وسائل التواصل التي تجعلنا أسرى الماضي

كيف صرنا موظفين لدى شركات التكنولوجيا؟

AP
AP

وسائل التواصل التي تجعلنا أسرى الماضي

ترى الباحثة الأميركية كيت إيكورن التي تشغل منصب أستاذ مساعد ورئيس قسم الثقافة والإعلام في الكلية الجديدة في نيويورك، أن النسيان بات مستحيلا في العصر الرقمي الذي يعمل على توثيق كل حركاتنا وسكناتتا.

وتقارن الباحثة في كتابها "نهاية النسيان" بين مراحل الطفولة والمراهقة والشباب ما قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وما بعدها. الانقلاب الجذري كما تنظر إليه، يتعلق بالتعامل مع موضوع النسيان الذي كان أمرا بسيطا وعابرا في القرن العشرين، وتحول إلى أمر أقرب إلى المستحيل في القرن الحادي والعشرين مع سطوة التوثيق المحكم الذي يخلفه التعامل مع منصات التواصل الاجتماعي.

جميع تعبيراتنا وصورنا وملفاتنا وتعليقاتنا تتحول إلى "بيانات" تخلف بصمة رقمية لا تمحى، وتفتح فجوات زمنية تتسرّب من خلالها كل رضوض الماضي وصدماته وحماقاته وتعود على الدوام لتمنعنا من النمو والتطور، وتخلق مجال التنمر السيبراني الذي تجاوزت نتائجه السلبية الإزعاج والتسبب بخلل اجتماعي ووصلت إلى حدود التسبب بالانتحار والقتل.

الباحثة الأميركية كيت إيكورن

 جميع تعبيراتنا وصورنا وملفاتنا وتعليقاتنا تتحول إلى "بيانات" تخلف بصمة رقمية لا تمحى، وتفتح فجوات زمنية  تتسرّب من خلالها كل رضوض الماضي وصدماته وحماقاته وتعود على الدوام لتمنعنا من النمو والتطور


الذاكرة القمامة

يروي الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في قصة قصيرة له تحمل عنوان "فونس قوي الذاكرة" قصة شخص تعرض لحادث سقوط عن ظهر حصان وبات بعدها غير قادر على نسيان أي شيء.

يقول بطل القصة  معبرا عن حالته: " لديّ من الذكريات أنا وحدي أكثر مما لدى كل البشر مذ صار العالم عالما، أحلامي شبيهة بسهركم، ذاكرتي هي متل مفرّغ القمامة".

الفرق الشاسع بين ذاكرة فونس الخارقة وذاكرة الشخص العادي، يتضح كما ورد في القصة من خلال "إننا بإلقاء نظرة واحدة ندرك أن ثمة ثلاث كؤوس فوق مائدة، بينما يدرك فونس كل الفسيلات والعناقيد والثمار التي تحويها سقيفة كرمة".

توفي بورخيس قبل ظهور موجة وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت كل واحد منا نوعا من فونس لا يستطيع أن ينسى أي شيء في عالم التوثيق الفائق والمفرط.

التعبير جاء على لسان بطل قصته القصيرة الذي يصف هذا النوع من الذاكرة بأنه مستودع قمامة، وهو الأصلح لوصف أحوال ذاكرة خلقتها وعممتها وسائل التواصل الاجتماعي مُطلقةً نظام تذكر شاملا بلا تدقيق ولا فرز، جعل كل فرد سجين أفعال ماضيه، عاجزا عن تجاوزه وإعادة إنتاج ذاته من جديد. عالم التخزين الرقمي ليس سوى عالم الذاكرة القمامة التي لا تختفي أبدا وتعود لتنتشر على الدوام في حاضر المرء، فارضة عليه نوعا من العودة الإكراهية إلى ما ارتكبه من أخطاء ليست سوى جزء من مسار نموه الطبيعي والعادي.

