فانتازيا المكان في "بشر بلا ملامح" للكاتب اليمني الراحل وليد دماج

تقنيات شبيهة بالسرد الروائي

Aliaa Aboukhaddour
Aliaa Aboukhaddour

فانتازيا المكان في "بشر بلا ملامح" للكاتب اليمني الراحل وليد دماج

نشرت مجموعة "بشر بلا ملامح" للقاص والروائي اليمني الراحل وليد دماج (1973-2022)، بعد رحيله، وبعد أن خاض عالم السرد الروائي في غضون سنوات قليلة. ويضم الإصدار الجديد (عن "أروقة للدراسات والنشر"، 2025) 17 قصة قصيرة، تتبدى من خلالها براعة الكاتب الفنية في عالم القصة القصيرة، معالجا قضايا محلية تدور في أغلب القصص ضمن فضاء القرية.

لم تحظ القصة القصيرة إلا بالقليل من الدرس النقدي، إذ عملت تصورات نقاد القصة القصيرة الأوائل، منذ إدغار آلان بو أو فلانيري أوكونور وأيان رايد، على اعتبار القصة القصيرة صوتا منفردا، ثم سرى وهم الراوي الأحادي الصوت في القصة مقابل الراوي المتعدد في الرواية، وارتبط وجود الأول بشريحة محددة، ومنظورا إليها عن قرب، في حين ارتبط وجود الثاني بعالم الرواية المتعدد الشخصيات والأمكنة والأزمنة.

لذا، جرى التركيز على الحبكة ووحدة الانطباع ولحظة التنوير في القصة، وشاع تشبيه القصة بالقصيدة الغنائية، وغُض الطرف غالبا عن آليات السرد في القصة، رغم ثراء القصة القصيرة الحديثة وانفتاحها وتعدد مستويات سردها وأصواتها، بل وانفتاحها على بقية الأجناس الأدبية.

تقنية "التناسل" كفكرة كونية

تمتاز قصص هذه المجموعة بتقنيات لا تختلف عن تقنيات السرد الروائي كالتداعي الحر والمونولوغ، وتعدد زوايا الرؤية، الأصوات، والانتقال بين الضمائر، وتدوير الزمن، والاسترجاع والاستباق.

ونجد في عنوان المجموعة المختزِل دلاليا لقصصها، رغم تنوعها موضوعيا، نواة تتناسل منه بقية النصوص، فهو أشبه ببكرة ينسج منها المؤلف ثوب مجموعته السردية، ومرجع يستدخل الرمز والعلامة، وزاوية مهمة لتبئير الحدث، وتحديد موقع عين الراوي.

"بشر بلا ملامح" عنوان قصة واحدة ضمن المجموعة، لكنه يؤسس لثيمة أساسية يدور في فلكها الكائن الذي يقف في أغلب هذه المجموعة وهو الشخصية "البطل/ة" مع نفسه، سواء أكان شخصية تشهد انحدارا نحو الانتهاء، كما في قصة "فزع أبيض"، أو تلك التي تقف في الفاصل الزمني بين الحياة والموت كما في قصص "دار أبي أحمد" و"تلاش" و"أسمال"، أو من فقدت أملها وحلمها في الحياة لتصبح مجرد شبح مثل شخصيات قصص "كنبة" و"طبيزان" و"انتظار".

يحمل السرد في هذه القصص اتجاهات متنوعة، فمن الواقعي ينتقل نحو الخيال والفانتازيا وقد يمزج بينهما، لينشئ عالما موازيا للواقع

ففي قصة "فزع أبيض" مثلا، يقف البطل في مواجهة مع الزمن يعبر عنها بلون يدل على مروره واقنضائه، فالأبيض الذي يغزو الشعر في هذه القصة ليس تعبيرا فقط عن التقدم في العمر، بل يحمل دلالة أعمق، فهو ليس لونا، بل خليط من الألوان، يحمل في طياته تنوع الحياة التي تنتهي بلحظة زمنية خاطفة، وهو ما نجده أيضا في قصص "تلاش" و"أسمال" و"مزحة"، لحظة امتزاج الحياة بالموت، ليشكل بذلك ربطا جماليا ودلاليا لكائنات بشرية في مكان ذات منبع واحد، يتحكم فيه الخوف والكبت والحرمان .

 يختفي الصبي، في قصة "تلاش" وكذلك الفتاة في قصة "أسمال" ويضعنا السرد أمام حالة غامضة لا تُصرح بالموت، بل تُظهر أبطالها في حالة حيرة لمعنى الحياة المحاطة دائما بالموت وبأشكاله المختلفة.

