"سلام ترمب" القائم على "ديبلوماسية الصفقات" في الكونغو

النهج الأميركي لتصدير الأمن مع إعطاء الأولوية لاستغلال الموارد

.أ.ب
.أ.ب
وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، بجانب وزيري خارجية روندا والكونغو بعد انتهاء محادثات السلام بين البلدين، في واشنطن 27 يونيو 2025

"سلام ترمب" القائم على "ديبلوماسية الصفقات" في الكونغو

يقول المثل التنويري: "الخطوة الأولى هي الأصعب دائما"، ولا ينطبق هذا القول على شيء قدر انطباقه على ما جرى في واشنطن يوم 27 يونيو/حزيران 2025، حين وقّعت جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا اتفاقية سلام في رعاية الولايات المتحدة ومراقبة قطر. تضمنت الاتفاقية انسحابا متبادلا للقوات، وعودة اللاجئين، ونزع سلاح الجماعات المسلحة ودمجها، مع تأكيد "سيادة جمهورية الكونغو الديمقراطية وسلامة أراضيها"، و"تحييد" التهديدات التي تمثلها التشكيلات المسلحة غير القانونية.

أعلن الرئيس دونالد ترمب ووزير الخارجية ماركو روبيو أنهما "أنهيا حربا استمرت ثلاثين عاما" وفتحا الطريق للتعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة، كما ورد في "إعلان المبادئ" الصادر بتاريخ 25 أبريل/نيسان 2025. وهكذا، اتخذ نموذج ترمب لـ"الدبلوماسية القائمة على الصفقات" أو "الموارد مقابل الأمن"، خطوته الملموسة الأولى.

وبلغ الصراع المستمر في شرق الكونغو، وهي منطقة غنية بشكل استثنائي بالموارد المعدنية، مستوى تصعيد خطيرا في الآونة الأخيرة. ولم تعد الأزمة تقتصر على الجماعات المسلحة العرقية، مثل حركة "إم. 23" بقيادة التوتسي وقوات "إف. دي. إل. آر." المتحالفة مع الهوتو، بل شملت أيضا تورطا مباشرا من دول الجوار، رواندا وأوغندا.

على مدى سنوات، أخفقت قرارات الأمم المتحدة المتعددة وعمليات حفظ السلام الدولية في تحقيق أهدافها. وتكشف تقييمات وبيانات متعددة عن الإخفاقات المتواصلة لبعثات الأمم المتحدة في الكونغو

على مدى سنوات، أخفقت قرارات الأمم المتحدة المتعددة وعمليات حفظ السلام الدولية في تحقيق أهدافها. وتكشف تقييمات وبيانات متعددة عن الإخفاقات المتواصلة لبعثات الأمم المتحدة في الكونغو، بدءا من محدودية التفويضات والموارد، وصولا إلى الفساد، وسوء الإدارة، والانتهاكات، والعجز المزمن عن حماية المدنيين.

تنمية الموارد المعدنية... نقطة تحول

وفي أوائل 2025، أجبرت حركة "إم. 23"، بدعم من القوات المسلحة الرواندية، الجيش الكونغولي على الانسحاب من مناطق واسعة في شرق البلاد، واستولت على أراض استراتيجية تشمل مراكز إدارية رئيسة مثل غوما وبوكافو. جاء ذلك بعد تعثر محادثات السلام السابقة التي بدأت في العاصمة الأنغولية لواندا عام 2022 واستمرت في نيروبي بكينيا عام 2023. وبحلول 2025، انسحبت أنغولا، التي كانت الوسيط الرئيس، من العملية، وانتقل الدور إلى توغو بصفتها ممثلة الاتحاد الأفريقي، دون أن يثير ذلك تفاؤلا كبيرا بحل الصراع.

في فبراير/شباط 2025، شهدت الأزمة نقطة تحول بارزة عندما أجرى الرئيس فيليكس تشيسيكيدي مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، دعا فيها علنا الشركات الأوروبية والأميركية للاستثمار في تنمية الموارد المعدنية لجمهورية الكونغو الديمقراطية.

.أ.ف.ب
عامل يحمل قطعة من حجر كوبالت، خارج منجم في منطقة كولويزي، 12 أكتوبر 2022

وفي الشهر التالي، قدّم تشيسيكيدي عرضا مباشرا إلى الولايات المتحدة، مفاده منح واشنطن حق الوصول إلى الموارد الاستراتيجية في بلاده في مقابل الحصول على دعم عسكري وسياسي في مواجهة كل من حركة "إم. 23" ورواندا. وقد استلهمت كينشاسا هذا التوجه من النموذج القائم على "الموارد مقابل الأمن" في العلاقة بين واشنطن وكييف، وسعت إلى إبرام اتفاق مماثل.

اتفاق كينشاسا و"ممر لوبيتو"

لاقى هذا الطرح ترحيبا واسعا داخل وزارة الخارجية الأميركية، التي يتهم مسؤولون فيها الصين منذ سنوات بتقييد الوصول إلى معادن حيوية مثل الكوبالت والليثيوم والتنتالوم، وهو ما يُنظر إليه على أنه تهديد مباشر للصناعات والتفوق التكنولوجي الأميركي.