 تخزين تلك الأخطاء وظهورها المستمر في فترات لاحقة من حياة المرء، يحولانها إلى فضائح لا تمحى، تذيب كل ما أنتجه في حياته، وتحصره في ما يطلقه عليه جلادو وسائل التواصل من أوصاف حبلى بالتنمر، فيصبح وكأنه سقط في هوة لا قرار لها وبات عاجزا عن تدبّر شؤون عيشه اليومي والخروج إلى العالم بوجهه الجديد المصنوع من تراكم الخبرات والتجارب والنضج.

 

من الطباعة إلى الفيديو

ارتبطت النظرة إلى الطفولة كا ارتبط فصلها عن عالم الكبار بالتطور في مجال الاعلام والنشر. مع انتشار الطباعة بدأ الأدب المخصص للأطفال بالظهور والانتشار، بعدما كان الأطفال يعاملون في الغالب بصفتهم أشياء تضاف إلى المشاهد الطبيعية أو لا تظهر إلا بوصفها ظلالا باهتة للأهل والكبار.

قبل ذلك وفي زمن اللوحة الفنية كان الأطفال يرسمون بوصفهم جزءا من سياق أكبر يحتويهم ولا يمنحهم أهمية تذكر. تشهد على ذلك لوحات أنيبال كاراتشي، وإيفرهارد جباش وجان ميشلان.

الإطار الأولي لمنطق وسائل التواصل الاجتماعي الحديث بدأ مع انتشار التصوير الفوتوغرافي الذي كان في بدايته خارج متناول الأطفال مع أنهم كانوا أحد مواضيعه الأثيرة. فكانوا يعرضون في إطار يحظى الكبار بالسيطرة التامة عليه لناحية استحالة تخيل طفل قادر على التعامل مع الكاميرات الأولى الثقيلة، أو امتلاك تقنيات تظهير الصور في الغرفة المظلمة وغيرها.

سمح التطور السريع للتصوير الفوتوغرافي بالتعامل مع الأطفال كشخصيات مستقلة عن الأهل، مع  منطق المخترع ورجل الأعمال ومؤسس شركة "كوداك" جورج ايستمان الذي قال لموظفيه إن "ما نفعله خلال ساعات العمل يحدّد ما لدينا في العالم، وما نفعله في ساعات اللعب يحدّد ما نحن عليه". كان تفكير إيستمان يؤسّس لصناعة تعمل على تحويل اللعب إلى مورد لا ينضب، من هنا جاء اختراع كاميرا "براوني" الزهيدة الثمن والموجهة بشكل خاص إلى الأطفال، باعتباره بداية الاعتراف بهم كقوة استهلاكية تستحق مخاطبتها بشكل خاص.

كاميرا "براوني" التي أطلقت في العام 1900 بتكلفة دولارين أي ما يعادل حاليا 60 دولارا، هي أول كاميرا موجهة إلى جمهور واسع، وقد سميت تيمنا بسلسلة كتب أطفال شهيرة من العصر الفيكتوري من تأليف بالمر كوكس. مع هذه الكاميرا بدأ الأطفال يوثقون لأنفسهم من خارج عالم الكبار، لكن العقبة التي حالت دون خلق مجال تمثيل كامل وخاص للطفولة، تمثلت في الرقابة التي فرضتها متاجر التصوير الفوتوغرافي.

استمرت سيطرة "براوني" على الأسواق حتى ستينات القرن الماضي إلى أن ظهرت كاميرا "بولارويد سوينغر" الفورية التي اتجهت بشكل خاص إلى المراهقين. مع "بولارويد" التي لا تحتاج الى متجر لتظهيرها، بات المراهقون صنّاع صورهم الخاصة ومادتها الأساسية، وبدأ عالم الكبار يتلاشى، ومعه شرع عالم النسيان يتضاءل وإن بشكل محدود ليقتصر على عدد النسخ التي تصور وتصبح قيد التداول.

