأنه "لن يرغب في حماية الدول الأعضاء في حلف الأطلسي من أي هجوم مستقبلي من روسيا إذا تأخرت مساهماتها في الحلف". وسرعان ما رد جو بايدن قائلا إن "بلاده ستدافع عن كل شبر من دول (الناتو) إذا تعرضت للعدوان الروسي"، وانتقد تصريحات دونالد ترامب التي تدعو بوتين "لفعل ما يحلو له مع الدول التي لا تدفع".
وأدى هذا الجدل الأميركي إلى تعزيز موقف الأمين العام لحلف الناتو، يانس ستولتنبرغ الذي دعا من جانبه أوروبا إلى زيادة إنتاجها من الأسلحة لدعم أوكرانيا. مع الإصرار على "إننا بحاجة إلى إعادة تشكيل وتوسيع قاعدتنا الصناعية بشكل أسرع، لزيادة الإمدادات إلى أوكرانيا وإعادة ملء المخزونات".
وتعتبر تصريحات ستولتنبرغ بمثابة رسالة للأوروبيين بأن يعتمدوا على أنفسهم بالتسليح لتطوير صناعاتهم و"عدم الاعتماد على أميركا مدى الحياة".
وفي الخطط العسكرية، "هناك من يريد إنتاج المزيد من السلاح وبيعه"، بدليل موجة إعادة التسلح التي لم يشهدها العالم من قبل.

Reuters
أوكرانية وابنتها تزوران مقبرة عسكرية حيث يرقد الزوج في منطقة دنيبربتروفسك في 22 يناير

وفي عام 2022، سجل الإنفاق العسكري للاتحاد الأوروبي مستوى قياسيا بلغ 240 مليار يورو (260 مليار دولار) على وقع الحرب الروسية في أوكرانيا، على ما أعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وكالة الدفاع الأوروبية.
ويمثل الرقم زيادة إجمالية قدرها 6 في المئة عن 2021، في وقت زادت فيه دول الاتحاد الـ27، من مشترياتها العسكرية الجديدة، وزاد بعضها ميزانيته الدفاعية إلى ٢ في المئة من الناتج القومي. 
في الإجمال لا يمكن إهمال التهديدات الروسية عن حرب جديدة ولا يمكن اعتبار ذلك أمرا سيقع. وهذا يتطلب تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك وترتيب أوضاع حلف شمال الأطلسي. 
من أجل مواجهة آثار الحرب الأوكرانية والتغييرات العالمية يجب أن يكون الاتحاد الأوروبي أكثر من مجرد قوة ناعمة، وأن يتحول أيضا إلى القوة الصلبة، التي لا تختزل في الوسائل العسكرية، وتتعلق باستخدام كل أدوات القوة القادرة. 
تعيش أوروبا "لحظة هاملت" القدرية ويتعين عليها في هذا المنعطف الحرج أن تختار نقلتها الاستراتيجية النوعية حتى تتجنب التهميش في محفل الأمم.

font change

مقالات ذات صلة