صناعة المؤثرين ثقافيا واجتماعيا

هم الظاهرة المعاصرة التي تعيد رسم خارطة "السلطة الرمزية"

صناعة المؤثرين ثقافيا واجتماعيا

استمع إلى المقال دقيقة

في الزمن الذي فقدت فيه القنوات التلفزيونية والصحف الهيمنة الإعلامية، برز محلها جيل جديد من أقطاب الرأي والفاعلين الاجتماعيين. وكثيرون منهم لا ينتمون لمؤسسات تقليدية، ولا يحملون مؤهلات أكاديمية، ولا الأدوات الفكرية أو المعرفية اللازمة، ما يفتح الباب أمام تصدير أفكار فتّاكة، ويسهل الخوض في قضايا دينية أو اجتماعية معقّدة؛ كونهم انطلقوا من هواتفهم المحمولة، وصفحاتهم الشخصية على المنصات الرقمية، مشكلين موجة كاسحة من التأثير الجماهيري.

"المؤثّرون" هم الظاهرة المعاصرة التي تعيد رسم خارطة "السلطة الرمزية" في المجتمعات، وتطرح أسئلة شائكة عن معنى التأثير وحدوده، ومآلاته وآثاره: فهل يستطيع المؤثر حقا تجاوز دائرة الترفيه، إلى الحضور الفعّال في الثقافة والمعرفة والمجتمع؟ وهل كثير مما نراه اليوم هو سلطة ناعمة أم مجرد تشوه بصري إعلامي يستحق إدراجه ضمن مخالفات الذوق اللفظي العام؟ ثم ما الذي تحتاجه هذه الصناعة الناشئة، لتكون رافعة للوعي بدل أن تكون مجرد وسيلة للاستهلاك البصري والمحتوى السريع؟

لقد أشار خبراء الإعلام الرقمي إلى أن السلطة الجديدة، تعتمد على مزيج من القرب الشخصي والمرونة البصرية والتفاعل اللحظي، عكس الإعلام الرسمي الذي يقدّم "المؤثرين" باعتبارهم أشخاصا عاديين يتكلمون لغتنا، ويشاركوننا لحظات الهشاشة، أو النجاح، مما يخلق نوعا من "السلطة الشعبية" التي يصعب تحقيقها عبر الوسائط التقليدية. وعلى الرغم من أن هذه العلاقة، قد تبدو سطحية فإنها تحمل أبعادا نفسية وسلوكية عميقة ومخيفة أيضا.

وهذه السلطة لا تستمد شرعيتها من المؤسسة، بل من الجمهور ذاته، وهي الصورة النمطية الطاغية على الأصعدة الاجتماعية، بشتى اختلاف معتقداتها ومذاهبها وشرائعها كونها تنمو بازدياد معدلات التفاعل والإعجاب والمشاركة والانتشار السريع. لكنها في المقابل سلطة هشة نتيجة اعتمادها على الخوارزميات التي تجعل من المؤثر مرة في قمة التفاعل، وأخرى تحت صمت المنصات لمجرد تغيّر مزاج الجمهور أو نوعية العرض أو تحول مسار الخوارزميات.

التأثير الحقيقي لا يُقاس بعدد الإعجابات والمشاهدات، بل بمعايير وجودة تجعل القياس عادلا ومنصفا، كالمساهمة بمحتوى يحرك الوعي الجمعي أو يفكك الصور النمطية

ناهيك عن أن الانتقال من دور "المُسلّي" إلى "الأراجوز" وفجأة إلى مُثقف أو محفّز للتفكير ليس مسارا سهلا، بل يتطلب وعيا بالمسؤولية، وإدراكا للبُعد الثقافي والمجتمعي، الذي يترتب على امتلاك منصة يتابعها آلاف أو ملايين الناس. فالتأثير الحقيقي لا يُقاس بعدد الإعجابات والمشاهدات، بل بمعايير وجودة تجعل القياس عادلا ومنصفا، كالمساهمة بمحتوى يحرك الوعي الجمعي أو يفكك الصور النمطية ويطرح أسئلة جوهرية عن المجتمع والهوية والعلاقات والقيم.

