التاريخ المجهول لريادة المرأة العربية والمسلمة

عالمة وفقيهة وأديبة ومحدّثة

التاريخ المجهول لريادة المرأة العربية والمسلمة

في كتابه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للإمام شمس الدين الذهبي الذي يعدّ من أهم المصنفات في علم الجرح والتعديل، ونقد رواة الحديث والآثار، يفرد المصنف في ختامه بابا بعنوان "فصل في النسوة المجهولات"، ثم كتب تحته عبارة مثيرة للانتباه، حيث قال: "وما علمت من النساء من اتهمت ولا من تركوها"، ويقصد الذهبي أنه لم يعرف امرأة ممن روين الأحاديث النبوية، قد اتهمت بالوضع والكذب، واختلاق الحديث، أو تُركت لعلة قادحة في روايتها، والمفارقة هنا أن هذه الجملة وضعها الذهبي في ختام كتابه الكبير الذي كان عنوانه الرئيس في "نقد الرجال"، وبيان من اتهم منهم بالوضع، أو حكم عليه بالضعف ونحو ذلك، وكأنه بذلك يريد أن يقول إن أولئك النسوة حتى وإن كن مجهولات غير معروفات، فإن الأصل أن النساء بإجمال ثقات، لم يعهد عليهن كذب ولا علة في رواية الحديث. والمقصود بالمجهول في الحديث هنا هو من لم يُعرف عينه، أو حاله، مثل مَن لم يثبت تحقّق وجوده حقيقة، أو من لم يرو عنه غير واحد، ونحو ذلك، فهذا الراوي يعتبر في عرف علم الحديث "مجهولا"، على اختلاف بين المحدثين في حكم الرواة المجاهيل، كل حالة بحسبها.

لكن نتوقف هنا قليلا عند مقولة الذهبي "النسوة المجهولات"، ونستعير هذه المقولة من علم الحديث، ونذهب بها إلى التاريخ الثقافي، وحركة العلم في التاريخ العربي والإسلامي، حيث نجد أن هناك قدرا هائلا من أولئك "النسوة المجهولات" اللواتي كان لهن دور كبير في نقل المعرفة الدينية، والأدبية واللغوية، والتجريبية أيضا، لكن ذكرهن قد اندثر وتوارى بين صفحات الكتب، وأصبح موضوعا مجهولا، لا يرقى لكثير من العناية والاهتمام، حتى ظن الكثير أن العلم والمعرفة والتصدر للفقه والفتيا ورواية الحديث، بل والتفنن والإبداع في اللغة والأدب، وفي العلوم التجريبية والرياضية، هو حكر على الرجال فحسب!

هناك قدر هائل من أولئك "النسوة المجهولات" اللواتي كان لهن دور كبير في نقل المعرفة الدينية، والأدبية واللغوية، والتجريبية أيضا، لكن ذكرهن قد اندثر وتوارى بين صفحات الكتب

بينما الحقيقة أن للمرأة حضورا بارزا في التراث العلمي والأدبي للحضارة العربية الإسلامية، كلامها مسموع، ورأيها مدون. بينهن فقيهات، وراويات للحديث، وشاعرات بليغات، وعالمات طبيبات، وأفردت كتب التراجم والطبقات أبوابا خاصة لسيرهن، حتى أصبح التأليف في أخبارهن فنا قائما بذاته، فقد وصلت المرأة إلى أرفع مكانة دينية، وهي رواية الحديث النبوي، فلم يكن هناك تمييز في هذا الشأن بين الرجال والنساء، ويقدم كتاب "الوفاء بأسماء النساء" لمؤلفه محمد أكرم الندوي، موسوعة كبيرة في تراجم أعلام النساء في الحديث النبوي، جاءت في 43 مجلدا، ترجم فيها لقرابة 10000امرأة، ممن خدمن الحديث النبوي، راوية ودراية، تحملا وأداء، من القرون الأولى إلى العصر الحديث.

أما في جانب اللغة والبلاغة والشعر والأدب، فالكتب في ذلك كثيرة، والمصنفات واسعة، منها على سبيل المثل كتاب المؤرخ أحمد بن طيفور (280هـ) واسمه "بلاغات النساء"، الذي يقول في مقدمته: "هذا كتاب عن جواباتهن وطرائف كلامهن وملح نوادرهن وأخبار ذوات الرأي منهن على حسب ما بلغته الطاقة واقتضته الرواية واقتصرت عليه النهاية مع ما جمعنا من أشعارهن في كل فن مما وجدناه يجاوز كثيرا من بلاغات الرجال المحسنين والشعراء المختارين". وفي صدر الكتاب نجد هذه العبارة: "النساء رياحين عطرة، وهذا السفر من أعطر أزهار هذه الرياحين". أما جلال الدين السيوطي فافتتح كتابه "نزهة الجلساء في أشعار النساء" قائلا: "هذا جزء لطيف في النساء الشاعرات المحدثات - دون المتقدّمات من العرب العرباء من الجاهليات والصحابيات والمخضرمات؛ فإن أولئك لا يحصين كثرة".

