سعيد يقطين لـ"المجلة": ما زلنا نتعثر في الاستفادة من العصر الرقمي

يرى أنه سبيل للإنتاج المعرفي لا للاستهلاك فحسب

الباحث والناقد سعيد يقطين

سعيد يقطين لـ"المجلة": ما زلنا نتعثر في الاستفادة من العصر الرقمي

تميز الناقد والباحث المغربي الدكتور سعيد يقطين بأبحاثه التي تناول فيها السرديات العربية ودرس مكوناتها في النصوص العربية القديمة والحديثة. وأصدر عشرات الكتب من بينها "الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق" و"السرد العربي: أنواع وأنماط" و"ذخيرة العجائب العربية: سيف بن ذي يزن". كما حصل على جوائز عدة من بينها جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، عام 2016. وجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الثامنة عام 2022، في فئة البحث والدراسات النقدية.

يشير د. يقطين في حديثه الى "المجلة" إلى أن كل أعماله مترابطة لأنها ضمن مشروع متكامل. كما يكشف العديد من تفاصيل تجربته في الحوار التالي.

ألفت العديد من الكتب النقدية، فما الخيط الذي يقودك خلال هذه الأبحاث، وهل تنطلق من نظريات محددة، أم أنك دائما في طور الاستكشاف؟

منذ بداية اهتمامي بالأدب والكتابة في النقد الأدبي بدأت تتكون لي رؤية خاصة مختلفة عما هو متداول. وكان اهتمامي بالنظرية الأدبية من منظور علمي هو الذي يحدد مختلف كتاباتي، ويربط بعضها ببعض، ويمكن تلمس ذلك بجلاء من خلال أي كتاب جديد لأننا نجده امتدادا وتطويرا لكتاب سابق. ولقد تحقق هذا الإطار التصوري الذي أنطلق منه لأنه قابل للتطور، ولذلك فالاستكشاف الدائم مطروح أبدا، ولكن من زاوية تطوير المشروع أشتغل به.

بين النظرية والتطبيق

أعمالك النقدية أشبه بالسلسلة، إذ أن كل كتاب يمهد لموضوع الكتاب الذي يليه، فكيف يندرج ذلك في سياق مشروعك النقدي؟

تماما. فكما ذكرت في الجواب السابق كل أعمالي مترابطة لأنها وليدة مشروع متكامل، وإن اشتغلت به في قضايا متعددة، والتي يمكن اختصارها في الانشغال بالسرد نظريا وتطبيقيا. وذلك واضح في كتبي التي تندرج في نطاق السرديات النظرية، والسرديات التطبيقية. أو في اهتمامي بالسرد العربي الحديث من خلال الرواية، أو السرد القديم بالتركيز على السيرة الشعبية ونظرية الكلام في التراث العربي. وفي كل هذه المجالات أراوح بين النظري والعملي. هذا بالإضافة إلى فتحي نافذة الثقافة الرقمية في بداية هذا القرن، أو اشتغالي بالتحليل الثقافي الاجتماعي، الذي تولد لدي منذ اشتغالي بالإعلام الثقافي منذ بداية الثمانينات.

السرد موجود في كل شيء، لذلك لا تعارض لدي بين الثقافة العالمية والشعبية، ولا بين الأدب والسياسة، ولا بين النظرية والتطبيقية

إن كل هذه المجالات أنطلق فيها من إطار تصور ينبني على السرديات، وذلك في ضوء كون السرد موجودا في كل شيء. لذلك لا تعارض لدي بين الثقافة العالمية والشعبية، ولا بين الأدب والسياسة، ولا بين النظرية والتطبيقية. وفي كل هذه الانشغالات كنت ملتزما بفكر نقدي ووعي إبستيمولوجي كرست له أربعة كتب. آخرها: "إبستيمولوجيا الفكر الأدبي: الأدب، الفلسفة، العلم". 

