"غرندايزر" في يوبيله الذهبي لا يزال يطير ويقاتل ويثير الحنين

ارتبط بالقضايا الإنسانية واللغة العربية وشكّل منعطفا في عالم "الأنمي"

facebook
facebook

"غرندايزر" في يوبيله الذهبي لا يزال يطير ويقاتل ويثير الحنين

لا يزال "غرندايزر" الذي بلغ في عام 2025 عامه الخمسين، شابا لم يتغير فيه شيء منذ أن عرضت حلقته الافتتاحية في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1975 على قناة "فوجي" اليابانية. اليوم، إذ يحتفل العالم بمرور نصف قرن على ولادة الروبوت الفضائي، الذي تحوّل من مسلسل كرتوني إلى رمز ثقافي عابر للأجيال، أقيمت في باريس فعاليات تحتفي بهذا الحدث.

أعلن Japan Expo Paris أكبر مهرجانات الثقافة اليابانية في أوروبا، اختيار "غرندايزر" شخصية العام، وخصص له معرضا ضخما بعنوان "غريندايزر انطلق... خمسون عاما من الأسطورة". يمتد المعرض على مساحة تفوق 300 متر مربع، ويقدم سردا بصريا شاملا لمسيرة الشخصية: من إسكتشات جو ناغاي مؤلف المسلسل الأول، إلى مواد الإنتاج الأصلية في سبعينات القرن الماضي، وصولا إلى فترة شعبيته الكبرى في أوروبا والعالم العربي.

تتسم المواد المعروضة بندرتها: لوحات أصلية من أرشيف المانغا، صور فوتوغرافية من مراحل الإنتاج، مقابلات مصورة مع جو ناغاي، ونسخ أولى من مجسمات "شوغوكين" التي صدرت عام 1976 .

يمتد الاحتفال إلى قلب العاصمة الفرنسية. ففي ممرات مترو شاتليه، أُقيم معرض فني مفتوح للجمهور، بالتعاون مع هيئة النقل في باريس، فتحوّلت المحطة الأكثر ازدحاما في المدينة إلى متحف عام لـ"غرندايزر" يستقبل آلاف الزائرين يوميا. وطُرحت في اليابان مجموعة إصدارات فاخرة ومحدودة، أبرزها ساعة "تيسو – غرندايزر خمسون عاما" التي أُعلن عنها في سبتمبر/ أيلول 2025 ولم يُنتج منها سوى 1975 قطعة، في إشارة ترمز إلى تاريخ إطلاق الأنمي. تتميز الساعة بعقرب للثواني صُمم على شكل "الرزة المزدوجة" التي يستخدمها "دوق فليد"، وتأتي داخل علبة تحاكي مركبة "سبيزر" الشهيرة، وممهورة بتوقيع جو ناغاي نفسه.

بالتوازي مع هذا الزخم، عاد "غرندايزر" إلى الشاشة بعد أكثر من أربعة عقود من التوقف. ففي 5 يوليو/ تموز 2024، بدأ عرض "Grendizer U"، العمل الجديد الذي تشارك Manga Productions السعودية في تسويقه وإنتاجه.

لم يحقق أي مسلسل الشهرة والتفاعل والاستمرارية التي حققها هذا المسلسل الذي حمّل رمزيات الصراع العربي الإسرائيلي والعروبة والدفاع عن اللغة العربية

يحافظ العمل الجديد على روح القصة الأصلية وشخصياتها الأساسية، لكنه يقدّم سياقا مغايرا ورسومات حديثة تمزج بين الحنين والتحديث. كذلك أعلنت سلسلة جديدة بعنوان "غريندايزر يو: البدايات" من تأليف جو ناغاي، ستصدر في مارس/ آذار 2026 باللغة الإنكليزية، وتقدّم قصة غير مسبوقة تعيد استكشاف عالم "غرندايزر".

جو ناغاي مع ملصق غرندايزر

وإذا كان العالم يستقبل "غرندايزر" بهذه الاحتفالية الصاخبة، فإن العالم العربي يرتبط بالمسلسل بعلاقة خاصة واستثنائية، فلم يحقق أي مسلسل الشهرة والتفاعل والاستمرارية التي حققها هذا المسلسل الذي حمّل رمزيات الصراع العربي الإسرائيلي والعروبة والدفاع عن اللغة العربية والحرية والعدالة.