تهيمن الشركات الصينية، الخاصة أو المملوكة للدولة، على 67,5% من إنتاج الكوبالت و69,3% من إنتاج النحاس في البلاد، ويرسل معظم هذا الإنتاج إلى الصين للمعالجة. وتعد شركة "تشاينا موليبدينوم" (CMOC)، اللاعب الأبرز عالميا

وحاليا، تهيمن الشركات الصينية، سواء الخاصة أو المملوكة للدولة، على 67,5 في المئة من إنتاج الكوبالت و69,3 في المئة من إنتاج النحاس في البلاد، ويرسل معظم هذا الإنتاج إلى الصين للمعالجة. وتعد شركة "تشاينا موليبدينوم" (CMOC)، ومقرها شنغهاي، اللاعب الأبرز عالميا، حيث تستحوذ على 19,3 في المئة من النحاس الكونغولي و48,2 في المئة من الكوبالت.

ويمثّل الاتفاق الأخير مع كينشاسا امتدادا طبيعيا لمبادرة "ممر لوبيتو"، وهو مشروع استراتيجي تقوده الولايات المتحدة لإقامة بنية تحتية، يهدف إلى ربط ميناء لوبيتو في أنغولا بالمناطق التعدينية في الكونغو وزامبيا عبر خط سكة حديد بطول 1300 كيلومتر.

وقد أسهم هذا الحراك المتسارع في تنشيط دوائر الضغط السياسي بين كينشاسا وكيغالي وكامبالا وواشنطن، وتميّزت مفاوضات السلام بمشاركة علنية لعدد من رجال الأعمال المعروفين بصلاتهم الوثيقة بدونالد ترمب، والذين سبق أن ساهم بعضهم في تمويل حملاته الانتخابية.

.أ.ف.ب

وفي ضوء العلاقات المتينة التي تربط ترمب بعدد من دول الخليج، إلى جانب زيارته الأخيرة للمنطقة، باتت هذه الدول مرشحة لتتبع خطى الشركات الأميركية في السعي نحو تثبيت موطئ قدم لها في السوق الكونغولية.

وفي وقت لاحق، شكّلت مفاوضات الدوحة نقطة تحوّل أساسية، حيث التقى ممثلو حركة "إم. 23" والحكومة الكونغولية هناك، بوساطة قطرية. وأسهم الاعتراف الرسمي بالحركة كطرف شرعي في تهدئة التوترات، ومهّد الطريق أمام مشاركة رواندا رسميا في عملية السلام.

ذروة الحضور الأميركي

وقد بلغ الحضور الأميركي ذروته في 19 يونيو/حزيران، حين اجتمعت وفود من الكونغو ورواندا في واشنطن، وتوصّلت إلى النص النهائي لمعاهدة السلام، التي وُقّعت رسميا بعد أسبوع. وجاء ذلك تتويجا لمسار من الانخراط الأميركي النشط، بدأ بزيارة رفيعة المستوى لمستشار الرئيس الأميركي لشؤون أفريقيا إلى كينشاسا في مارس/آذار.

تشكل في شرق الكونغو اقتصاد غير مشروع واسع النطاق، تديره أكثر من 120 جماعة مسلحة خارجة عن القانون. وتستفيد من هذا النظام غير الرسمي شركات في رواندا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية نفسها، حيث تسيطر الفصائل المسلحة على مواقع التعدين

وتنص الاتفاقية على مهلة تنفيذية مدتها 90 يوما، يخصص من بينها 30 يوما لتشكيل "آلية تنسيق أمنية مشتركة" تستند إلى ما يُعرف بـ"مفهوم العمليات"– أي التصوّر التنفيذي لتنسيق العمل الميداني بين الطرفين. كما يتعهد الجانبان خلال هذه المهلة بإنشاء "إطار عمل للتكامل الاقتصادي الإقليمي"، يتم توثيقه لاحقا في اتفاقية مستقلة. وفي سياق تسوية الملفات العالقة، وجّه الرئيس دونالد ترمب دعوات رسمية إلى كل من رئيس رواندا بول كاغامه ورئيس الكونغو فيليكس تشيسيكيدي لعقد لقاء في واشنطن.

الميدان لا يوحي بنهاية الصراع

ويرى الرئيس ترمب أن توقيع الاتفاقية يمنح الولايات المتحدة "حقوقا واسعة في تطوير الموارد المعدنية في الكونغو"، بيد أن وزير الخارجية ماركو روبيو حذّر خلال مراسم التوقيع من أن "الكثير من العمل لا يزال مطلوبا من جميع الأطراف".

وبالفعل، ثمة ما يدعو إلى التحفظ. فالأوضاع الميدانية في شرق الكونغو لا توحي بقرب نهاية الصراع، إذ لا تزال الاشتباكات المسلحة مستمرة في عدد من المناطق، ومن المرجح أن تستمر لفترة طويلة، كما هو الحال في معظم النزاعات الداخلية المعقدة التي تتداخل فيها الأطراف وتتشابك التحالفات.