أما الطفرة التي سبقت انفجار التوثيق الفائق لوسائل التواصل الاجتماعي فكانت مع كاميرا التصوير بالفيديو plx-2000 التي ظهرت عام 1987 وسمحت بتكوين نظام تمثيل خاص وجديد أخرج الرغبات والخصوصيات إلى العلن.

لا يزال فيلم "مي آند روبيفروت" لسادي بينغ الذي ظهر في العام 1989 وصوّر بكاميرا من هذا النوع، يقدم شهادة استثنائية عن عالم رغبات المراهقات من ناحية، ويؤرّخ لبداية عصر التوثيق الفائق الذي كان لا يزال بحاجة إلى آلية تداول مفتوحة ودائمة حتى يصبح غير قابل للمحو.

كانت هشاشة مثل هذه الوسائط وعدم قدرتها على الصمود لفترة زمنية طويلة، يحدّان من دائرة انتشارها، لكنها أطلقت في الفضاء العام العوالم الخفية للمراهقين بمواد من إنتاجهم كانت آيلة للتداول بمجرد تصويرها، وهذا ما لم يكن ممكنا من قبل.

 تخزين تلك الأخطاء وظهورها المستمر في فترات لاحقة من حياة المرء، يحولها إلى فضائح لا تمحى، تذيب كل ما أنتجه في حياته، وتحصره في ما يطلقه عليه جلاّدو وسائل التواصل من أوصاف حبلى بالتنمر، فيصبح كأنه سقط في هوة لا قرار لها وبات عاجزا عن تدبّر شؤون عيشه اليومي


الهروب والعودة الدائمة

في تسعينات القرن الماضي، بدأ الاندفاع نحو استخدام تكنولوجيا الإنترنت الوليدة التي أخذت تظهر بشكل قابل للاستخدام العام، بهدف التحرّر من التاريخ الشخصي والعالم المادي.

وصفت عالمة الاجتماع شيري توركل في كتابها الصادر عام 1995 بعنوان "الحياة على الشاشة" هذه التكنولوجيا بأنها "فضاء للنسيان"، يدافع عن فكرة مفادها أننا "عندما نخطو عبر الشاشة إلى المجتمعات الافتراضية نعيد بناء هوياتنا على الجانب الآخر من المرآة".

أفكار توركل متناغمة إلى حد كبير مع السياق العام الذي يجعل الإنترنت منتجا لخطاب تحرير الذات والهروب.كان مجال الإنترنت مثلما حدّده الباحثون في التسعينات مرتبطا بالخيال والهروب وتقمص الأدوار الجديدة.اعتمدت توركل على عمل المحلل النفسي إريك إريكسون وتحديده لمفهوم الموراتوريوم في كتابه "الطفولة والمجتمع" الصادر في العام 1950.

اعتبر إريكسون أن المراهق يتعامل مع العالم انطلاقا من عقل الموارتوريوم الذي يعني التأجيل الأخلاقي، وهي مرحلة وسطى بين الطفولة والبلوغ. أما توركل فتفسر المسألة بأنها لا تتعلق بالتجارب نفسها، بل بما تفرزه من تبعات. بقيت المراهقة على العموم بالنسبة إليهما فترة نجاة من العواقب. الموراتوريوم عند إريكسون "هو فترة تمتاز بالتسامح من قبل المجتمع والمرح الاستفزازي من قبل الشباب".

وعدت تكنولوجيا الإنترنت في بدايتها بتقديم تجارب آمنة حتى في زمن الأزمات الاقتصادية والإيدز، فكانت تمثل عمل الخيال الخاص الذي يسمح بالتهرب من فكرة الحدود وارتبطت عمليا بفكرة الحرية والفردية وفتحت مجالا لتعزيز الخصوصية.

