مصطلح "المؤثرين"، الذي يصاغ عادة على هذا النحو بصيغة الجمع، أصبح يطلق في السنوات الأخيرة على شريحة من الأشخاص الذين يملكون حضورا قويا في المنصات الرقمية، ويعرفون بقدرتهم على صناعة "الأحداث"، والتأثير في الرأي العام، أو في أنماط الاستهلاك أو حتى في الذوق الثقافي.
كلمة "Influencer" في الأصل كلمة تسويقية، تشير إلى من له تأثير على سلوك المستهلك. الترجمة العربية توسع من فعل "التأثير" الذي لا يعود يقتصر على البيع والتسويق، بل يطول القيم والأنماط الاجتماعية.
"المؤثر" نتاج "اقتصاد الانتباه" Attention Capitalism، حيث يحول الشخص ذاته إلى منصة، ويصبح سلعة في ذاته. تأثيره مبني على علاقات افتراضية (متابعون/مشاهدات) أكثر من كونه سلطة فكرية أو فنية. فنحن، بالتالي، أمام نوع من "تسليع للذات" و"مسرحة للحياة اليومية". كل فعل، وكل إحساس يصبح قابلا للتصوير والاستهلاك، وموضوعا للتأثير.
إدارة الصورة
في السابق كانت الرموز الثقافية تكتسب عبر إنجاز فكري أو فني أو موقف أخلاقي، أما "التأثير"، فهو يكتسب اليوم عبر القدرة على إدارة الصورة والظهور المستمر، حتى لو كان المحتوى هزيلا أو فارغا. هذا التحول يطرح سؤالا حول صدقية "التأثير": فهل التأثير حقيقي أم هو مجرد خوارزميات توزع الانتباه؟
نحن أمام ظاهرة تفريغ للسلطة الرمزية: فسلطة "التأثير" تقاس كما بعدد المتابعين، وغزارة "اللايكات"، وليس بعمق التحليل ودقته. فحين نقارن "المؤثر"، كما هو اليوم، بما كان عليه "تأثير" المثقف أو السياسي أو النقابي، نلاحظ أن تأثير هؤلاء لم يكن مجرد صفة إحصائية أو رقمية، بل كان مشروطا ببنية اجتماعية كاملة. المثقف يستمد تأثيره من رأسمال رمزي (معرفة، فكر، إبداع، قضية، مواقف أخلاقية)، هذا ما يمنحه شرعية مستقلة عن الجمهور المخاطب، أما السياسي فيستمد تأثيره من سلطة التمثيل (انتخابات، حزب، جهاز دولة)، في حين يكتسب النقابي تأثيره من كونه "متحدثا باسم" طبقة، أو مهنة، أو حركة. هؤلاء الثلاثة مرتبطون بــ"هيئات" أو مؤسسات تمنحهم إطارا ومشروعية، أما المؤثر فيحصل على "شرعيته" من عدد "المتابعين". إنه مشروع فردي قائم على بناء صورة ذاتية.
فضلا عن ذلك، فإن علاقة المثقف والسياسي والنقابي بمن يخاطبه تتضمن بعدا نقديا: المثقف قد يخاطب الجمهور ليعلو به من اللحظة الآنية إلى أفق أوسع، والسياسي يقدم برنامجا ليحاسب عليه في ما بعد، أما النقابي فيفاوض باسم جماعة حول ملفاتها المطلبية. أما في حالة "المؤثر" فإن العلاقة تبادلية أكثر منها نقدية: محتوى مسل محفز ومثير، مقابل انتباه عدد من المتابعين والمعجبين، من غير حاجة لا إلى عقد اجتماعي ولا تمثيل ولا التزام.