ويمكننا إرجاع بروز عدد كبير من "المؤثرين" في جميع أنحاء العالم إلى تخفيف القيود التنظيمية على الإعلام، والمشاركة الثقافية، ففي السعودية مثلا لم يعد النموذج التقليدي للرجل أو المرأة هو السائد الوحيد، بل ظهرت تمثيلات متعددة ومتنوعة شملت: المبدع، والريادي، والناشط، والناقد، والمبتكر، وحتى المتمرّد الثقافي، مما أعطى صورة أكثر ثراء للمجتمع السعودي. وحينما يظهر مؤثر سعودي في محتوى عالمي، أو يطرح موضوعا محليا بلغة أخرى، أو يُدرج في تصنيفات دولية، فهو لا يمثّل نفسه فقط، بل يصبح سفيرا غير رسمي لصورة بلاده، وهذا- بلا شك- يحمّله مسؤوليات مضاعفة.

ما يلفت النظر في بعض التجارب العربية أن "المؤثرين" لم يعودوا نتاجا "للسوشيال ميديا" بل صار بعضهم يتدخل في صناعة الأجندات الثقافية، ويقودون حملات مجتمعية، ويدخلون في شراكات مع مؤسسات دولهم، وربما يستعان بهم أحيانا كصوت شعبي موازٍ في الترويج لمشاريع بلدانهم، أو التحدث بصفته الشخصية مغلفا بصوت سياسي، أو اجتماعي خفي. وهذا التداخل بين الرسمي والشعبي، والمؤسسي، والفردي يعد أحد أبرز ملامح "الرقمنة" العالمية الحديثة التي تدخلت في تغيير حجم التحول، في طبيعة الفاعلية داخل المجتمع.

ولهذا ظهرت الإشكاليات والتصرفات التي شوهت هذا الانعكاس المجتمعي، وسرّبت التضليل الثقافي، كتقديم المؤثر صورة نمطية مشوّهة عن الواقع، أو تعميمه لتجاربه الفردية، باعتبارها معيارا للنجاح أو الحكمة. أو كالترويج المستمر لأنماط معينة من الاستهلاك، أو رفاهية مفرطة، أو معايير الجمال الاصطناعي ما تسبب في خلق فجوة بين الواقع والمتخيَّل، فجوة تتضخم كل يوم، وتصنع إحباطا اجتماعيا خفيا غير مُعلَن بين فئة الشباب، وصدمات نفسية بين فئة الأطفال.

المؤثر الحقيقي ليس من تسلّط عليه الأضواء، بل من يضيء طريق الآخرين

ما الذي نحتاجه إذن؟ وما الواجب فعله لصناعة ثقافية واجتماعية مؤثرة وناضجة؟ هل يكفي إيجاد بيئة حاضنة، ورؤية استراتيجية، ومراجعة دورية للقيم التي تنقل، وتُنشر؟ أم يُحفز المحتوى الثقافي والتعليمي المميز بمنح جوائز حكومية، ورعاية برامج، ودعم المنصات التي تقدّم محتوى أصيلا وغنيا. أم بتعزيز الثقافة الرقمية عبر تعليم الشباب مهارات القراءة الناقدة، ورفض التلقين البصري، وفهم كيفية عمل الخوارزميات والاقتصاد الرقمي؟ أم ببناء أخلاقيات التأثير من خلال مواثيق شرف مهنية، وتدريبات "المؤثرين" الجدد حول مفاهيم رئيسة كالخصوصية، والمصداقية، والتنوع، وتعميم مقولة: المؤثر الحقيقي، ليس من تسلّط عليه الأضواء، بل من يضيء طريق الآخرين؟

font change