مع ظهور "فيسبوك" عام 2004 تحول الإنترنت إلى مجال مغاير تماما، وصار ذلك العالم الذي يؤمن مساحة هروب يتقلص شيئا فشيئا لصالح الذات الطبيعية ووقائع العالم الفظة، وبدأت مع تلك المرحلة مرحلة انحفار الآثار الرقمية وتراكم ما يسمّى بالبصمة الرقمية. بات مصطلح الفضاء السيبراني المستقى من روايات الخيال العلمي أقرب إلى أن يكون توصيفا دقيقا لأحوال التعامل مع فضاء جديد يعادي فكرة الهروب من الذات، ويعيد المرء إلى صيغ محددة منها، كان يعتقد أنه يمكنه تجاوزها ونسيانها.

Shutterstock

ميمات وموت

في العام 2002 وقبل عامين من ظهور موقع "يوتيوب"، صوّر الطفل غيسلين زارا فيديو وهو يستخدم سيفا ضوئيا بدائيا، ويقلد بشكل أخرق إحدى شخصيات  سلسلة أفلام "حرب النجوم" الشهيرة. عثر أحد زملائه على هذا الفيديو بالمصادفة، وبعد فترة وفي عام 2003 حمله زميل آخر على شبكة الإنترنت، وبعدها حُمّل أكثر من مليون مرة ليتحول معه زارا إلى أول "ميم" على الإنترنت.

كان لانتشار الفيديو أثر كارثي على زارا فقد خسر أصدقاءه وتحولت حياته إلى جحيم ولم ينجح أي إجراء في وقف التسارع المستمر لانتشار الفيديو. وعلى الرغم من اتخاذ والديه إجراءات قانونية، وصل عدد مشاهداته حين عرض على موقع "يوتيوب" الى 27 مليون مشاهدة، وأعيد تمثيله وإنتاجه في برامج مثل "كولبير ريبورت"، مما دفع بالباحثة دانا بويد إلى تحليل تلك الظاهرة معتبرة أن التعامل مع هذا الفيديو يعطى مثلا "كيف أن التشهير الجماهيري الجماعي هو نتيجة ثانوية لاهتمام الإنترنت الواسع النطاق وللتوزيع الشبكي".

ظل الفيديو يلاحق زارا خلال دراسته للقانون في الجامعة، وبعد سلسلة من المحاولات اليائسة لفصل نفسه عنه، تحدّث في العام 2013 عن الموضوع بهدف مساعدة الأطفال الآخرين على مواجهة مشاكل التنمر السيبراني. ففي مقابلة مع مجلة "لاكتوياليتي" الفرنسية قال عن تلك الفترة إنها كانت مظلمة للغاية وإنه شعر خلالها بالدونية وعدم أحقيته في العيش في هذه الحياة. هذا كله يعلن بوضوح أنه صار إلى الأبد "طفل حرب النجوم".

قصة رحلة بارسونز أكثر درامية، فقد شاركت المراهقة في حفلة منزلية في العام 2011 وتعاطت مشروبات كحولية جعلتها تتقيأ. تعرضت بعدها للاعتداء على ايدي مجموعة من المراهقين، وصوّر الأمر وتسربت المقاطع الى الإنترنت وبدأت معها رحلة معاناة طويلة وصفت خلالها بالعاهرة ووجدت نفسها محاصرة اجتماعيا. ومع أن تحقيقا فتح حول هذه الواقعة، لكنه خلص إلى نتائج مفادها أنه لا توجد أدلة كافية تسمح بتوجيه اتهامات، وفي يوم 4 أبريل/نيسان من العام 2013 انتحرت بارسونز لتكون قصتها شاهدا قاسيا على خطر التنمّر السيبراني.

مع ظهور "فيسبوك" صار ذلك العالم الذي يؤمّن مساحة هروب يتقلص شيئا فشيئا لصالح الذات الطبيعية ووقائع العالم الفظة، وبدأت مع تلك المرحلة مرحلة انحفار الآثار الرقمية وتراكم ما يسمّى بالبصمة الرقمية


الرأسمالية التواصلية والنسيان

حاولت الكاتبة دانييل كولبرت إخفاء كتابها الأول المنشور في عام 1961 وحرصت على جمع كل النسخ المتداولة. كانت تؤمن أن في مقدورها اتمام هذه العملية وحدها وأن الأمر مرتبط بها وخاضع لإرادتها وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.