توقيت عرضه على التلفزيون الرسمي، "تلفزيون لبنان"، كان حدثا جامعا يستدعي تذكره حنينا لا ينقطع ويثير نقاشا مستمرا، دفع بأكبر المنصات العربية "شاهد" إلى إعادة عرضه، مما استجلب له جماهير جديدة لم تسمع به ولم تتعرّف اليه من قبل، فصار عنوانا لتلاقي أجيال عديدة على عناوين لا تزال أصداؤها تتردد في الحاضر.

الترميز الفلسطيني والعروبة اللغوية

خرج "غرندايزر" في نسخته العربية إلى النور في أواخر السبعينات حين كان لبنان غارقا في دوامة حرب أهلية ويعاني في الوقت نفسه من الاحتلال الإسرائيلي، وكانت القضية الفلسطينية تشكّل مرجعا وجدانيا وعاطفيا وسياسيا وثقافيا لقسم كبير من اللبنانيين والعرب. ولم يكن حضور فلسطين مرتبطا بالعنوان المسلح فحسب، بل كان مفتوحا على حروب ثقافية حادة.

في هذا المناخ برز خيار دبلجة "غرندايزر" إلى العربية بوصفه خطوة تنتسب مباشرة إلى رمزية القضية الفلسطينية، من خلال الشخصيات الفلسطينية ذات التاريخ النضالي التي تولت عملية الترجمة والدبلجة عبر "مؤسسة الاتحاد الفني"، التي أسسها من كانوا يلقّبون بـ"الفرسان الثلاثة"، أو "الفرسان الفلسطينيين الثلاثة"، وهم عبد المجيد أبو لبن وعبد الله حداد الشاعر الشعبي الفلسطيني وصبحي أبو لغد.

وجاء اختيار الشخصيات التي تؤدي الأدوار الرئيسة مثل الممثل جهاد الأطرش في دور "دوق فليد"، وكان الجمهور عرفه سابقا في أدوار تاريخية رصينة، منسجما مع البنية الدلالية التي حرص صناع النسخة العربية من المسلسل على تعميمها.

وتحيل تركيبة المسلسل إلى السيرة الفلسطينية والنضال ضد الاحتلال. فبطل السلسلة "دوق فليد" لاجئ فقد وطنه إثر غزو قوات "فيغا"، وهام في الفضاء حتى وصل إلى الأرض التي استقبلته، فوجد نفسه يدافع عنها عبر الآلة التقنية المتقدمة التي جاء بها من كوكبه الأم.

لم يكن "دوق فليد" يريد في البداية سوى الحصول على مأوى، وكانت الأرض بالنسبة إليه مجرد مكان يقيه العراء والتشرد والهيام في الفضاء، ولم تكتسب مباشرة المعنى الكبير الذي يجعلها قضية. لكن التحول الذي جرى بعد فترة قصيرة والاحتضان العائلي من قبل "الدكتور أمون" (بصوت غانم الدجاني) الذي اعتبره ابنا له ومنحه عائلة، قلب فكرة الأرض عند "دوق فليد" من مجرد مأوى فجعلها بيتا.

الفرق بين المأوى والبيت شاسع لغويا ودلاليا، فالمأوى يقتصر على فعل الاحتماء، أما البيت فيعطي الانتماء والهوية والاحتضان والأمان. ومن هنا وجد "دايسكي" نفسه مدافعا عن الأرض التي صارت بيته. فهو اللاجئ المقاوم ضد الغزو الخارجي والاحتلال، مما جعله حاملا رمزيا لصورة الفدائي الفلسطيني.

