زياد الرحباني ابن المؤسسة الرحبانية الحالم بالعودة إلى البيت

رحلة بحث عن فردوس لبنان الضائع

AFP
AFP
المؤلف والمسرحي اللبناني زياد الرحباني يحيي حفلا في افتتاح الدورة 55 من مهرجان الحمامات الدولي، على مسرح الحمامات، 2 أغسطس 2019

زياد الرحباني ابن المؤسسة الرحبانية الحالم بالعودة إلى البيت

أليس في كل ثانية من الحياة

إنسان يضحك؟

إذن في الأرض ضحك متواصل (زياد الرحباني، صديقي الله 1971).

لعل أكثر كلمة ترددت على شفاه الجميع وفي تعليقاتهم، في وصف زياد الرحباني وأثره وفرادته في المشهد اللبناني الفني والاجتماعي والسياسي، هي "العبقري". ذلك اللقب هو عينه الذي حمله وارث العائلة الرحبانية، صخرة ثقيلة على ظهره، منذ بداية تجربته الفنية في سبعينات القرن الماضي وحتى رحيله السبت الماضي عن عمر 69 عاما. بدا لا مفر من هذا اللقب، إذ كيف، بغيره، يمكن اختصار تجربة بمثل هذه الكثافة والتعدد والاتساع؟ فالرجل ليس موسيقيا فحسب، ولا هو شاعر فحسب، ولا مسرحي، ولا كوميدي (أسود)، ولا معلق سياسي وناقد اجتماعي، هو هذا كله معا، وهو فوق ذلك ابن المؤسسة الرحبانية العريقة، الأمين على استمراريتها، والمتمرد عليها في آن، حتى بدت "العبقرية"، الكلمة التي لطالما عبر عن كرهه لها، قدر كرهه لصفة المتنبئ، هي الوحيدة القادرة على الإلمام بكل هذه الأدوار والصفات.

الناطق باسم جيل

وبصرف النظر عن دقة الوصف، من عدمها، وعن مرادفاته المختلفة، فإنه يُرجع نبوغ زياد الرحباني في الموسيقى والمسرح وغيرهما، إلى سمات أصلية مزروعة فيه بالولادة، حتى إن أحد المعلقين لم يتردد بالقول إنها "الجينات" التي ورثها عن والده عاصي الرحباني ووالدته المطربة فيروز. وإذ يطلق الوصف نفسه أناس يقفون على الضفة النقيضة تماما من تجربة زياد الرحباني، موسيقيا وسياسيا على السواء، فإن هذا على قدر بداهته، يضمر رغبة في استدخال هذه التجربة ضمن الرطانة الشعبوية التي تعفي نفسها، إما جهلا، وإما بسبب مهابة الموت، من تحديد ملامح محددة للتجربة، وتستعيض عنها بالدخول في منطقة العموميات السهلة والآمنة.

لكن الأهم هو أن مراسم الوداع تلك، وداع "العبقري" الذي يمتلكه الجميع ولا يمتلكه أحد في آن واحد، تخفي وهي تحيله على "الوراثة" و"الجينات"، جانبا أساسيا من تجربته، وهو أنها لطالما كانت – على فرادتها الشديدة – تجربة جماعية أو على نحو أدق تجربة تنمو وتتطور ضمن مجموعة. فزياد الرحباني لم يكن فحسب ناطقا باسم قطاع واسع من أبناء جيله، بل كان جزءا من هذا الجيل ونتاجا لتطلعاته وأحلامه وتناقضاته، وأيضا لمواهبه المتعددة في مختلف المجالات الإبداعية.

زياد الرحباني لم يكن فحسب ناطقا باسم قطاع واسع من أبناء جيله، بل كان جزءا من هذا الجيل ونتاجا لتطلعاته وأحلامه وتناقضاته، وأيضا لمواهبه المتعددة

تكرر في مراسم وداع الرحباني الابن وما رافقه من تعليقات، ما حصل مع والده عاصي وعمه منصور، أو ما اصطلح على تسميته بـ"الأخوين رحباني"، حيث انتزع من سياق التجربة الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية التي رافقت هذه التجربة، وشارك بها العشرات إن لم يكن المئات من الشعراء والصحافيين والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين والنشطاء السياسيين إلخ، واختصرت التجربة برمتها بـ"عبقرية" عاصي على وجه التحديد، تلك التي أحسب أن زياد وجد نفسه بعد موت والده، مضطرا إلى حملها، بقدر ما كان مضطرا إلى حمل أيقونية والدته فيروز ومكانتها الأسطورية في لبنان والعالم العربي.