 نجت نسخة من عملية الإعدام لكنها لم تنشر إلا بعد وفاتها. كان الأمر ليكون مختلفا الآن، لو أن كولبرت من مواليد التسعينات. فالكتاب كان سيصير كتابها الأخير، بمعنى أنها ستوصف من خلاله على الدوام، وستكون محاولة إخفائه المستحيلة مستقلة عن إرادة الكاتبة ولا تنفع سوى في توليد البيانات.

يختلف يريد المرء أن يمحوه، وأحيانا قد يكون ضروريا لكنه عموما يتعارض مع شبكة مصالح اقتصادية ضخمة لشركات التكنولوجيا الكبرى. الرغبة في الاختفاء  تعطل آليات عمل محركات التكنولوجيا القائمة على توظيف البيانات وتحليلها لتطوير خدماتها. فالصراع لم يعد بين الذاكرة والنسيان بل بين النسيان والقيمة السوقية المتزايدة للبيانات.

ضرورة أن يتمكن الشباب من ارتكاب الأخطاء والاستمرار في حياتهم، تشكل هموم صنّاع تشريعات محو البيانات التي تواجه القوانينُ المرتبطة بها تصنيفات العام والخاص، ومسألة تعارض حق الفرد في أن يُنسى مقابل المصلحة العامة.لكن المعضلة تكمن في أن وسائل التواصل نفسها هي التي تجعل الأشخاص شخصيات عامة.

تصف الإعلامية جودي دين القيمة المتفاقمة للبيانات بأنها "رأسمالية تواصلية" حيث "القيمة للتداول نفسه وليس للمحتوى". هذا ما يفسر عدم أهمية توظيف الإنترنت في التعبيرعن حركات سياسية وتحررية مثل "الربيع العربي"، وحركة "حياة السود مهمة"، وحركة "احتلوا" التي أطلقت شعارات تخالف سياسات الشركات المنتجة للتقنية، كما كانت الحال مع شركة "زيروكس" التي طورت تقنية التصوير الجاف، مقدّمة بذلك خدمة سهلة وقليلة التكلفة للنشطاء الذين استعملوها لإصدار منشورات ومطبوعات بسعر زهيد.

في العالم السيبراني وفي وسائل التواصل الاجتماعي ومع التطوير المستمر لتوظيف المعلومات، يتحول كل نشاط إلى بيانات متراكمة، تُفرز وتوظّف لغايات تتناقض مع أهداف أصحابها. فالرأسمالية التواصلية وفق جودي دين قادرة على استيعاب كل ما نضطلع به "وتحويل كل تفاعلاتنا إلى مادة خام لرأس المال".

 

ضرورة النسيان

صورتك على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تضر بمستقبلك الوظيفي أو الشخصي أو المهني. ففي دراسات حديثة ظهر أن ثلث مسؤولي القبول في الجامعات بحثوا عن المتقدّمين عبر الإنترنت، وفي 2017 ألغت جامعة هارفرد الطلبات المقدّمة من عشرة طلاب ثانويين بعدما تبينت مشاركتهم بميمات مسيئة لمجموعة خاصة على "فيسبوك" للطلاب المقبولين.

تنتشر حاليا عمليات تجميع بيانات الهوية على الإنترنت وتنظيمها وتنظيفها وخدمات إدارة البصمة الافتراضية وفحصها وتنظيفها، وقد يمهد هذا الأمر في مستقبل قريب لنشوء مهنة تنظيف السجلات الرقمية.

كانت وسائل التواصل القديمة مجرد علامات تعريفية يمكننا التحكم فيها وضبطها واتخاذ قرارات في شأن من نتواصل معهم بواسطتها ومن نتوقف عن التعامل معهم.  لم يعد مثل هذا السياق ممكنا مع وسائل التواصل الحديثة التي سجنت الفرد داخل المجال الذي يمثله بيته الأول. فانتقاله إلى عالم جديد وبيئة جديدة لا يعني خروجه من أسر دوائر الاتصال القديمة التي تحضر معها كل الشبكات الاجتماعية التي خلفها وراءه.

