سليم البيك يسرد تحولات السينما الفلسطينية على امتداد 40 عاما

من الوثائقي إلى الروائي ومن العام إلى الشخصي

"سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحة والشخصيات"

سليم البيك يسرد تحولات السينما الفلسطينية على امتداد 40 عاما

يفتتح الناقد والباحث الفلسطيني سليم البيك كتابه الصادر حديثا عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، بعنوان إشكالي وتأسيسي، "سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحة والشخصيات" (295 صفحة). يطرح مفهوما نقديا يعيد تعريف الحقل السينمائي الفلسطيني، ويفتحه على اشتباك جمالي وسياسي وفلسفي جديد. مصطلح "سينما الفلسطينيين"، يعيد تموضع الإنتاج السينمائي للفلسطينيين خارج الخطاب النضالي المؤسسي، وداخل تجارب فردية تملك أدواتها وأسئلتها الخاصة.

يرصد الكتاب خصوصية تجربة الفلسطينيين السينمائية، ويسلط الضوء على مساراتها وهمومها وتطور لغتها التعبيرية، المحاصرة بمحدودية المكان وتفكك الزمان. يلاحق معالم تلك المحدودية وانعكاسها على الشخصيات السينمائية والمعالجة والأساليب.

سينما الفلسطينيين تنتمي إلى ما يصنعه الفلسطينيون من سينما تروي اشتباكهم العميق مع الأحداث والتحولات. إنها سينما تنفصل عن سرديات الخطاب القومي والعروبي والنضالي والثوري، وتنحاز إلى الذات الفلسطينية في واقعها ومتناقضاتها، ولا تقبل بحصرها في تجسيد الجماعة أو الأمة.

نشأت هذه السينما من أفول القضايا الكبرى، ومن انسحاب الأمل، وبدأت سيرتها مع فيلم "عرس الجليل" لميشيل خليفي عام 1987، وهو التاريخ نفسه الذي اندلعت فيه انتفاضة الحجارة. ويتوقف الكتاب عند عام 2024 مع انفجار "طوفان الأقصى"، كعلامة على إغلاق مرحلة وبداية أخرى جديدة، يتوقع أن تنتج ملامح مختلفة لسينما الفلسطينيين.

يستعرض الكاتب 57 فيلما، تختلف في أساليبها ومقارباتها وأنواعها، لكنها تنتمي جميعا إلى عالم الفلسطينيين الداخلي، وتخاطب العالم انطلاقا من هذا الانتماء. نتابع عبرها تحولات المشهد الفلسطيني السياسي والاجتماعي، وانعكاس تلك التحولات على الشخصيات وأفعالها ومشاعرها وفنتازماتها، وكذلك على طرق توظيف الخيال وبناء خطوط المواجهة والهروب: عبر السخرية، أو الاستسلام، أو الانفصال عن الواقع، أو الانغماس الكلي فيه، ونختار منها مجموعة تعكس خصوصية كل مرحلة، والبنى الفنية والرمزية، وأشكال الخطاب التي اعتمدها مخرجوها للتعبير عن مسارات الأحوال الفلسطينية.

الثمانينات والتسعينات: من الوثائقي إلى الروائي

في هذه المرحلة، شرع النضال المسلح بالتفكك وبرزت أولوية السياسي، بعد سلسلة أحداث كبرى عصفت بالمشهد الفلسطيني، مثل اجتياح بيروت عام 1982 وخروج منظمة التحرير منها، واندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، وغزو العراق للكويت، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وصولا إلى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 وبروتوكول باريس عام 1994، الذي منح إسرائيل سطوة اقتصادية شاملة.

يستعرض الكاتب 57 فيلما، تختلف في أساليبها ومقارباتها وأنواعها، لكنها تنتمي جميعا إلى عالم الفلسطينيين الداخلي، وتخاطب العالم انطلاقا من هذا الانتماء

بدأت منظمة التحرير بالانهيار، وانعكس ذلك على طبيعة الشعارات المطروحة التي مالت إلى المطالبة بالحرية والاستقلال وليس النضال المسلح. انتشرت مفاهيم التشتت والاغتراب وتعممت، وكان ذلك بداية لنشوء سينما لا يقوم عليها لاجئون أو فدائيون، وتطرح مسألة الاحتلال كواقع فلسطيني يومي يشمل كل جوانب الحياة بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة. تحرر الفلسطيني من احتلال الآخرين لصوته وصورته وموقعه، وتحررت معه السينما من وثائقية تتعامل معه كحامل قضية أوسع منه وأكبر من واقعه، واستعادت خصوصية تمثيله انطلاقا من المعاينة المباشرة واليومية لأثر الاحتلال عليه.

