وضع زياد الرحباني (1956- 2025) حياته الشخصية والعامة ومواهبه الفنية في مهب الأهواء التي عصفت ببلده لبنان وأهله وبالشرق الأوسط تاليا، منذ هزيمة 3 دول عربية في حرب 5 يونيو/ حزيران 1967. كان لا يزال طفلا أو فتى بريئا آنذاك، وابنا لفيروز (نهاد حداد: 1935) وعاصي الرحباني (1923- 1986). وهما، إضافة إلى منصور الرحباني (1925- 2009)، الأركان التأسيسية الثلاثة للمؤسسة الفنية اللبنانية الأشمل، الأقوى حضورا وفاعلية وتأثيرا في أجيال متلاحقة بلبنان المعاصر ومحيطه العربي.
الصرح الفيروزي الخالد
فمنذ مطلع خمسينات القرن العشرين، وحتى عام 1975، قامت تلك المؤسسة الفنية بتجديد الفنون الشعبية والفولكلورية المشرقية: من أداء غنائي وإيقاعات موسيقية ولحنية، إلى كلمات أغان أخرجها الرحبانيان من تقليد شائع إلى تعبير شعري محدث. وهما وضعا هذا كله في إطار مسرح غنائي استعراضي متجدد لصوت فيروز القمري الفريد ونجوميتها المتسامية على الأرضي والدنيوي إلى الطيفي والضبابي. واستمر الثلاثة طوال ربع قرن من السنوات في تشييد عمارة متكاملة من الصور الطوباوية الزاهية للبنان، بوصفه بلدا قمريا من ضباب وغمام ونسائم وينابيع وبيوت على تلال وادعة... للألفة والسهر والحنين والرجاء والمحبة والخير والعطاء والجمال والبراءة.
وساكنت صور لبنان تلك صدور ومخيلات وكلمات ومشاعر وانفعالات أجيال من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وصولا إلى المغرب واليمن، فعبدوها عبادتهم لصوت فيروز القمري الحزين حزنا شفيفا مواسيا وممزوجا بالرضى وبطيف من فرح العيش في الطبيعة الريفية البريئة.
لم يتداعَ الصرح الفني الرحباني - الفيروزي وصوره في مخيلة اللبنانيين مع بدايات تصدع الوئام الأهلي الطائفي اللبناني في 1969. وحتى في سني الحروب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) بقي ذاك الصرح معينا ومنبعا لحنين اللبنانيين الأليم الذي لا ينضب لبلدهم الفيروزي المعبود في صوت "سفيرة لبنان إلى النجوم". وظلت فيروز بصوتها وبطقوسية حضورها النجومي الأيقوني، تجسد لبنان القمري ذاك الذي يوحد آلام اللبنانيين وأحلامهم فيما هم يحتربون ويقتتلون، وحتى اليوم، فيما فيروز التسعينية تودع ابنها البكر زيادا إلى مثواه الأخير، بتجلد "أم يسوع الحزينة/وما من يعزيها"، على ما يحب لبنانيون كثيرون القول، وكتبوا ذلك في تشييعهم زياد الرحباني.
والأرجح أن أحدا لم يتجرأ على توجيه سهام النقد التهكمي اللاذع لمثل هذه الصور - وهي من صور الطوبى اللبنانية في الفنون الرحبانية الفيروزية - قبل الرحباني الابن الضال، سليل الركنين الأهم في بناء صرح تلك الطوبى الزاهي، والناشئ في كنف البيت الذي وضع أنغامها وألحانها وكلماتها وصورها ولوحاتها المسرحية الاستعراضية طوال الربع الثالث من القرن العشرين، وعايشها وخبرها على نحو يومي حميم، فيما هي تُصنع، وقبل فراره منها شابا إلى تعبير فني آخر يناقض مشروع أهله الفني المتحقق.