زياد الرحباني أو كيف ندخل الموسيقى في مزاج السخرية

الساخر الكبير الذي انقلب على الجميع بمن فيهم نفسه

Lina Jaradat
Lina Jaradat

زياد الرحباني أو كيف ندخل الموسيقى في مزاج السخرية

عندما خرج جثمان زياد الرحباني من المستشفى، وقف الحاضرون مصفقين، كأنه خروجه الأخير على مسرح كان قد طال ابتعاده عنه. ودّعوه بالورود وبأغنياته هو. هؤلاء ممن تأثروا بشخص زياد الرحباني، كلاما وتصريحات ومسرحا وحلقات إذاعية. ومذهل هو حضور صوته، الأجش العريض المفتر عن نصف ابتسامة دائما، في آذان اللبنانيين وفي حناجرهم.

كانت وفاته مناسبة لاستحضار كثيرين من مجايليه والجيلين الأصغر سنا علاقاتهم الشخصية بانتاجه وكيف تسلل إلى لغتهم وأفكارهم، حتى وإن تخلصوا لاحقا من بعض آثاره فيهم، وكيف رافقهم مراهقين فاشلين في العلاقات العاطفية حتى علمهم، بصوت المرأة، كيف ينعكس فشلهم المتمادي عليها. لكنها كانت أيضا مناسبة لكثيرين لمحاسبته أو للدفاع عنه بأثر رجعي على مواقفه السياسية. على أن نقاش فنان على موقف سياسي، بعد رحيله، هو أمر لا طائل منه، سوى التعصب له وعليه، أو الكراهية ونفي القدرة على فهم ما قدمه من فن، وهو الأساس الذي لولاه لما كان من حاجة للنقاش أصلا. فأيا تكن مصادر الهام الفنان أو مواقفه وتحليلاته السياسية أو عيوبه الشخصية أو رسالته الاجتماعية، فإن كل ذلك لا أهمية له في ذاته. فقد يشاركه آخرون المواقف او العيوب أو الرسائل نفسها ويظل عملهم فنيا بلا أي قيمة، والأمثلة على تفاهة فنانين وأعمال "ذات هدف ورسالة" لا تحصى.

قد تكون وفاة زياد الرحباني، بما تحتويه تجربته الفنية من ثراء هائل، مناسبة ضرورية للعودة إلى الفصل الحميد بين موقف سياسي أو لحظي أطلقه قيد حياته، وبين الموقف الفني والاجتماعي والمبدئي الذي يحمله عمله

والفنان عندما يموت، ينقطع النقاش الشخصي معه ولا يظل من شيء ذي مغزى إلا التفاعل مع المضمون الداخل في نسيج عمله الفني. وقد تكون وفاة زياد الرحباني، بما تحتويه تجربته الفنية من ثراء هائل، مناسبة ضرورية للعودة إلى الفصل الحميد بين موقف سياسي أو لحظي أطلقه قيد حياته، وبين الموقف الفني والاجتماعي والمبدئي الذي يحمله عمله بسخريته الحادة، حتى من نفسه. وهذه السخرية، التي تقول السيدة فيروز في حديثها عن ابنها، إن التقاطها هو أعمق ما يقوم به، وليس ذلك ممكنا إلا لشدة وعيه بالوجه الآخر، المأسوي، للحياة، هذا الوعي الذي حول حياته، بتقلباته وتردده الدائم بين أمور كثيرة، إلى عمل ساخر طويل ينقلب أول ما ينقلب على نفسه ذاتها.

AFP
زياد الرحباني يؤدي على مسرح قصر بيت الدين ضمن مهرجانات بيت الدين الدولية، الشوف – جنوب بيروت، 12 يوليو 2018

ألف وجه لزياد

وفي الحقيقة، لا يمكن مقالة واحدة ان تلخص أو تتناول كل جوانب انتاج زياد الرحباني، الفريد دونما حاجة إلى أسطرته. فلزياد الف وجه: المسرحي، الشاعر الغنائي، الملحن، الممثل الكوميدي، الاذاعي، الموزع، صاحب النكات والمواقف و"المقالات" السياسية. في زياد الرحباني اجتمعت مجموعة هائلة من الشخصيات والمواهب، فكان للبنان موازيا لما يمكن ان يكونه في مصر مثلا شعراء مثل صلاح جاهين أو أحمد فؤاد نجم ممن يقطفون الكلام من أفواه الناس ويصوغونه أغنياتٍ، وملحنون مسرحيون مثل سيد درويش يعرضون على الناس مشاهدهم وكثرتهم وتنوعهم وخلافاتهم، وممثلون ممن كانوا نجوم أشهر المسرحيات مثل "مدرسة المشاغبين" أو "المتزوجون"، وأصوات إذاعية شهيرة ومميزة وحكاؤون ظرفاء مسموعون، وأصحاب أعمال موسيقية تشكل نوعا من موسيقى تصويرية لحياة بلد بكامله. وقد نضيف أنه، فوق كل ذلك، كان يفوق كل المذكورين، عدا أحمد فؤاد نجم، حدة سياسية وانخراطا في رغبة بمعارضة السلطة بل وبمعارضة الأساطير المؤسسة للرؤية الوطنية نفسها، لا بالعمل على خدمتها وتثبيتها.