Reuters
فلسطينيون يشعلون حواجز على طريق الآلام في القدس القديمة خلال مواجهات عنيفة مع شرطة الحدود الإسرائيلية عقب صلاة الجمعة الثانية من رمضان، 8 ديسمبر 2000، في ذكرى اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987

وتمثلت سينما الفلسطينيين هذه التحولات ببناء نماذج بصرية وشخصيات سينمائية تعكسها، وبنت خياراتها متخذة من آليات المواجهة التي يبتكرها ذلك الإنسان في العام والخاص مرجعا يعاد توظيفه واستعادته، ويتشكل من خلاله سرد بصري خاص يعنى بملاحقة المحدوديات ومعاينة الضيق والحصار، وبناء مفاهيمي يتجه إلى اقتراح منافذ أو رصد الإقفال.

تشكلت معالم سينما الفلسطينيين في الثمانينات والتسعينات بالانتقال من الوثائقي إلى الروائي، واللجوء إلى فانتازيا تستعيد الفولكلور والحكايات الشعبية، أو رصد للإقفال الذي رافق أوسلو وما بعده، والتعبير عن الانسداد بأشكال مختلفة. غلبت سياقات مواجهة الذات، وبرز الجنون كخيار لقول ما لا يقال. تماسك الحصار، وانتقل من وضعية الحالة أو الأزمة ليصبح حياة. برز الاحتلال كأثر عام أو كظل يحتل المساحة ويفككها ويحاصر الزمان ويقفله، ويصادر الهويات والسرد.

ذهبت سينما الفلسطينيين في هذه المرحلة إلى تبني السرد المتشظي وكسر انتظام الحبكة كمحاكاة للواقع، وظهرت سوريالية سوداء ساخرة مثقلة بالترميز السياسي والنهايات المفتوحة.

فيلم ميشيل خليفي التأسيسي، "عرس الجليل"، الصادر عام 1987 بالتزامن مع انتفاضة الحجارة، وهو  الفيلم الروائي الطويل الأول الذي صور بالكامل داخل الأراضي المحتلة، شكل منطقة عبور من السينما النضالية التسجيلية إلى السينما الروائية المشغولة بهموم الفلسطينيين المباشرة. وترك للاحتلال تمثيل الطارئ والاستثنائي، الذي يتفكك حين يواجه بصلابة الفولكلور الممتدة في التاريخ، وبتراكم المشهد الفلسطيني وحركة الكاميرا المتواصلة المنسجمة مع مفهوم التوق إلى التحرر.

"عرس الجليل"

تابع خليفي مشروعه في "حكاية الجواهر الثلاث" (1995)، وهو أول فيلم يصور بالكامل في غزة بعد أوسلو، ويتم السرد فيه على لسان الأطفال، في فضاء يستعيد الفولكلور والحكاية الشعبية، ليبني من خلالهما أفقا دلاليا خاصا. لم تتكرس بعد ملامح البؤس والانسداد التام، بل كان الفضاء لا يزال مفتوحا على هروب مشبع بالفانتازيا والترميز السياسي، من خلال حكاية خروج وبحث عن كنز مفقود، تقدم بصيغة خيالية وأسطورية.

رشيد مشهراوي وإيليا سليمان

يفتح رشيد مشهراوي أبوابَ واقعية جديدة تكشف عن فلسطين خارج الأسطورة والمخيم الكالح. يلاحق ظروف العيش في مكان طارئ ومؤقت، والشخصيات المفتقدة الخصوصية. بدوره، ينجز "حتى إشعار آخر" (1994)، في شقة واحدة بغزة داخل جو خانق وصمت، محكوم بسلبية الزمن المتجمد. ليكثف في "حيفا" (1996)  استحضار الغياب، متخذا من ضياع العقل فكرة رمزية تحيل إلى المكان الغائب والزمان الموقوف من خلال شخصية رجل يدعى "حيفا"، وهو مجنون تتجسد في شخصيته أصداء فكرة فوكو القائلة إن الجنون هو عقل في حالة تشظّ.

