ثلاثة كتب عن الغناء اليمني وقصص أعلامه

أغان عبرت عن حياة الناس وأفراحهم وأحزانهم

ثلاثة كتب عن الغناء اليمني وقصص أعلامه

معظم الكتب التي تصدر عن الغناء اليمني تبدو لافتة ومشوقة للقارئ، لتناولها أسماء فنانات وفنانين صاروا جزءا من تكوين الوجدان اليمني الحديث. فأي كتاب يحتوي عل بعض سيرة محمد مرشد ناجي أو أحمد قاسم أو أيوب طارش أو أبو بكر سالم بلفقيه أو نبات أحمد أو محمد حمود الحارثي أو عبد الباسط عبسي أو أحمد فتحي، أو يتناول بعض أغانيهم الشهيرة، يعد بمثابة استعادة حياة للذين نشأوا على أغاني هؤلاء وهي تذاع في التلفزيونات والإذاعات المحلية.

من التقليد إلى الشارع

يُعد كتاب "من هنا مر الغناء دافئا: شعراء ومطربون يمنيون" للشاعر والباحث محمد عبد الوهاب الشيباني من أبرز الكتب التي صدرت خلال السنوات الأخيرة عن الغناء اليمني وشعرائه، فالكتاب الذي صدر عن "دار مواعيد" في صنعاء يبدأ بتناول أهم الشعراء الذين جددوا الأغنية اليمنية، وأبرزهم عبدالله سلام ناجي(1939-1999) الذي قاربت لغة قصائده اللهجة المحلية في تعز وعدن، كما بدا من خلال مجموعته الشعرية الأولى، "نشوان والراعية" (1964)، أو من خلال الأغاني التي غناها عدد من الفنانين، مثل "ميناء التواهي" و"قطفت لك" اللتين غناهما محمد مرشد ناجي (المرشدي)، وأغنية "نجم الصباح" التي غناها فرسان خليفة، و"غزير السلى" لمحمد عبده زيدي، و"الدودحية" التي غناها زيدي وخليفة، وتحاكي قصة حب شهيرة في اليمن تتحدث عن هروب فتاة مع ابن عمها، وتزامنت مع أغنية الشاعر مطهر الإرياني، "خطر غصن القنا"، التي غناها علي الآنسي وتحاكي القصة نفسها.

وقيل إن عائلة "الدودحية" جاءت إلى الرئيس اليمني عبد الرحمن الإرياني، في بداية السبعينات، تشتكي من تهكم الناس عليهم بأغان فيها قصة فتاتهم، فعهد الرئيس الأمر إلى قريبه الشاعر مطهر، فكتب أغنية "خطر غصن القنا" على منوال اللحن الشعبي نفسه، ليلهي الناس، بجمال كلماتها وإيقاعها، عن القصة الأصلية.

يشير الشيباني إلى قصائد مطهر الإرياني (1933- 2016) التي اشتهرت بصوت المغنين، وأبرزها أغنية "البالة" التي غناها علي السمة، وتصور عذابات اليمنيين في الهجرة أيام حكم الأئمة، وأغنية "يا قافلة عاد المراحل طوال/ وعاد وجه الليل عابس" التي لا تختلف عن سابقتها في تصوير معاناة اليمنيين. وهناك أغان عاطفية شهيرة للإرياني مثل "وقف وودع" التي غناها علي الآنسي، و"قالت الهائمة" للفنان محمد قاسم الأخفش الذي لحن له أيضا أغنية "ألا جئنا نحييكم ونسمر معكم"، وغيرها من الأغاني التي يتتبعها الكاتب.

يتناول الشيباني بعض الأسماء المؤسسة في الغناء اليمني، إضافة إلى الثنائيات الشعرية الغنائية، ويخصص حيزا للأصوات النسائية ولمطربي الشارع

ومن الشعراء الذين كانت لهم بصمتهم الواضحة في الأغنية المعاصرة، الشاعر أحمد الجابري الذي له إنتاج غزير توزع بين عدد من المغنين وأبرزهم المرشدي وأيوب طارش وأحمد بن أحمد قاسم. ومن أشهر الأغاني التي كتبها "على أمسيري" و"أخضر جهيش مليان" و"عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم" و"هربوا جا الليل"  و"أشكي لمن" و"يا صبايا فوق بئر الماء" و"لمن كل هذي القناديل؟".

غلاف كتاب "من هنا مر الغناء دافئا" لمحمد عبد الوهاب الشيباني

يتناول المؤلف أيضا أحد أهم الشعراء الذين أثروا في الأغنية الحديثة، وهو سعيد الشيباني صاحب أغنيات "يا نجم يا سامر" و "من العُدين يا الله" و"حقول البن" و "يا طير يا رمادي".