.أ.ف.ب
أفراد من حركة M23 وسط ملعب استعدادا للاستعراض العسكري، في غوما في الكونغو 10 مايو 2025

وفي الوقت ذاته، لا تزال الأنشطة الاقتصادية في مناطق النزاع محدودة إلى حد بعيد. وقد تشكل في شرق الكونغو اقتصاد غير مشروع واسع النطاق، تديره أكثر من 120 جماعة مسلحة خارجة عن القانون. وتستفيد من هذا النظام غير الرسمي شركات في رواندا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية نفسها، حيث تسيطر الفصائل المسلحة على مواقع التعدين، وتشرف على عمليات الاستخراج، وتدير شبكات تهريب المعادن، بما يضمن لها التمويل ويغذي في الوقت ذاته الفساد الممنهج. وسيكون تفكيك هذا النظام الراسخ تحديا بالغ الصعوبة. وتُعدّ المهمة العاجلة المقبلة هي تعطيل "اقتصاد الحرب" هذا، قبل أن يعيد إنتاج نفسه في ظل ظروف أمنية أكثر هدوءا.

لكن وقف العمليات العسكرية لا يعني بالضرورة إحلال الاستقرار في منطقة شهدت لعقود انهيارا في مؤسسات الدولة. ومن الواضح أن جمهورية الكونغو الديمقراطية غير قادرة بمفردها على استعادة بنيتها المؤسسية، كما أن رواندا لن يُسمح لها بلعب أي دور في هذا المسار.

ومن المرجح أن تستمر حالة العداء بين كيغالي وكينشاسا حتى بعد توقيع الاتفاق، وهو ما يطرح تساؤلا جوهريا حول الحاجة إلى آلية فعالة تضمن الاستقرار وتوفر حدا أدنى من الأمن الضروري لجذب الاستثمارات. وسيستلزم ذلك وجود قوة أمنية قادرة على فرض السلام، والحفاظ عليه، واستعادته عند الضرورة، فضلا عن حماية البنية المؤسسية للدولة.

تبنى دونالد ترمب ما يسميه "ديبلوماسية الصفقات"، نهجا جديدا في بناء السلام يقوم على تصدير الأمن، مع إعطاء الأولوية لاستغلال الموارد، وجعل العناصر الأمنية والإدارية أدوات مساندة لهذا الهدف

ويمكن القول إن اتفاقية واشنطن، التي تعتمد اعتمادا كاملا على الإرادة السياسية الأميركية، تمثل خطوة جوهرية ومحددة نحو تحويل صراع ذي طابع أيديولوجي وعرقي إلى إطار اقتصادي. وتفترض الاتفاقية أن المكاسب الاقتصادية المحتملة التي يمكن أن تجنيها كل من الكونغو ورواندا، من خلال التعاون مع الولايات المتحدة وإحداها مع الأخرى، ستكون كفيلة بتجاوز محفزات استمرار العنف، بما في ذلك الحرب بالوكالة.

وتسعى الاتفاقية إلى ضمان مشاركة أوسع قاعدة شعبية من سكان المنطقة، عبر آلية واضحة المعالم تشمل تقاسم الأرباح، والاستثمار في البنية التحتية والخدمات.

تبنى دونالد ترمب ما يسميه "دبلوماسية الصفقات" بوصفها نهجا جديدا بالكامل في بناء السلام، يقوم على تصدير الأمن. وعلى خلاف النموذج الروسي، الذي يقدم الأمن كخدمة ذات طابع عسكري أولا، مع إدراج التنمية الاقتصادية كعنصر تابع، فإن النموذج الأميركي يضع استغلال الموارد في صدارة الأولويات، ويمنح العناصر الأمنية والإدارية دورا تكميليا لخدمة هذا الهدف.

.أ.ف.ب
عمال منجم ذهب يقفون عند منجم لوهيهي للذهب، في مقاطعة كيفو الشرقية، جمهورية الكونغو الدمقراطية، 13 مايو 2023

ويُتوقع أن يشمل هذا التوجه إنشاء بنية هجينة– عسكرية وإدارية، عامة وخاصة، ومتعددة الوظائف– تحت إشراف مباشر من الحكومة الأميركية. وتكلف هذه البنية توفير الأمن وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة والحفاظ عليها، في إطار اتفاقيات ثنائية تحدَّد فيها المهام والوضع القانوني وآليات التحكيم بين الدول. كما سيُنشأ إطار تعاون بين الوكالات الأميركية، ولا سيما وزارتا الخارجية والدفاع، لتحديد مجالات التشغيل ونطاقات المسؤولية، مع إمكان نقل الصلاحيات تدريجيا إلى الحكومة الوطنية.

وقد يشكل تنفيذ هذه الاتفاقية سابقة يحتذى بها، ونموذجا لنظام عالمي جديد موجه نحو الدول النامية، لا سيما في أفريقيا.

وفي الختام، لا تبدو مقولة السيدة دو ديفاند- وهي من رموز صالونات التنوير الباريسي- أكثر انطباقا على حدث كما تنطبق على اتفاقية واشنطن حين قالت "إن الخطوة الأولى هي الأصعب دائما".

font change