ذهبت سينما الفلسطينيين في هذه المرحلة إلى تبني السرد المتشظي وكسر انتظام الحبكة كمحاكاة للواقع، وظهرت سوريالية سوداء ساخرة مثقلة بالترميز السياسي والنهايات المفتوحة

أما إيليا سليمان فيلعب في فيلم "سجل اختفاء" (1996) ببطاقات يحولها إلى سيناريو. تتحول الملاحظات إلى مشاهدات. أسلوبه، كما يقول في مقابلة أجراها معه الكاتب، "يمتص الوقائع المحيطة التي تحكي أجواء مكان معين بلحظة معينة". ولكن ذلك الامتصاص لا يتعامل مع الوقائع كمعطى نهائي، بل يعيد إنتاجها من موقع فلسطيني خاص، وبمنطق يتخذ فيه وضعية الغريب والمراقب والشاهد، وكأنه قد بات الفلسطيني والآخر في آن واحد. ولكن ذلك الإطار المنسجم مع النفس ما بعد الحداثي، الحامل الدلالات المفتوحة وغياب السرديات الكبرى، الذي يسم تجربته، ليس سوى محاولة لتوسيع مجال الشأن الفلسطيني، ووضعه في قلب العالم.

2000-2009: عالم الجيمات الخمس

ترتسم ملامح هذه المرحلة مع "انتفاضة الأقصى" في سبتمبر/ أيلول 2000، ذات الواجهة الإسلامية المتعسكرة، التي سرعان ما انهزمت. وبرزت ابتداء من هذه المرحلة توجهات سينمائية تعتمد الترميز السياسي والطرح الاجتماعي، وطغت الهموم المحلية وكعناوين رئيسة.

تعمق حضور "الجيمات الخمس": الجندي والجيب والحاجز والسجن والجدار، وفرضت حضورها على المشهد الحياتي السينمائي، الذي انتقل إلى سينما ترصد ظهور الجدار كعنصر يتمم الإنشاءات الاحتلالية، وتعمقت الخيبات. تتجلى في سينما هذه المرحلة سيطرة الاحتلال التامة على الجغرافيا والحضور الاستيطاني، بحيث تشتت المضمون بينما ترسخ الشكل.

Reuters
رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات (يمين) يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين (يسار) في حضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون بعد توقيع اتفاق السلام في البيت الأبيض، واشنطن، 13 سبتمبر 1993

كل ذلك خلق تحولات سردية عميقة في سينما الفلسطينيين، تجلت في انتقالها من الخطاب الجماعي إلى مقاربة فردية تنبش الهويات المتشظية، وتعيد التفكير في المقاومة، لا كفعل عسكري، بل كاختبار شخصي، ومكاني، ونفسي.

أخرج إيليا سليمان في هذه المرحلة فيلم "يد إلهية" (2002)، الذي يمتاز بالعودة إلى السياسة، ولكن بشكل مفتوح على الفانتازيا والسخرية، وتوظيف الخيال واللعب بالزمن والسرد، حيث تبدو البداية كأنها خاتمة ترتبط بالعنف الداخلي والاستحالات. يصطدم الفيلم ببنية الإغلاق، ويخترع آلية عبور رمزية مشبعة بسخرية كالحة ودرامية، عبر بالون عليه صورة عرفات، وطنجرة ضغط توشك على الانفجار، وتدريب كاريكاتوري على القتال.

وبرز في "رنا" لهاني أبو أسعد (2002) عنصر الإقفال في علاقة مع الزمن، الذي يتبدد عند الحاجز. تصل إلى رنا رسالة من والدها يعلن فيها أنه سيغادر إلى القاهرة، وأن عليها اختيار عريس من لائحة قدمها لها قبل الساعة الرابعة، أو ستسافر معه. ترتيب الموضوع ورحلة البحث عن الحبيب المخرج المسرحي وتدبير شؤون الوثائق، تراكم الاستحالات التي يمثلها الحاجز، الذي يحتجز هوية المأذون. يعقد الزفاف في السيارة. الأساس والثابت يصبح طارئا وعابرا ورجراجا، والشخصية تتحول إلى كتلة مشحونة سياسيا بحكم موقعها الفلسطيني، حيث لا تمارس السياسة من الخارج، بل تحيا كتمثيل مفتوح لها داخل فضاء استعماري يكرس الانسداد.