أما الشاعر سلطان الصريمي فقد اشتهرت قصيدته "نشوان" التي كانت بمثابة بيان سياسي لا يزال يردد حتى الآن وغناها المرشدي، كما غنى له عبد الباسط عبسي أغنية "مسعود هجر" وغيرها من الأغاني الاجتماعية. ومن هذه التجارب اللافتة تجربة الشاعر محمد عبد الباري الفتيح وتجربة الفنان محمد سعد عبدالله الذي كان يكتب معظم أغانيه.

يتناول الشيباني عددا من المطربين الذين سبقت الإشارة إليهم هنا، إلى جانب بعض الأسماء المؤسسة في الغناء اليمني، إضافة إلى الثنائيات الشعرية الغنائية. ويخصص المؤلف حيزا للكتابة عن الأصوات النسائية الأولى، ويكتب عن فناني الشارع الذين كان على صلة بهم، وأبرزهم رشيد حريبي صاحب شعار "ادفع مئة تسمع أغنية".

سلطانة العود

في كتاب "نبات أحمد: سلطانة العود" الصادر عن "دار أروقة" في القاهرة، من إعداد حمدي الجعماني، نقرأ شهادة مهمة لفنانة عملت بجهد كبير من أجل إيصال صوتها. فإذا كان محمد الشيباني أشار في كتابه إلى تجربتها وتجارب أمل كعدل وفتحية الصغيرة ورجاء باسودان ومنى علي ونبيهة عزيم، فإننا هنا أمام تفاصيل أكثر عن جوانب من حياة هذه الفنانة، في كتاب يقدم، كما يقول الشاعر هاني الصلوي في مقدمته "صورة واضحة عن المرأة اليمنية والفن اليمني، وقبل ذلك عن المجتمع وحالاته العرفية والثقافية".

الفنانة نبات أحمد مع زوجها الثاني حيدر غالب

لذا، واجهت نبات أحمد (1955) منذ بدايتها "العادات والتقاليد والعيب الذي كان يعتبر غناء المرأة عورة"، وبسبب ذلك عاقبها والدها هي وأختها الفنانة روضة، وسجنهما في غرفة لمدة ثلاثة أيام، قبل أن يرضخ لرغبتهما بعد إلحاح منهما، بل إنه تصدى لعمهما حين أراد منعهما عن الغناء، وبقي مقاطعا له.

اللافت في تجربة الفنانة نبات هو شغفها بالغناء. تقول إنها لم تكن تذهب إلى المدرسة إلا لتغني للطلبة، وهي التي لحنت وكتبت الكثير من أغانيها.

كتاب يقدم صورة واضحة عن المرأة اليمنية والفن اليمني، وقبل ذلك عن المجتمع وحالاته العرفية والثقافية

وفي الكتاب، كما في أحاديث صحافية أخرى، تحدثت نبات عن غيرة زوجها الأول الفنان أحمد صالح الأبرش، الذي كان، بعد أن هاجرا إلى السعودية، يسجنها في البيت من شدة غيرته، لكنها لا تنسى وقوفه معها وتشجيعه لها، خاصة حين تعلمت العزف على العود أثناء مكوثها في البيت، فرأى أن ذلك أفضل له من أن يصاحبها شخص آخر أثناء تأديتها للأغاني.

تتحدث نبات عن انتقال أسرتها من ذمار إلى مدينة تعز وهي طفلة، وعن تسجيلاتها الأولى مع أختها روضة لإذاعة تعز، ثم لإذاعتي صنعاء وعدن، والتسجيل بعدها في الأسطوانات. هناك صعوبات وقصص ترويها الفنانة، التي قيل إن ربع اليمنيين رددوا أغانيها أثناء حفلات زواجهم. تتحدث عن دعم الفنانين الكبار لها وصداقتهم ومشاركتها في حفلات خيرية أيام المجاعة في تهامة رغم اعتراض بعض المسؤولين الذين ظنوا أن المجتمع محافظ ولا يتقبل أصواتا نسائية. وتشير إلى رقصة شهيرة لها مع الفنان محمد حمود الحارثي سجلتها لتلفزيون عدن منتصف سبعينات القرن الماضي، وانتشرت بعد أربعين سنة في "يوتيوب". وكانت تظن أنها لن تصل أبدا إلى شمال اليمن خوفا من ردود الفعل.

غلاف كتاب "نبات أحمد سلطانة العود"

وتقول إن وجودها في السعودية كان فترة لتألقها مع الفنان الأبرش، وأن تسجيلاتهما الغنائية في جدة وحفلاتهما هناك زادت شهرتهما. وهي الشهرة التي أدت بالراغبين في دعوتها الى حفلات الأعراس إلى الانتظار أشهرا عديدة. ومنها أقامت حفلات في جيبوتي والكويت وباريس وغيرها.