AFP
صورة عام 1972 تُظهر المؤلف اللبناني عاصي الرحباني في منزله بالرابية قرب بيروت

تهمل تلك النظرة جانبا أساسيا في تجربة الأخوين رحباني، كما في تجربة زياد، الوعي الحاد بأن نمو هذه التجربة لا يكون من دون الآخرين، فرأينا مختبر الأخوين رحباني، مسرحيا وموسيقيا، يضم في زمنه معظم المواهب التي كانت موجودة، ويستدخل العناصر الشابة والواعدة، بما فيها تجربة زياد نفسه، حيث كانت تجربة "سهرية" مثلا نوعا من الاستكمال للمختبر المسرحي الرحباني، وإن حملت الطابع الخاص للابن في بداية تمرده. كما رأينا أن عمل زياد الرحباني نفسه لطالما كان ضمن مجموعة، تتغير فيها الأسماء أحيانا، لكن الثابت يبقى التفاعل مع الآخرين، وتقديمهم إن لزم الأمر، وفي أحيان قليلة حتى الافتراق عنهم والنزاع معهم.

عائلتان

يصعب فصل المسارات المتعددة في تجربة زياد الرحباني، بداية من نشأته في كنف العائلة الرحبانية، ثم انتقاله إلى كنف العائلة الأوسع، التي يمكن اختصارها باليسار اللبناني (عبر الحزب الشيوعي تحديدا)، ولعل جزءا كبيرا من تجربته، في الجانب الفني الموسيقي كما في جانب التعليق السياسي/ الاجتماعي، نابع من وعيه بهاتين العائلتين، انتسابه إليهما، وسجاله الدائم معهما، والسعي الدائم إلى العثور على صوته الخاص ضمنهما، وتاليا ضمن النسيج اللبناني الأوسع.

في ديوانه الأول والوحيد الذي كتب قصائده حين كان في الثانية عشرة من عمره، ونشر حين كان في الخامسة عشرة، بعنوان "صديقي الله"، نرى ملامح كثيرة مما سيصبح عليه ذلك الطفل، انطلاقا من وعيه المبكر بالعالم من حوله. يبدو لافتا، قياسا بتجربة الرحباني مثلما نضجت واستقرت عليه لاحقا، حجم الألفة والحميمية العائلية في قصائد ذلك الديوان. نرى طفلا لا يريد مفارقة البيت، ويريد أن يمضي الوقت كله رفقة والديه، في أحضان الطبيعة، بعيدا من العالم الخارجي:

"صرت أخاف/ أن أطيل النوم/ كي لا يذهب الجميع/ وأبقى وحدي" يقول في مقطع من القصيدة. أو يقول في مقطع آخر: "يوم أذهبه إلى المدرسة/ أحسه سفرا يا أمي/ أحسه بعدا عنك وعن أبي/ وعن شباكنا المكسور (...)  ويقرع الجرس فأهرب من المدرسة (...) ويلوح لي بيتنا من بعيد/ وأرى أهلي يقفون أمام الباب/ على السطوح/ يلوحون بالمناديل كي لا أضيع عن البيت".

يبدو لافتا، قياسا بتجربة زياد الرحباني مثلما نضجت واستقرت عليه لاحقا، حجم الألفة والحميمية العائلية في قصائد "صديقي الله"

العالم، بالنسبة إلى ذلك الطفل، يبدو مكانا خطرا، موحشا، وإذا أخذنا في الحسبان أن القصائد كتبت قبل سنوات من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في أبريل/ نيسان 1975، لبدا لافتا أيضا عدد المرات والسياقات التي يذكر بها الحرب وآثارها المحتملة (التشرد، الدمار، الخراب) بوصفها ما يتهدد ذلك العالم المنزلي والقروي الآمن: "وفجأة/ انفجر البعيد/ ارتج بيتنا/ خاف المطر وسقط عن الشبابيك (...) ركض أبي إلى الشباك ينظر/ ركضت إلى الصورة المكسورة/ وعيناي تقولان: ماذا؟"/ وسمعت كلمة الحرب/ وسألت: ما الحرب/ وعلا صراخ في الخارج".