وكذلك فإن "دايسكي"، على الرغم من كونه يقود الدفاع عن الأرض عبر آلة روبوتية متفوقة، فإنه يتبنى قيمة العمل ويمارسها في بيئة زراعية تجعله يعكس صورة العامل والفلاح، مما يولد مساحة رمزية ترتبط بالثبات والإقامة في المكان، كما هو حال الفلسطيني الذي تقترن صورته بالمشهد الزراعي والفلاحي، إقامة وانتماء ورزقا.

facebook
دايسكي في المزرعة

اللغة العربية

هذا التوظيف يجعل مفهوم الزراعة والعمل في الأرض والمزرعة منفتحا على تبادل عميق بين الإنسان والأرض، فهو يهبها العناية والاهتمام ويفلحها ويزرعها ويدافع عنها، وهي تعطيه الرزق والانتماء والهوية. كل تلك الكتل الدلالية العريضة تحتل موقعا رئيسا في قصة "غرندايزر" وفي تركيب مشاهده التي تستحضر باستمرار مشهدا زراعيا وطبيعة قروية هادئة.

تحيل تركيبة المسلسل إلى السيرة الفلسطينية والنضال ضد الاحتلال. فبطل السلسلة "دوق فليد" لاجئ فقد وطنه إثر غزو قوات "فيغا"، وهام في الفضاء حتى وصل إلى الأرض

يحرص المسلسل منذ شارة البداية التي غناها الفنان اللبناني سامي كلارك وكتبها موفق شيخ الأرض وأشرف على تسجيلها زياد رحباني، على تقديم نشيد حماسي مكتوب بلغة عربية فصيحة محكمة، ومعروض ضمن تركيبة موسيقية سهلة الحفظ والتكرار. وليس أدل على ذلك أن مغنيها كان لا يزال يقدمها على المسارح وتطلب منه في جميع حفلاته التي سبقت رحيله في العام 2022، مما جعلها علامة صوتية فارقة عابرة للأزمان وتشكل جزءا من الثقافة الشعبية لبنانيا وعربيا.

نص الأغنية مشحون بمعاني القتال من أجل إحلال السلام ومقاومة الغزو والاحتلال، كما حفلت الحلقات بعبارات تكاد تكون مستعارة من أدبيات المقاومة وشعاراتها التي كانت تقال في التجمعات الشعبية وتكتب على الحيطان وتطبع في المنشورات والملصقات مثل "اللعنة على الغزاة" ،"الويل للأشرار"، "الويل للمعتدين"، و"سحقا للغزاة".

بنى المسلسل خطابه مستعملا اللغة العربية الفصحى المعيارية لتكريس خطاب مقاومة الاحتلال ورفض الانتماء الدوني إلى الغرب، كما وظفت بعض الحلقات تعابير إيمانية دينية مفتوحة لا تنتسب إلى دين معين أو طائفة محددة للتعبير عن فكرة المدد العلوي والتوفيق الذي يمنح للمقاتلين في سبيل الحرية.

اجتمعت تلك العناصر كلها بوعي مسبق، كما أكد جهاد الأطرش في مقابلات عديدة وحديثة أجريت معه، أن القضية الفلسطينية لم تكن مجرد إحالة ممكنة تأويليا في أحداث "غرندايزر"، بل كانت أصلا تأسيسيا وهدفا مقصودا وواعيا، وكذلك التوظيف الفخم والدقيق للغة العربية.

التقنية التي تمتلك قلبا

غرندايزر لم يكن تقنية عمياء ومتوحشة ومتفوقة وشمولية، بينما تمثل إمبراطورية "فيغا" بنية تقنية تحاول فرض الاستبداد والسيطرة الكلية وتنظر إلى الوجود الإنساني على أنه كتلة من الموارد التي يجب امتلاكها لتوسيع دائرة النفوذ. التقنية التي تمتلكها موضوعة في خدمة الاحتلال والاستعباد. الكواكب لا تنطوي على حياة في نظر تلك الإمبراطورية، بل فقط على ثروات، ولا وجود لجماعات بشرية بل مجرد عبيد محتملين.

غياب قيمة الحياة جعل العنف المفتوح أيديولوجيا حربية مطلقة لا يتورع المؤمنون بها عن شيء في سبيل الهيمنة، ويشمل ذلك حياة جنودهم الذين يقذفون بهم في مهمات غزو من دون مبالاة بمصيرهم، وكذلك يرتكبون المجازر في حق المدنيين ويدمرون المؤسسات والمستشفيات من دون أي رادع.

