"الخوارزمية الجمالية" في "فريز لندن 2025"

هل يكتب الفن الرقمي نهاية الإبداع البشري؟

HENRY NICHOLLS / AFP
HENRY NICHOLLS / AFP
زوار يتأملون عملًا بعنوان "البطل الآخر في الليل" للفنان إنريكي لوبيز ياماس في جناح "يانو"، معرض "فريز لندن 2025"

"الخوارزمية الجمالية" في "فريز لندن 2025"

يعد مهرجان "فريز لندن" (Frieze London) الذي يقام سنويا في قلب العاصمة البريطانية وتحديدا في "ريجنت بارك"، واحدا من أهم المعارض الفنية المعاصرة والأكثر تأثيرا في العالم. لا يقتصر دور "فريز" على كونه معرضا ضخما لعرض الفن، بل هو سوق فنية عالمية تحدد اتجاهات الفن والأسعار لعام مقبل. يجمع هذا الحدث السنوي نخبة من الغاليريهات والفنانين والمقتنين، ليصبح بمثابة "قمة" يلتقي فيها الإبداع بالمال والنقد. بذلك، هو ليس مجرد مكان لعرض اللوحات، بل مرآة ثقافية تعكس القضايا الفنية في اللحظة الراهنة، ومنصة أساسية لاستكشاف ما هو جديد وجريء في عالم الفن المعاصر على المساحة الدولية.

عززت دورة "فريز لندن" 2025 الفن الرقمي باعتباره أصبح هو السائد الجديد. وبعيدا من الجدل القديم بين اللوحة والتركيب الفني، كشفت هذه الدورة عن هيمنة واضحة للأعمال المولدة بالخوارزميات والمنحوتات التفاعلية. في هذه المساحة. لم يعد الفنان صانعا وحسب، بل أصبح مهندس تجربة، يطرح سؤالا واحدا على الحاضرين: "ما الخط الفاصل بين الإبداع البشري والذكاء الصناعي؟".

ثم هل أن القيمة في الفن معيار أزلي، أم أنها مجرد تضخم نقدي للحظة الراهنة؟ هذا السؤال الفلسفي يرتفع صداه مجددا. فبينما تكتظ "ريجنت بارك" بالصخب، يقدم "فريز لندن" 2025 فلسفة قائمة بذاتها بوصفه المختبر الذي يغلي فيه السؤال الأبدي: ما الذي يجعل شيئا او عملا ما فنا في عصرنا؟

الأصالة في عصر التكاثر: تحدي بنيامين

تفرض الأعمال القائمة على الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) التي تشير إلى أصول رقمية فريدة تمثل شهادات ملكية، سؤالا معرفيا ثقيلا عن مفهوم الأصالة ذاته. فقد كانت القيمة الفنية تقليديا ترتكز على ندرة العمل وفرادته المادية: اللمسة الفريدة للفنان ومدى إبداعه، أو أثر الأدوات على السطح. لكن مع هيمنة فنون الـ NFTs نجد أنفسنا أمام أعمال يمكن تكرارها بلا نهاية، ونقلها بلمح البصر، مما يلغي تماما فرضية الندرة المادية.

يقدم "فريز لندن" 2025 فلسفة قائمة بذاتها بوصفه المختبر الذي يغلي فيه السؤال الأبدي: ما الذي يجعل شيئا او عملا ما فنا في عصرنا؟

هنا تكمن المفارقة العميقة: مهرجان "فريز"، كإحدى أهم أسواق الفن، يبيع أعمالا ليست فريدة ماديا، بل فريدة بصك الملكية الرقمية الملحق بها. تضع هذه "الهيمنة الرقمية" المعرض في مواجهة مباشرة مع السؤال الفلسفي الأبدي حول الأصالة، الذي طرحه الكاتب والناقد فالتر بنيامين. فهل يمكن الهالة التي تحدث عنها بنيامين، وهي فرادة العمل الفني التاريخية في زمان ومكان معينين، أن تبقى حية عندما يكون وجود العمل الفني مجرد سلسلة مستنسخة من البيانات؟

HENRY NICHOLLS / AFP
زوار يتأملون عملًا بعنوان "أغنية لحورية البحر (صدى)" للفنان رافال زايكو في جناح "كوليس غاليري"، معرض "فريز لندن 2025"

إن فنانا مثل "باك" Pak (وهو فنان أو ربما مجموعة فنانين مجهولين) الذي حطم الأرقام القياسية ببيعه عمله المفاهيمي"The Merge"  الذي يقسم ملكية العمل الفني بين الآلاف، يبرهن على أن الأصالة في عصرنا الجديد أصبحت مجرد "شهادة رقمية" لا علاقة لها بحقيقة المادة، بل بعدد الأصفار في محفظة الإيثيريوم.