كل ذلك خلق تحولات سردية عميقة في سينما الفلسطينيين، تجلت في انتقالها من الخطاب الجماعي إلى مقاربة فردية تنبش الهويات المتشظية، وتعيد التفكير في المقاومة

يقول هاني أبو أسعد عن فيلمه "الجنة الآن" (2005) إنه "تشويق، تشويق سياسي، لكنه فيلم سيكولوجي كذلك، وفيلم ويسترن وعصابات، كل ذلك مع بعضه". ينتقد البيك معالجة الفيلم لهذا الموضوع، معتبرا أنه جرها إلى احتفالية، وأن القصة الفلسطينية صارت صالحة لنشرة إخبارية، معتبرا أن المخرج حرص على رفع منسوب السياسي في الفيلم على حساب الفني، وأنه حول الشخصية إلى موضوع لا يملك استقلالية. التلقي العالمي لهذا الفيلم حوله إلى ظاهرة، إذ وصل إلى الأوسكار، وارتفعت مكانته بعد الغضب الإسرائيلي الكبير منه.

"يد إلهية"

أما آن ماري جاسر فتفتح في فيلمها "ملح هذا البحر" (2008) مجال العودة إلى فلسطين لاستعادة حق جدها المودع في بنك بريطاني في مرحلة ما قبل النكبة. تتنقل بين عامي 1948 و1967، ثم تصطدم عودتها بالواقع الثقيل لسلطة الاحتلال، وبنية مؤسساته التي تحكم إغلاق كل السبل أمام الفلسطيني ليكون كائنا قانونيا أو صاحب حق.

في "الزمن الباقي" (2009)، وعلى عكس أفلامه السابقة، يعالج ايليا سليمان قصة سابقة، هي قصة والده في مرحلة النكبة. يصل إلى فلسطين من الخارج، على إيقاع مشهد اعتقال والده، الذي كان يصنع السلاح للمجاهدين أيام النكبة. تتقاطع مرجعية السرد والبناء بين يوميات الوالد وذكريات الابن، في انفصال عن الحاضر، لتروي سيرة الحاضر الغائب. يعتبر البيك أن الفيلم يرصد لحظة ما قبل تحول الناصرة إلى غيتو، ويرى أن ملاحقة الموضوع بصريا، بالتركيز على المدى المفتوح، تمثل نوعا من التمرد البصري على مصادرات الاحتلال، حيث يفتتح بمقاومة الوالد ويختتم بقفز الابن من فوق الجدار بالزانة.

 يسخف إيليا سليمان العنف الإسرائيلي، ويظهر الفلسطيني قادرا على إنتاج سبل المقاومة والصمود، وعلى عبور الاستحكامات الإسرائيلية، وتوسيع دائرة مكانه المحاصر، ما يعني تاليا تقليص الضبط الاستعماري وتفكيك الحصار بأدوات الذاكرة والخيال والسخرية.

2010-2024:  تفاقم الاستعصاء وتصاعد التجريب

تمتاز هذه المرحلة، كما يراها سليم البيك، بأنها مرحلة التحول من صراع الجماعة إلى صراع الفرد، من خطاب الثورة إلى خطابات العزلة، ومن الوطن كأرض إلى الوطن كصورة ذهنية، محاصرة ومعلقة بين قسوة الواقع وضيق الأمل.

بين عامي 2010 و2024، شهدت السينما الفلسطينية تحولا ملحوظا في مقاربتها المكان والذات والعلاقة مع الاحتلال، إذ اتجهت إلى تفكيك العلاقة بين الفلسطيني ومحيطه، واختارت خطابا أقل مباشرة وأكثر تأملا في التفاصيل اليومية والانكسارات الشخصية. في هذا السياق، جاءت مجموعة من الأفلام التي عبرت عن هذا التحول بأشكال جمالية وسردية متباينة.

بين عامي 2010 و2024، شهدت السينما الفلسطينية تحولا ملحوظا في مقاربتها المكان والذات والعلاقة مع الاحتلال، إذ اتجهت إلى تفكيك العلاقة بين الفلسطيني ومحيطه واختارت خطابا أقل مباشرة 

في عام 2012، أخرجت آن ماري جاسر فيلمها الطويل "لما شفتك"، الذي تعود فيه إلى زمن الثورة، وتحيي صورة الفدائي كما وردت في الأفلام التسجيلية، وكأنها تنكر الواقع المستجد الذي صنعه أوسلو وما تلاه من اقتتال فلسطيني - فلسطيني، وواقع الإقفال، وتعمق الحضور الاحتلالي وسطوته بعد العام 2010. ينظر البيك إلى هذا الفيلم على أنه كسر استراتيجي للحدود الكبرى، ويختلف عن الاختراق التكتيكي الذي يمثله اختراق الحاجز أو تجاوز الجدار. يعود ذلك إلى أنه يمثل الهروب من المخيم إلى المعسكر، واختراق الحدود في هيئة الفدائي من الخارج، بعد اتخاذ العام 1967 منطلقا سرديا وتاريخيا. يخالف هذا الفيلم كل نتاجات هذه المرحلة، ويدافع عن فكرة امتلاك الزمن واستعادة المكان، وبذلك يمكن وصفه بأنه فيلم رشد ووصول.