 

نساء محدّثات

وترجم ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" لـ170 ‏محدِّثة منهن 54 شيخة له، أما الإمام السخاوي، فقد تلقى العلم من نحو 85 شيخة ذكرهن في كتابه ‏"الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"، وكانت تطلق ألقاب خاصة على أولئك النسوة الرائدات، مثل: سِتُّ العلماء، وست الفقهاء، ‏وست القضاة، وست الكَتَبة، وست الوزراء، وست الملوك. وممن أطلِقت عليهن تلك الألقاب: سِتّ الفقهاء أمة الرحمن ابنة إِبراهيم ‏الصالحية الحنبلية، وسِتّ الفقهاء بنت الخطيب شرف الدين العباسي، وترجم الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام" للمحدِّثة "حُلَلُ بنتُ الشيخ أبي المكارم محمود بن محمد بن محمد بن السكن البغداديّة، وتُدعى ستَّ الملوك".

Shutterstock
الجامع الأموي في دمشق

وكان لتلك النسوة مجالس مفتوحة يرتادها طلاب العلم من الرجال والنساء؛ حيث يقول الحافظ عَلَم الدين البِرْزَالي أنه سمع الحديث من شيخته أسماء بنت محمـد الدمشقية، ونجد في سيرة أم محمد فخر النساء شهدة بنت أحمد الإبري الدينوري عجبا حيث أخذ منها العلم والحديث كبار الرجال من علماء القرن السادس الهجري، حيث قال عنها موفق الدين ابن قدامة: انتهى إليها إسناد بغداد، وعمرت حتى ألحقت الصغار بالكبار، وكانت تكتب خطا جيدا. وقال ابن الجوزي: عاشت مخالطة العلماء. وقرئ عليها الحديث سنين. ومن مكانتها أنهم اعتمدوا عليها في رواية الكتب؛ ومن ذلك كتاب "الأموال لأبي عبيد"؛ ففي أوله: "قرئ على الشيخة الصالحة الكاتبة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج عن عمر الإبري الدينوري بمنزلها ببغداد في الحادي عشر من شعبان سنة أربع وستين وخمسمائة".

 

فقيهات وعالمات

النماذج على ذلك كثيرة لا حصر لها، فقد حكى ابن بطوطة أنَّه في رحلته زار المسجد الأموي بدمشق، وسمع فيه عن عددٍ من الفقيهات والمحدثات، وحضر مجالسهن، وقرأ عليهن الكتب، وحين ذكر أسماء من أجازوه بدمشق ذكر منهم: الشيخة الصالحة رحلة الدنيا زينب بنت كمال الدين أحمد المقدسي، والشيخة الصالحة أم محمد عائشة الحرانية، ويروى أنه كان لها مجلس علم بالمسجد، وكانت تتكسّب بالخياطة.

Shutterstock
ابن بطوطة

لهذا ألفت درة الشرق زينب فواز كتابها "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، فقد أخذتها الحمية على ذلك التاريخ المجهول لأولئك النسوة الرائدات في العلم والمعرفة، فقالت في خطبة الكتاب: "لما كان علم التاريخ أحسن العلوم، وأفضل المنطوق والمفهوم كثرت رجاله، واتسع نطاقه، وانتشرت في الخافقين صحفه وأوراقه؛ لأن أهل كل طبقة، وجهابذة كل أمة قد تكلموا في الأدب، وتفلسفوا في العلوم على كل لسان، وخاضوا في بحر تاريخ كل زمان، وكل متكلم منهم أفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار تاريخ المتقدمين، واختيار أهم المشهورين من السالفين، وبعضهم ألف المطولات في ذلك حتى احتاجت إلى اختصار، ولم أرَ في كل ذلك من تطرَّف وأفرد لنصف العالم الإنساني بابا باللغة العربية جمع فيه من اشتهرن بالفضائل، وتنزهن عن الرذائل، مع أنهن نبغ منهن جملة سيدات لهن المؤلفات التي حاكين بها أعاظم العلماء، وعارضن فحول الشعراء، فلحقتني الحمية والغيرة النوعية على تأليف سفْرٍ يسفر عن مُحَيَّا فضائل ذوات الفضائل من الآنسات والعقائل، وجمع شتات تراجمهن بقدر ما يصل إليه الإمكان، وإيراد أخبارهن من كل زمان ومكان".

حكى ابن بطوطة أنَّه في رحلته زار المسجد الأموي بدمشق، وسمع فيه عن عددٍ من الفقيهات والمحدثات، وحضر مجالسهن، وقرأ عليهن الكتب

إن هذه النماذج العجلى من صور حضور المرأة الكبير في المعرفة والعلم في التاريخ الإسلامي لا تحمل دلالة على مساهمة المرأة العلمية فحسب، بل إنها تقدم صورة مختلفة عن نظرة تلك المجتمعات المبكرة في عصر الإسلام الى موقع المرأة الاجتماعي، واحترام مكانتها ودورها، حيث تتصدر المجالس، ويتتلمذ بين يديها كبار الرجال، إنها صورة مغايرة تماما عن الواقع الذي عانت فيه المرأة بالمجتمعات العربية في عصور قريبة خلت حين تسربت أفكار غريبة وافدة حرمت المرأة دهرا من حقها في التعليم والكتابة والحضور وابداء الرأي، والأقبح من ذلك أن نرى تلك التيارات المتطرفة تعود من جديد (عند طالبان وأشباهها)، فترفع شعارات منع المرأة من التعليم والدراسة بحجة أن ذلك تطبيق لـ"شرع الله"، والحق أن تلك شعارات متخلفة دخيلة لا علاقة لها بتراث العرب والإسلام لا من قريب ولا من بعيد.

   

font change

مقالات ذات صلة