AFP
الفنان اللبناني زياد الرحباني (أول يمين) يحيي حفلاً مع فرقته على مسرح المنارة في القاهرة، 30 نوفمبر 2018

تدل تلك القصائد (سواء أكان كتبها زياد بالفرنسية ثم ترجمت بالعربية أم كتبت أساسا بالعربية) التي كتبها زياد طفلا بعيد حرب 1967، عن أجواء النقاشات الدائرة على الأقل في بيت أهله، ذلك البيت الذي كان في ذلك الوقت محل اجتماع نخب البلاد من مثقفين وأدباء وسياسيين، ولعل أغاني الأخوين رحباني وفيروز من تلك الحقبة، فضلا عن المسرحيات، تكمل الجانب الآخر من هذه الصورة القاتمة، من ذلك الخوف من المستقبل، ومن أن "الريح التي تخرب الخارج" في طريقها إلى لبنان. يظل هذا كله محض تأويل، إلا أن ما يمكن الوثوق به هو أن زياد الرحباني كان منذ نعومة أظفاره مشغولا بشؤون العالم (بلده) وشجونه، مدركا لتلك الأخطار التي تهدد البنيان الساكن، الريفي غالبا، الذي شيده أهله، وفي الوقت نفسه مشغولا بأسئلة وجودية حول الله والعالم، وبالبحث عن أجوبة عن تلك الأسئلة.

تطور الخطاب

مرحلة وعي زياد الرحباني الأولى ستتخللها أزمة في العلاقة بين والديه، وقد ذكر أكثر من مرة تلك المرحلة، قائلا إنه كان أحيانا يحتاج إلى التدخل للفصل بين عاصي وفيروز حين يتشاجران، وإذا كانت هذه العلاقة وما شهدته من أزمات محل كثير من القيل والقال والتخمينات (والكتابات الصحافية)، فإنها تبقى في الحيز الخاص، إلا أن زياد يوردها ضمن أسباب اختياره الرحيل عن بيت والديه باكرا، والذي تزامن مع اندلاع الحرب الأهلية... ذلك الخروج من العالم الأول (البيت، الأهل، المنطقة، القرية)، وإن لم يكن انقلابا عليه بالضرورة، هو في الوقت نفسه دخول إلى عالم آخر مواز كان يتشكل منذ استقلال لبنان عن فرنسا، ثم نكبة فلسطين 1948، مرورا بصعود الناصرية، وحرب 1958، ودخول لبنان في لعبة المحاور الإقليمية والدولية، وصولا إلى صعود اليسار وحركات التحرر، والتي كان لبنان جزءا لا يتجزأ منها جميعا. 

ما يمكن الوثوق به هو أن زياد الرحباني كان منذ نعومة أظفاره مشغولا بشؤون العالم (بلده) وشجونه، مدركا لتلك المخاطر التي تهدد البنيان الساكن، الريفي غالبا، الذي شيده أهله

في مسرحياته، وأغنياته ذات الطابع السياسي، وبرامجه الإذاعية ومقابلاته، منذ نهاية السبعينات، وحتى منتصف التسعينات، ثم الحروب التي أعقبت ذلك، نرى تطور "خطاب" زياد الرحباني، الذي قد يبدو شكليا متناقضا أحيانا، إلا أنه يظل ثابتا على فكرة واحدة، وهي محورية لبنان بوصفه المعضلة والخلاص والهاجس الدائم في آن واحد.

صحيح أن ظاهر الخطاب يوحي دائما باستحالة لبنان وطنا نهائيا لأبنائه، ويصل في بعض الأحيان إلى اعتباره لا وطنا، وصحيح أن الرحباني أبدى في بعض المراحل إعجابه بنموذج بعض الدول الديكتاتورية في المنطقة (ولا سيما نظام البعث في سوريا)، إلا أنه هذا الإعجاب لم يكن أيديولوجيا بقدر ما عبر عن خيبة أمل مزمنة، وعن توق في الوقت نفسه إلى ذلك الفردوس المفقود الذي كانه لبنان.