على النقيض من ذلك، يقدم "غرندايزر" تقنية مسيطرا عليها وتتحرك ضمن بعد إنساني وتظهر كأنها تمتلك قلبا وروحا وضميرا. الاندماج بين الروبوت "غرندايزر" وبين "دوق فليد" الذي يتعمق الى درجة التوحد، يمنح التقنية بعدا مؤنسنا يخدم وظيفة أخلاقية ومشروعة.

وقد ظهر "غرندايزر" في مرحلة لم تكن فيها التقنية وصلت إلى ما وصلت اليه الآن من تعقيد وسطوة، وكانت لا تزال بسيطة في الفهم والتعامل، وكانت قابلة للتعريف والتحكم والانكشاف، فـ"غرندايزر" ليس وسيطا تقنيا معقدا لا يمكن فهم آلية عمله، بل هو ينتمي إلى عالم تقني واضح وقابل للادراك، فلم تكن العلاقة معه اغترابية واستلابية وقهرية كما هو الحال اليوم مع التكنولوجيا.

facebook
في قلب "غرندايزر"

بذلك استطاعت تلك الآلة أن تنتمي إلى مجال الحميم والحلمي والعاطفي، وأن تفتح مجالا أمام تمثلات آمنة وبسيطة مع تكنولوجيا حربية متقدمة تقدم نفسها للإنسان من خلال معنى مشترك وعمومي ومتفق عليه، مضاد لمفهوم التقنية الذي يمثله "فيغا". إنها تقنية مقاومة تواجه تقنية غزو واستبداد وتنحاز إلى الحرية وتمثلها، مما جعلها أيقونة نضال رمزي.

شكل المسلسل منعطفا حاسما في تاريخ "الأنمي"، يبتعد به عن منطق الترفيه البحت والفانتازيا التي تعتمد على تركيبة غير متناسقة

وقد حرص المسلسل على تظهير هذا الجانب الإنساني في التقنية عبر الربط بين الصوت الصارخ وبين الفعل الآلي، بحيث يتجلى السلاح الفعال والقادر على إلحاق الهزيمة بالعدو، على أنه امتداد للصوت الإنساني وملحق به.

السلاح ينطلق دائما إثر نداء بشري غاضب ومقاتل، فيؤدي دوره مضفيا على الفعل الحربي بعدا إنسانيا. الأسلحة تمتلك أسماء وتمنحها أسماؤها وجودا ينبعث مع الصوت ليؤدي الوظيفة المناط به القيام بها: يسمي "دوق فليد" السلاح الذي يستعمله، يصرخ "السلاح الثاقب"، "الشعاع الصاهر"، "النصال الكتفية"، وغير ذلك، فينطلق السلاح تحت إمرة الصوت وينجز النصر.

التآلف مع التقنية، سمة ميزت "غرندايزر" وخلقت شبكة تلقٍّ ترى فيها أملا منشودا ونسقا من الدلالات الرمزية الواسعة ترتبط بأحلامها وأمانيها وطموحها للحصول على الأمان والتخلص من الحرب وإحلال السلام وتحقيق العدالة، ولم تكن وسيلة لفرض نوع جديد وشامل من العبودية.

وإذا ذهبنا إلى البعد التقني في بنية المسلسل نفسها، نجد أنه شكل منعطفا حاسما في تاريخ "الأنمي"، يبتعد به عن منطق الترفيه البحت والفانتازيا التي تعتمد على تركيبة غير متناسقة لا تهتم كثيرا بالدلالات والبناء الشكلي والبصري والسردي والحوار والنص والرسم والترابط.

ولد "غرندايزر" كتطوير لتجارب سابقة للشركات المنتجة، فخرج إلى النور متخلصا من كل العيوب التي كان "الأنمي" يعاني منها تقنيا ودلاليا، فبدا محكما ومتناسقا وحاملا لدلالات واسعة ومشكلا هوية بصرية التقطتها وتبنتها ثقافات مختلفة يجمع بينها طابع الإحالة على تجارب متماثلة.