تهتم بصورة خاصة بالرواية، ما السبب؟

بدأت حياتي الأدبية بكتابة الشعر العمودي، وكان بحثي للإجازة حول الشعر المغربي. وكان انصرافي إلى الرواية، بعد أن فرضت وجودها في الثمانينات في المغرب، بهدف مواكبة ما يجري، من جهة، ولبلورة تصور سردي، نظريا وتطبيقيا، ولا سيما بعد أن ظهر لي أن السرد يحتل موقعا مهما جدا في الشعر العربي، وآمنت أنه لا يمكننا وضع هذا الشعر في الخانة التي وضعها فيه نقاد الأدب، وهي أنه غنائي وفق النظرية الأدبية الغربية. ولذلك عملت في كتابي" الكلام والخبر" على تقديم تصور مختلف حول أجناس الكلام العربي، والذي أضع الشعر فيه بين الحديث والخبر. 

غلاف ابستيمولوجيا الفكر الادبي

بالنسبة إلى القارئ الذي لم يطلع على معالجتك للرواية العربية الحديثة، ما أبرز الخصائص التي تسم هذه الرواية بالنسبة إليك، وكيف تصف علاقتها بالتراث السردي العربي؟

الرواية العربية نوع سردي قدم رؤيات مختلفة عن الواقع العربي، جماليا ودلاليا، لأنها تتسم بخصائص ومميزات يضيق عنها الشعر. من بين هذه المميزات أنها لا تخضع لقوانين ثابتة، وقواعد جامدة. إنها نوع متحول باستمرار بسبب طابعها السردي. ولما كان السرد فعلا إنسانيا من خلال وسائط متعددة، وينتج لأغراض يومية وثقافية وجمالية. من هنا اكتسبت الرواية موقعها ضمن الأدب العربي الحديث والمعاصر، إسوة بكل ثقافات العالم. لقد استفادت الرواية العربية في بداية تشكلها من الإنجازات الروائية العالمية، ولكنها الآن شبت على الطوق، وصارت قادرة على الاستفادة من التراث العربي السردي الذي جعلتنا الرواية ننتبه إلى أهميته وقيمته، وهي تتفاعل مع السرد التاريخي والعجائبي والواقعي. وهي واحدة من بين أهم مميزاتها التي جعلتها تتطور في كل الأقطار العربية، وتساهم فيها الكاتبة العربية بمنجزات مذهلة.

الباحث والناقد سعيد يقطين

حقبة تاريخية

اشتغلت على دراسة النص الأدبي وعلاقته بالوسائط الجديدة والإمكانات التي تقدمها التكنولوجيا، فكيف تنظر حاليا إلى مستقبل الإبداع في ظل هذه التطورات؟

عندما ألفت كتابين حول الثقافة الرقمية في بداية الألفية الجديدة كنت أنطلق من فكرة مؤداها أن البشرية تدخل حقبة تاريخية كبرى، وأن علينا أن ننخرط فيها بوعي، وألا نتأخر في دخول العصر الرقمي بعد أن اطلعت على الكثير من الكتابات الفلسفية والاجتماعية والإبداعية التي تفكر في نطاق الرقميات.

الرواية العربية نوع سردي قدم رؤيات مختلفة عن الواقع، جماليا ودلاليا، لأنها تتسم بخصائص ومميزات يضيق عنها الشعر

 لكن بدا لي أننا إلى الآن لا نزال نتعثر في الاستفادة من العصر الرقمي، وأن أهم ما نضطلع به هو الاستهلاك، وتوظيف الرقميات أداة للنشر، وكأنها بديل من الورق، متغافلين عن أهم أسسها التي تقوم ليس فقط على نشر المعلومات، ولكن إنتاج المعرفة.

شاركت تأليف بعض الكتب مع نقاد آخرين، كيف ترى المشاركة في إنتاج عمل نقدي؟

فكرة الكتاب المشترك مهمة جدا، وهي تقليد بدأ يفرض نفسه في واقعنا الثقافي والأكاديمي، ولا يمكن سوى تثمينها. لكني ألاحظ أن الكتب المشتركة عندنا، غالبا ما تكون تجميعا لمواد غير منسجمة، ولا متكاملة إلا من حيث بعض الموضوعات التي تتطرق إليها. وهذا، في رأيي غير كاف ما لم تتوحد الكتابات المشتركة في كتاب واحد في الصرامة المنهجية، والوضوح النظري. إن الكتابات المشتركة الغربية تقدم المعرفة لأنها تنطلق من أسئلة محددة، وإشكالات مضبوطة، وهذا هو ما يجعلها تقدم معرفة جديدة. أما الكتب المشتركة عندنا فهي مثل مؤتمراتنا لا يجمعها سوى الموضوع، وكل يكتب فيه وفق تصوره الخاص. ولذلك يمكن اعتبار مثل هذه الكتب، في غالبية الحالات، مثل حاطب الليل.