AFP
الفنان اللبناني زياد الرحباني يؤدي على مسرح قصر بيت الدين في الشوف، جنوب بيروت، ضمن مهرجانات بيت الدين الدولية، 12 يوليو 2018

مشكلة لبنان الجوهرية كما عبر أكثر من مرة هي في الطائفية السياسية، إلا أنها أبعد من ذلك، تكمن في كونه جزءا من لعبة المنطقة السياسية. فزياد الرحباني على شيوعيته، لم يكن يرى لبنان جزءا من منظومة أوسع، وحتى تحالفه في فترة ما مع "حزب الله"، كان مرتبطا بالواقع اللبناني، وبالاصطفافات التي ولدتها الحرب الأهلية، وبالنظرة إلى لبنان وهويته، أكثر مما هو مرتبط بالواقع العربي الأعرض. فعلى سبيل المثل، لا يتضمن مختبر زياد الرحباني الموسيقى الواسع، ورغم رغائبية بعض الأطراف اللبنانية، اهتماما كبيرا بفلسطين (لا نكاد نجد أغنية واحدة عن فلسطين)، وقد علق ذات مرة – عن حق – أن الفلسطينيين هم الأقدر على النهوض بقضيتهم وتحصيل حقوقهم، أما انخراطه في الشأن السوري فهو لا يختلف عن ذلك، أي من حيث أنه كان يتعامل مع الواقع السوري (بما في ذلك ثورة 2011) انطلاقا من الصراعات اللبنانية الداخلية، ومن نظرته إلى الدولة والجماعات في لبنان.    

لبناني صميم

ظل زياد الرحباني إذن لبنانيا صميما، منخرطا في الأزمات اللبنانية، متفاعلا مع العالم من حوله انطلاقا من هذا الانخراط، لا العكس، وهو بذلك يستكمل تماما إرث الأخوين رحباني، بل يمضي خطوة أبعد بأن يجعل جل اهتمامه الشأن اللبناني، وتحليل الأزمات اللبنانية، والشخصية اللبنانية، ومحاولة فهم الاستعصاء اللبناني (وصولا إلى القناعة بأن لبنان يجب أن يحكمه ديكتاتور ("بخصوص الكرامة..." و"لولا فسحة الأمل")، راثيا لبنان الفردوس المفقود، وليس رافضا له بالضرورة، بل تواقا إلى استئنافه.

ظل زياد الرحباني لبنانيا صميما، منخرطا في الأزمات اللبنانية، متفاعلا مع العالم من حوله انطلاقا من هذا الانخراط، لا العكس، وهو بذلك يستكمل تماما إرث الأخوين رحباني

في العودة إلى صفة "العبقرية"، وبالإضافة إلى أهمال استخدامها المطلق والإنشائي والتعميمي هذا، لفكرة الجماعة (خصوصا الجماعة الثقافية والفنية) والتي ساهمت في تشكيل وعي زياد الرحباني، فإنها تهمل جانبا أساسيا يتعلق بالتعلم والتثقيف الذاتيين، سواء بما يتعلق بالموسيقى أو القراءة عموما، وقد أعرب الرحباني ذات مقابلة عن مدى حرصه مثلا على قراءة الصحيفة كاملة، بوصفها محلا للفهم وأيضا لاستجلاب مادة التفكير والحكي، كما تشي تعليقاته الكثيرة عن قراءاته في السياسة والاجتماع وعلم النفس وإن لم يكن يقول ذلك صراحة، والأهم من ذلك كله تبقى المثابرة. فزياد الرحباني لم يكن فنانا يكتب ويلحن انطلاقا من إلهام يهبط عليه، إنما وبكلامه هو، كما بشهادة من عرفوه عن كثب، من عمل يومي دؤوب، وحتى ما سمي بـ"الجاز الشرقي" الذي اعتبر صاحب الإنجاز الأكبر عربيا فيه، نابع من ثقافة بحث واطلاع واستلهام، تماما مثلما فعل والده وعمه من قبل مع الموسيقى الغربية الكلاسيكية والموسيقى (والشعرية) العربية الشرقية. هي الموهبة الفذة إذن، مصحوبة بالقلق اليومي، بعمل لا ينتهي، ما يمكن أن نقول إنها تشكل مجتمعة عبقرية زياد الرحباني الحقيقية، موسيقيا على الأقل، وإن لم يكن مسرحيا، أما العبقرية الأخرى التي ربما يشير إليها الجميع ضمنيا، فهي عبقرية الرصد والمتابعة والمراقبة والتحليل والاستنتاج (وإن لم يكن صائبا دوما)، ومعها عبقرية اللغة القادرة على تجسيد ذلك كله في مزيج فني أصيل، تجعل من زياد الرحباني واحد عصره، وتجعل إرثه قابلا للحياة لأجيال آتية.

font change