جو ناغاي، خلال مؤتمر ضمن فعالية "روميكس"

وكان لافتا أن التلقي العربي كان عريضا وشاملا، بينما لم يكن الأمر كذلك في الغرب ما خلا فرنسا التي عرف فيها باسم "غولدوراك"، والسبب يعود إلى أنه استجاب لدلالة المقاومة عند شعب كان لا يزال يحمل ذاكرة الاحتلال النازي ومآسيها.

وبذلك شكل مرحلة تطبع ما بعدها تقنيا لناحية بناء الحكاية والسرد والتوظيف، ليس فقط في مسلسلات الرسوم المتحركة التي تعتمد على شخصيات خيالية، ولكن في الأفلام التي تعالج قضايا سياسية مباشرة وتتحدث عن مراحل معينة مثل فيلم "برسيبوليس" للمخرجة الايرانية مرجان سترابي الذي يعالج وضع إيران في مرحلة ما قبل الثورة الخمينية وما بعدها.

الحنين إلى "غرندايزر"

عناوين كثيرة تصبغ الحنين إلى "غرندايزر" في مرحلتنا هذه التي تفتقر إلى المعاني المتماسكة. وقد تكون البطولة المرتبطة بشخصية كرتونية تتيح نوعا من الخلود لا يتأتى للشخصية البشرية، فتلك الشخصية تبقى على حالها وتحافظ على وهجها ولا يصيبها ما يصيب الشخصية البشرية، وبذلك فإن نظام المعاني الذي تولده يبقى ثابتا وقادرا على صناعة نوع من الحنين المرجعي تستعاد فيه اللحظة دائما بكامل ألقها.

PATRICK BAZ / AFP
مواطنون يمرون أمام جدارية لبطل المانغا الياباني "غرندايزر" خلال مسيرة أحد الشعانين في بيروت

لكن الإجابة عن سؤال الحنين لا تبدو سهلة أو نهائية، فخلال خمسين عاما تسارعت وتيرة الحياة بشكل لم يسبق له مثيل، وباتت القطيعة مع المرحلة التي ولد فيها "غرندايزر" لا تقاس بالزمن المادي وحده، بل بالمراحل التي ولدت أنماط عيش جديدة بالكامل كانت تحتاج سابقا إلى فترات زمنية طويلة حتى تتبلور، وهذا ما جعل عنوان الحنين يكتسب حضورا عريضا، قياسا على تسارع نشوء المراحل الجديدة بتقنياتها الفائقة التي جعلت زمن "غرندايزر" متقادما وتاريخيا بسرعة خيالية.

البطولة المرتبطة بشخصية كرتونية تتيح نوعا من الخلود لا يتأتى للشخصية البشرية، فتلك الشخصية تبقى على حالها وتحافظ على وهجها

ويتخذ الحنين في فكر الباحثة البريطانية سوزان ستيوارت هيئة حزن يفتقد الموضوع، فهو اشتياق إلى مكان لم يعد موجودا او لم يكن موجودا قط إلا في المخيلة. ما يستعاد إذن ليس الماضي، بل الرغبة في ماض بات من المستحيل بلوغه، يستولد عالما مصغرا وكاملا، محولا التاريخ إلى سردية فقد واشتياق تدور حول الحاضر أكثر من اهتمامها بالماضي نفسه.

تقدم مقاربة ستيوارت إطارا قد يساهم في تفكيك منظومة الحنين العربي إلى "غرندايزر"، التي تنبع من بؤس الحاضر وخوائه وموت السرديات الكبرى والحكايات. فمرحلة "غرندايزر" كانت مشبعة بالأحلام، وكانت القصص الكبرى مثل الوحدة العربية والقومية والأمل بالانتصار لا تزال حية، والحياة كانت لا تزال في متناول الناس ولم تتجاوزهم، ولم يكن الزمن متسارعا وسائلا كما هو الحال اليوم، وكان الإيمان بالتغيير يخترق وعي الأفراد والجماعات ويمنح نشاطهم ونضالهم وانتماءاتهم قيمة ومعنى.

font change