 في "تلاش" يحاصر الخوف الصبي بسبب رفض أسرته الدائم رغبته في زيارة القرية، ولكنه حين يزورها، يذهب إلى أبعد من الخوف في محيطه، إلى منزل في قرية مجاورة ليتعرض بعدها لحادثة غريبة، وحين يعود إليها مرة أخرى بعد سنوات، لايجد أشياء الغرفة التي بات ليلته فيها طفلا، ليكتشف أنه اختفى في الحادثة القديمة تلك، دون أن نعرف تفاصيل واضحة لاختفائه: "مهجورة كانت الدار منذ أمد، يتآكلها الخراب، باب يفضي إلى ظلام ماحق، وكل شيء يبعث على الخوف، حتى أنا شعرت أنني مصدر لإخافتي".

كذلك، تجد الفتاة في قصة "أسمال"، نفسها في حال غريبة، تعي ولكنها لا تشعر بجسدها، ترى الشاب الذي أحبته وقتل منذ زمن أمامها، تتساءل كيف تراه وقد قُتل هو وكتيبته في مواجهة مع رجال الأمن في القرية، وتتذكر في لحظة تتكثف فيها الأحداث أنها خُطفت من قبل أحد الجنود، ولا نعلم يقينا ما حدث لها.

 وتبلغ الحياة ذروة العبث في قصة "مزحة"، تلك المزحة التي كانت سببا لموت بطل القصة المضحك "فارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة تلاشت تماما حين خر مغشيا عليه بعد أن تمتم: يالها من مزحة سخيفة".

بين الفانتازيا والواقع

يحمل السرد في هذه القصص اتجاهات متنوعة، فمن الواقعي ينتقل نحو الخيال والفانتازيا وقد يمزج بينهما، لينشئ عالما موازيا للواقع، فالخيال هو العالم الذي يبدو أننا نتنفس من خلاله، فيترجمه الفنان والأديب كواقع، في بنية سردية ذات حمولة فلسفية ورؤية خاصة به، كما نرى في قصة "أطياف منتصف الليل" التي يختلط فيها الحلم، والخيال، فهل ما كان يراه بطل القصة حلما أم كان خيالا ووهما، أم أن البطل ميت كأبويه؟

الشكل القصصي في هذه المجموعة ليس وعاء لتجربة، بل هو التجربة نفسها، تنشأ بذلك جدلية النص والواقع، من سياقاته النفسية والاجتماعية والثقافية الداخلة في تكوينه

وكذا في قصة "دار أبي أحمد"، إسقاط رمزي للدار الآخرة التي تجمع الأبناء ولا تهتم بأنسابهم، يرى البطل تلك الدار هادئة وصامتة فيضعنا أمام تساؤل مبدئي عن سر هذا الصمت غير المعتاد في قرية تضج بأبنائها، لنكتشف أنه لم يكن إلا في حالة احتضار، يدلل على ذلك  سياق الجمل السردية التي تنفتح على تأويل آخر للخطاب السردي، مثل "قرر إيواء أي شخص تجبره الظروف على مغادرة القرية... شرط عدم المغادرة من الموقع المحدد له من الدار، وعدم الاتصال بأي شخص خارج حدودها". وبالفعل لا يتمكن أي من سكان القرية المحيطة بالتلة، التي تحتل تلك الدار سفحها، من رؤية أي منهم، فهذه الدار تنقطع تماما بروادها عن العالم الخارجي.

القرية فضاء سردي معقد

تمتاز أعمال وليد دماج بحسية عالية تجاه عناصر الحياة، فمن المواقف والأحداث الواقعية والروابط والعلاقات الإنسانية في المجتمع اليمني ومشكلاته، يصوغ سردياته الأدبية، لا كحكي فقط، بل كتعبير عن رؤية وأبعاد فلسفية خاصة، حتى في أعماله التي تتناول الحكايات الأسطورية والحكايات الخرافية والصوفية والكرامات، وقضايا الصراع السياسي والتطرف الديني .

وكثيرا ما تكون القرية هي فضاء الحدث، وإن لم تكن فإننا نرى انعكاسها في البعد الفانتازي للسرد الذي يتكئ كثيرا على حكايات القرية الخرافية، وتشكيلها للوعي الفردي والجمعي، لتصبح المادة الأولى لشخصيات السرد في هذه المجموعة.

الشكل القصصي في هذه المجموعة ليس وعاء لتجربة، بل هو التجربة نفسها، تنشأ بذلك جدلية النص والواقع، من سياقاته النفسية والاجتماعية والثقافية الداخلة في تكوينه، وعلاقته بالمحيط علاقة امتصاص وانتخاب عبر اللغة، وعين الروائي عدسة حساسة أعاد من خلالها وليد دماج إنتاج واقع مخصب بالخيال برؤية فنية خاصة.

وهذا يتطابق مع ما قاله الكاتب الألماني توماس مان، من أن مهمة القاص ألا يقص علينا أحداثا عظيمة، بل أن يجعل الأحداث الصغيرة مثيرة للاهتمام، من خلال التقاط الأحداث العابرة والهامشية، ليصوغ منها فلسفة وطبيعة خاصة للقصة القصيرة.

font change