لم يطبع هذا الاتجاه تجارب الأفراد وحسب بل دمغ تجارب عريضة مثل تجربة الهجرة. ففي حين كان مهاجرو الأمس ينتقلون إلى مجال آخر ويفقدون الصلة بالتجارب السابقة وخصوصا المؤلمة منها ويشرعون في النمو والشفاء، فإنّ مهاجري اليوم من خلال ارتباطهم الدرامي بشبكاتهم الاجتماعية عبر تطبيقات مثل "العثور على أصدقائي عبر الآيفون وغيرها"، يبقون متصلين مع مواضيع الألم بحيث يصبح التعافي صعبا وشاقا.

يصرّ نيتشه أن "النسيان ليس مجرد قوة قصور ذاتي ساكنة مثلما يعتقد الناس السطحيون، بل هو بالأحرى قدرة نشطة على القمع وإيجابية بالمعنى الأقوى للكلمة".أما فريديريك بارتليت في كتابه "التذكر" الصادر عام 1932 فيقول إن "النسيان يحمل أهمية نفسية كبيرة".

طوّر عالِما الأعصاب مايكل أندرسون وسيمون هانسلماير مفهوم "النسيان المحفز"، فهما يعتبران أن الحفاظ على المشاعر الإيجابية أو التركيز والإيمان بحالة معينة والثقة أو التفاؤل، قد يقتضي ضرورة تقليل إمكان الوصول إلى التجارب التي تقوّض تلك الحالات. ويلاحظ عالم النفس التجريبي بنجامين ستورم أنه بقدر ما يكون النسيان محبطا نكون أحسن حالا بوجوده مقارنةً بعدمه.

يتحدث فرويد عن الذاكرة المقنّعة ومغزاها أن ذكريات الطفولة تخضع لعملية مونتاج عبر ربطها بشيء آخر أو عبر إخفاء ما جرى في الوقت نفسه، وتتحدّد مهمتها في حماية الشخص من التذكر القاسي لأحداث مرعبة غير قابلة للاحتمال. أثبت علماء الأعصاب المعاصرون أن الذكريات تخضع لعملية تحديث دائمة وعملية إحلال حدث مصفّى محلّ حدث مزعج وخصوصا خلال الحروب والأزمات الكبرى، ويعطون مثلا على ذلك تذكر فقدان لعبة شخصية خلال الحرب.

ذلك العمل الدفاعي الذي تقوم به الذاكرة قبل وسائل التواصل الاجتماعي والتوثيق الفائق، كان يدفع في اتجاه الفلترة ونسيان ما لا يحتمل، ويسمح بالسير قدما لكنه بات مستحيلا الآن. ذلك أن كل ما عشناه من مواقف يهاجمنا باستمرار وعنف. لقد باتت ذاكرتنا خارجة عن سيطرتنا، وبتنا خاضعين لنظرة الآخر المتنمرة التي تحاصرنا في عالم من الخزي والمخاوف.

مفردة نافذة التي كانت تعني سابقا الإطلال على الخارج أصبحت تعني الآن نافذة الإنترنت التي لا يمنع إغلاقها الآخر من إمعان النظر في خصوصياتنا والتنقيب فيها.

البيانات باتت تملك وجودها الخاص غير الموصول بصاحبها، والخلاصة التي يطرحها "نهاية النسيان" أننا اصبحنا عموما أشبه بعمال سخرة لدى شركات التكنولوجيا الكبرى، تقتصر مهمتنا على توليد البيانات.

نهاية النسيان: صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، ترجمة أستاذ المثاقفة واللسانيات بجامعة محمد الأول عبد النور خراقي.

 

font change

مقالات ذات صلة