غلاف الفكر الادبي العربي

بين المشرق والمغرب

لطالما كانت هناك مشكلة في التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب العربي، هل تعتقد أن مرحلتنا هذه شهدت بناء بعض الجسور، بحيث يمكننا الحديث حقا عن نقد عربي ونتاج إبداعي عربي، أم أننا ما زلنا ندور في نطاق المحليات الضيقة؟

لم تكن قط مشكلة في التواصل بين المشرق والمغرب العربيين، قديما أو حديثا. فالإنتاج الثقافي المغربي جزء من المشرقي، والعكس صحيح. فالقضايا والمشاكل المتناولة ثقافيا واحدة، وكذلك الإبداعية. والكتاب العربي واحد لا فرق فيه بين المشرقي والمغربي. قد تكون هناك نقاشات واختلافات في الرؤية والتصور، وانتصار لمشرق على مغرب، أو القول بتميز مغرب على مشرق، وهي نفسها الاختلافات والنقاشات التي تقع داخل كل قطر عربي بين مثقفيه وكتابه. قد يكون هناك تنافس على الريادة والتميز وهو مشروع ومقبول ما لم يتحول إلى تهميش الآخر أو إلغائه. هذا التنافس كان حتى في القديم بين المشرق والأندلس. ولقد ساهم ذلك في تطور الأدب في الجانبين. ولا أحد الآن يمكنه أن ينكر العطاء الأندلسي للتراث العربي.

الباحث والناقد سعيد يقطين

هل أصبحت هناك نظريات نقدية عربية، أم أن النقد العربي لا يزال يدور في فلك المدارس النقدية الغربية؟ وهل تجد هذه إشكالية أم أنها أمر طبيعي؟

أشرفت على ملف حول النظرية النقدية العربية لمجلة "نزوى" العمانية، ويتبين مما يكتب في الموضوع أننا لا نهتم بالنظرية، ولا يمكننا المساهمة في العطاء النظري العالمي لسبب بسيط هو أننا لم نفكر في الأدب من وجهة علمية. وأرى أن هذا هو العائق المحوري. لا يمكننا الحديث عن النظرية والمنهج والتحليل بدون الانطلاق من تصور علمي، أو البحث في الأدب من زاوية علمية.

لا يمكننا المساهمة في العطاء النظري العالمي لأننا لم نفكر في الأدب من وجهة علمية

 إن عنايتنا الكبرى بالتأويل، وتقديم تصوراتنا الفكرية عن الأدب حائل دون إيماننا بضرورة التفكير في العلم الذي نرى أنه "يقتل" الأدب الذي لا يمكننا أن نحلله وفق إجراءات البحث العلمي. ويبدو ذلك في أننا نضيق ذرعا بالدراسة الكمية، وتوظيف المصطلحات والخطاطات والأشكال.

غلاف ذخيرة العجائب العربية

كيف تنظر إلى تجربة جيل الشباب في مجال النقد، وهل فيها انعكاس لتجارب الشباب الإبداعية، أم أن النقد لا يواكب هذه التجارب كما ينبغي؟

رغم كل ما يمكن أن يقال عن الشباب ودورهم في النقد والإبداع، عندي اليقين من خلال ما أتابعه من دراسات نقدية وإبداعات عربية من كل الأقطار العربية، أن هناك طاقات مهمة، وإمكانات مذهلة تتميز بوعي نقدي وإبداعي. وهي في حاجة إلى الدعم والمؤازرة من خلال مناقشة أفكارهم النقدية، وتصوراتهم النظرية، ومواكبة إبداعاتهم السردية والشعرية. وفي اهتمامي ومتابعتي لما يكتبه الشباب في المغرب أشجعهم على أن يعملوا على تأطير أنفسهم في جماعات ثقافية، ويسهموا في تنشيط العمل الثقافي من طريق إصدار مجلات، والانفتاح بعضهم على بعض، وتجاوز الحساسيات التي كانت سائدة في ما مضى لأنهم عماد المستقبل، وأساس الحفاظ على المكتسبات الثقافية والإبداعية وتطويرها نحو الأفضل.

font change

مقالات ذات صلة