HENRY NICHOLLS / AFP
عمل بعنوان «الظهور المتأخر 2» للفنان جوسايا مكليني معروض في جناح «جيمس كوهان» خلال معرض «فريز لندن 2025»

التناقض بين الجسد والوجود الافتراضي

إذا كانت الأصالة تتعلق بالقيمة، فإن المحور الثاني ينقلنا إلى تجربة الانوجاد داخل قاعات "فريز"، حيث هيمنة المنشآت التفاعلية وفنون الواقع الافتراضي تضع الجسد البشري في مركز جدلي جديد. يدخل الزائر إلى خيمة المعرض حاملا معه وزنه المادي، ليجد نفسه مدعوا لوضع نظارات الواقع الافتراضي، أو التفاعل مع مجسات حسية. هذه اللحظة هي ذروة التحدي الفلسفي: أين يبدأ العمل الفني وأين ينتهي الجسد؟

يتحول الفن من كونه شيئا ينظر إليه، إلى مساحة يعاش فيها. الفنان المعاصر، في هذا السياق، لم يعد صانع شكل ثابت، بل مهندس تجربة يعيد برمجة إدراكنا للمكان والزمن. إنها مفارقة عميقة أن نجد أعمالا لامادية، مكونة من كودات وبيانات، تخوض بعمق في قضايا مادية وملحة مثل تآكل البيئة وهشاشة الجسد البشري، وكأنها تصرخ: الواقع الافتراضي هو أفضل وسيلة لتأمل مأساة الواقع المادي. هذه الثنائية تتركنا نتساءل: هل نحن أمام تطور في الفن، أم تحول في الإنسانية؟

HENRY NICHOLLS / AFP
زوار يتأملون عملًا بعنوان "موكب الورق 6" للفنان ويليام كنتريدج في جناح "غودمان غاليري"، معرض "فريز لندن 2025"

الفن كخوارزمية

في خضم التنوع الظاهري لأعمال "فريز لندن" 2025، يبرز تيار خفي يوحد كل هذا الإنتاج الفني الرقمي: اللغة العالمية للبيانات. إذ لم يعد الفن المعروض مجرد وسيلة للتعبير الشخصي والابداعي للفنان فحسب، بل تحول إلى بيانات مشفرة قابلة للنقل والانتشار الفوري عبر الحدود الجغرافية واللغوية. هذه الخوارزمية الجمالية تمنح الفن الرقمي قوة انتشار غير مسبوقة، جاعلة منه بحق "لغة كونية جديدة".

الفنان المعاصر لم يعد صانع شكل ثابت، بل مهندس تجربة يعيد برمجة إدراكنا للمكان والزمن

لكن هذا الانتشار يطرح سؤالا تأمليا خطيرا: هل يؤدي تحول الفن إلى بيانات الى تآكل الهوية الثقافية؟ ففي سعيها للوصول إلى الجمهور العالمي، تخاطر الأعمال الفنية بالتجرد من السياقات المحلية، لتصبح مجرد منتجات بصرية معولمة تتقاطع مع "الميتافيرس" و"البلوك تشين". إن "فريز" 2025، بتبنيه هذه اللغة الرقمية، يعكس تحول الفنان من منتج "حكاية" إلى محلل بيانات، يستخدم الجمال لترميز الحقائق المعقدة لعصرنا. لحظة نفهم فيها أن أعظم قوة للفن الرقمي هي أيضا أعمق تحدياته: أن يصبح متاحا للجميع، ولكنه غريب عن الجميع في الوقت نفسه.

HENRY NICHOLLS / AFP
زوار يتأملون أعمالًا من سلسلة "نُصُب" لستوديو لينكا في معرض "كارل فريدمان غاليري"، "فريز لندن 2025"

العودة إلى السؤال الأبدي

عبر التجوال في صالات عرض "فريز لندن" 2025، يتبين لنا أن المعرض ليس مجرد احتفال بالجمال أو عرض لقوة السوق الفنية، إنما هو استجواب جماعي لمفاهيمنا عن الوجود والقيمة. إذ أثبت الفن الرقمي نفسه سيدا للمشهد، متحديا فكرة الأصالة عبر التكاثر، ومزيلا الحدود بين الجسد المادي والواقع الافتراضي، ومحولا الإبداع إلى لغة بيانات عالمية.

ولكن، ربما لا تكمن الإجابة عن سؤالنا الأبدي في أي من هذه الأعمال المعروضة أو الأسعار القياسية، بقدر ما في المساحة الفارغة بين المشاهد والعمل الفني. فهي المساحة التي يولد فيها التأمل، ويعاد فيها صوغ العلاقة بين الإنسان والابتكار. يغادر الزائر "ريجنت بارك" حاملا معه ليس فقط صورا في هاتفه لأعمال فنية باهظة، بل قلقا فلسفيا نبيلا:  هل نحن نصنع الفن الرقمي، أم أن الفن الرقمي يعيد تشكيلنا؟

HENRY NICHOLLS / AFP
أحد الزوار يتأمل أعمالًا للفنان أنطونيو باليستر مورينو في معرض "فريز لندن 2025"

سيبقى مهرجان "فريز لندن" 2025 دليلا شاهدا على هذه اللحظة الانتقالية، حيث لم يعد الفن يبحث عن الجمال، بل يبحث عن معنى وموطئ قدم في عالم سريع الذوبان.

font change

مقالات ذات صلة