AFP
جندي إسرائيلي يوجه سلاحه خلال دهم محل للصرافة في رام الله بالضفة الغربية المحتلة، 27 مايو 2025

في عام 2013، أخرج هاني أبو أسعد فيلمه "عمر". بطل الفيلم عمر يخاطر يوميا بتسلق الجدار العازل ليلتقي حبيبته ناديا، شقيقة طارق، قائد مجموعة مقاومة مسلحة، تربطه بعمر كذلك علاقة صداقة.

يحفل الفيلم بالمطاردات والركض في الشوارع الضيقة والفرار، مما يجعله وفق رؤية الكاتب فيلمَ تشويق تجاري يوظف السياق الفلسطيني في جو من المبالغة البطولية الخالية من الثقل السياسي. وكذلك، فإن منطقه يخاطب الجمهور الغربي والناقد الغربي، ولذلك وصل إلى اللائحة النهائية لترشيحات الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، فهو فيلم صالات تجارية. ومع كل الانتقادات التي وجهها البيك الى الفيلم، يقر له بأن انتشاره رسخ الحضور السياسي للفيلم الفلسطيني وأبقاه حيا. وفي النهاية، فإن مغزى الفيلم يستجيب لوضع الاستعصاء الفلسطيني الذي وسم تلك المرحلة.

يخرج  إيليا سليمان في فيلمه "إن شئت كما في السماء" (2019) من الناصرة، التي لطالما شكلت ميدانه السينمائي، نحو الجليل ثم إلى باريس ونيويورك، من مدخل قصة بسيطة لمخرج فلسطيني يسافر إلى أوروبا وأميركا بحثا عن تمويل لفيلمه. يكتشف في تجواله "فلسطنة العالم"، لناحية توسع انتشار البنية الاحتلالية، لتصنع مشهد عولمة العنف، حيث تتردد أصداء الضبط والسيطرة، وتبدد المعاني في كل مكان.

نجحت الأفلام التي استعرضها البيك في إظهار لغة سينمائية فلسطينية خالصة، تصنع من المحدوديات والحصار مجالا مفتوحا، يوسع حضور الفلسطيني في العالم

يلعب سليمان في فيلمه دور الشاهد الصامت والمراقب غير المنفعل، ولا يتخذ صفة الفعل، ولكنه يسجل الواقع، ولا  يعترف به، إذ يعمد إلى اختراقه بمشهد البدوية غير المكترثة بما حولها، والتي لا تنظر إلا أمامها، وفي مشهد رقص شباب في ناد ليلي على أنغام "عربي أنا". يقرأ سليمان إقفال العالم وعالمية النموذج الاحتلالي، لكنه يجترح دائما سبل فرار ومقاومة تنبع من الداخل، ومن تفاصيل صغيرة تفتح استثناء في الاستثناء الشامل السائد، وتنتج خرقا عميقا في بنيته الصلبة.

في فيلم "الأستاذ" (2023) لفرح نابلسي وهو آخر فيلم في هذه السيرة، تنقلب المواقع، فيكون الأسير هو الجندي الإسرائيلي. تروي القصة حكاية باسم، الأستاذ الذي فقد ابنه في تظاهرة، والذي يتبنى خيار المقاومة، ويخفي في منزله جنديا كانت المقاومة قد اختطفته. يطرح الفيلم فعل المقاومة كخيار أخلاقي واع، لا كاضطرار، ويطرح صورة للفلسطيني في وضعية الفاعل والمبادر، وليس الضحية.

امتلك الفلسطينيون عبر السينما التي صنعوها بأنفسهم هوية بصرية، وأسسوا حقول تعبير خاصة بهم. نجحت الأفلام التي استعرضها البيك في إظهار لغة سينمائية فلسطينية خالصة، تصنع من المحدوديات والحصار مجالا مفتوحا، يوسع حضور الفلسطيني في العالم بملامح واضحة، متخلصة من كل ما ألصق به من شعارات وأوهام. سينما الفلسطينيين ليست في نهاية المطاف سوى  سينما الألم الفلسطيني، التي تبحث كذلك عن مادة لصناعة أمل فلسطيني خالص وكلام فلسطيني خالص.

font change

مقالات ذات صلة