الفنانة التي تعيش حاليا في القاهرة، بعد اعتزالها، لا تتذكر زوجها الأول الأبرش أو زوجها الثاني حيدر غالب إلا بكلمات محبة وتقدير، كما هو حديثها عن الآخرين، ربما لأن كل ما صار لها أصبح مجرد ذكرى، لا مشاعر لديها تجاه ما كان، سوى السماح. ومع هذا، تأمل أن تعود يوما ما إلى اليمن لكي تستطيع أن تنشر صورها التي تركتها هناك.

أغاني الهجرة

منذ سنوات يعمل الباحث الفنان محمد سلطان اليوسفي بدأب على توثيق بعض تاريخ الأغنية اليمنية من زوايا موضوعية، وأنشأ قناة لهذا الشأن على "يوتيوب"، إلى جانب أبحاثه ومقالاته.

كتابه "الهجرة والاغتراب في الغناء اليمني" الصادر عن "دار أروقة" في القاهرة، يمثل أحد اهتماماته في التوثيق، ففي هذا الكتاب يدون أغاني الهجرة والاغتراب التي سمعها في أسطوانات أو أشرطة كاسيت، أو في حفلات وجلسات فنية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

نصوص الأغاني التي يقدمها الكتاب تكشف عن جوانب كثيرة من معاناة اليمنيين أثناء بعدهم عن وطنهم وأهلهم، إضافة إلى معاناة أهلهم في الوطن

يقدم الباحث في البداية شرحا لتلازم الأغنية مع اليمني، الذي كان كثير الهجرة والاغتراب عن وطنه. وهو هنا يفضل كلمة "الاغتراب" على "الغربة"، لما تحمله الأولى من دلالات نفسية وغيرها. ويشير إلى مصاحبة الأغنية لتطور وسائل السفر، فمن قوافل الجمال "الجمالة" والمراكب والسفن البحرية، إلى السيارات والطائرات. وكذلك تغيرت وجهات سفر اليمنيين مع الزمن، من إثيوبيا والصومال إلى بريطانيا وفرنسا وأميركا، ثم إلى دول الخليج.

غلاف كتاب "الهجرة والاغتراب في الغناء اليمني"

ولمعرفة كيف كانت التحولات تنعكس على الغناء اليمني، يعود بنا اليوسفي إلى أغنيات عديدة، مثل أغاني الجمالة وأشهرها أغنية الأبرش، "ألا شدوا الجمال ما عادناش جَمال". وتلك التي تذكر الوسائط البحرية، مثل أغاني يحيى عمر اليافعي، التي اشتهرت في عموم الخليج وتبدأ بلازمة "يحيى عمر قال" وتذكر "مركب الهند". وكذلك أغنية "البالة" لمطهر الإرياني والسمة التي تصور معاناة عامل يمني في "مركب" بالبحر. إلى أن تصل الأغنية إلى الطائرة، فنجد أبو بكر سالم بلفقيه يغني "يا طائرة طيري على بندر عدن"، وللشاعر اليمني يسلم بن علي يغني طلال مداح "في سلم الطائرة بكيت غصبا بكيت".

يورد مؤلف الكتاب الكثير من النصوص الشعرية المغناة التي قيلت في الهجرة والاغتراب، بعضها شهيرة ويرددها اليمنيون كثيرا، وبعضها يبدو أنه يُكتشف لأول مرة، بسبب عدم انتشارها، ربما لضعف في أدائها أو لأسباب أخرى حالت دون وصولها على نطاق واسع.

كتاب اليوسفي مهم لجهة الدراسات الاجتماعية، خاصة تلك المهتمة في الهجرة والاغتراب، فنصوص الأغاني التي يقدمها الكتاب تكشف عن جوانب كثيرة من معاناة اليمنيين أثناء بعدهم عن وطنهم وأهلهم، إضافة إلى معاناة أهلهم في الوطن جراء فراقهم والعيش بدونهم. وتتجلى هذه المعاناة أكثر في قصص الحب التي تحكيها الأغاني، المعبرة عادة عن أشواق الحبيبات والزوجات إلى أولئك الذين هاجروا ولم يعودوا. وإن كانت الأغاني تعود إلى النصف الثاني من القرن العشرين وتحديدا من الخمسينات إلى الثمانينات، فإنها تتجدد حاليا في أسماع اليمنيين الذين صاروا يعانون المشكلة نفسها إثر الهجرات الأخيرة بسبب الأوضاع الحالية.

font change

مقالات ذات صلة