وفي كل ذلك تقريبا، نجد في شغل زياد نوعا من ثيمة مضادة لشغل الاخوين رحباني، في العمل وفي الرؤية والموقف. مسرحه عرضٌ شاسعٌ للسخرية ولانهيارات اللغة الشعرية والأحلام والنهايات المسالمة المريحة ولانهيار بلد ومجتمع حلم بهما أهلوه. واستعماله لغة الشارع المديني، لغة اللبنانيين المواربة والمرتبكة والذكية أحيانا، دون ادعاء الارتقاء بها وإن كان يعالجها بحرفية وقصدية عاليين، هو بالضبط نقيض الإعلاء اللغوي في شعرية الأخوين رحباني واحالتهما الدائمة على عالم من رومنسية فردية حالمة وهانئة رغم الشجن.

في هذه التجارب مع فيروز، ومع غيرها من المغنيات حيث أبرز زياد حساسيته العالية تجاه مواقف المرأة في العلاقات، حاول الرحباني مزج الكلمات الجديدة تماما على الست فيروز بجملة لحنية حيوية متدفقة ومتعددة المصادر

وعندما أتيح له المجال للانفراد تقريبا بصوت فيروز – وهي، خلافا لرأي شائع، لم تكن في الواقع في حاجة اليه للوصول إلى الشباب، ولكن من أجل القدرة على الاستمرار في إنتاج الجديد بعد وفاة الكبار وهي كانت لا تزال في أواسط العقد السادس من عمرها - عمل مطولا على أغانٍ مفعمة بالإحالات على أغاني الأخوين رحباني، لكنها إحالات تقلبها رأسا على عقب: من الضبابية الرومنطيقية إلى تعب الحياة والمزاح وضيقة الخلق وغبار ما بعد معارك الحب الكبرى. في هذه التجارب مع فيروز، ومع غيرها من المغنيات حيث أبرز زياد حساسيته العالية تجاه مواقف المرأة في العلاقات، حاول الرحباني مزج الكلمات الجديدة تماما على الست فيروز بجملة لحنية حيوية متدفقة ومتعددة المصادر (من الألحان الشرقية، الشبيهة بفيلمون وهبه حد عدم التفريق بينهما أحيانا كما في "أنا عندي حنين" و"حبيتك تنسيت النوم"، وبدرجة أقل الطقاطيق الشائعة مصريا وشاميا كما في "بعثتلك يا حبيب الروح"، إلى البوسا نوفا والجاز والفانك والأنماط الأميركية).

AFP
صورة نادرة من منتصف الستينات تُظهر الموسيقي اللبناني زياد الرحباني يعزف على البيانو، الآلة التي شكلت معظم مؤلفاته منذ بداياته في السبعينات. ألّف أولى أغنياته لوالدته فيروز وهو في السابعة عشرة، وركز لاحقا على الجاز الشرقي

لكن فيروز بالتأكيد فضلت البقاء على مسافة من المواقف السياسية التي كانت مادة غزيرة لكثير من إنتاج الرحباني الساخر مع سامي حواط وجوزيف صقر خصوصا، وكانت أحد مصادر شهرته الأساسية، مثلما سببا في انتشار طريقة كلامه وتركيبة قفشاته على لسان جيلين أو أكثر في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وفي هذه السخرية ما يقرب زياد الرحباني من الشيخ إمام ونجم، وقبلهما وبدرجة أقل من سيد درويش وبديع خيري وأمين صدقي، إلا أن زياد الرحباني على خلاف الشيخ إمام لا يحول المغني إلى ممثل يستعمل مؤثرات صوتية تستوحي من المهرج والأراجوز ما ينقل سخريته إلى المستمع، بل يبقي السخرية في مضمون الكلام الذي يلقي زياد الرحباني بصوته المميز على حواشيه نثارا اضافيا من السخرية، والأهم إنه يبذر السخرية في الصوت الموسيقي نفسه.

الموسيقى أولا وآخرا

زياد الرحباني، الحالم بأن يكون عازف بيانو لا أكثر، هو أولا وآخرا ممسوس بالموسيقى، موسيقاه والموسيقات الأخرى التي يغرم بها ويسعى إلى تعريف الناس بها. وحولها وحول ما تتضمنه، في داخل نسيجها، ما ينبغي ان يكون مدار النقاش الأساسي في شأنه، وما سيكون موضوع آتي الأيام بعد أن يستنفد معاصروه ذكرياتهم وخلافاتهم.

AFP
فيروز (وسط) تؤدي مسرحية "ميس الريم" على مسرح البيكاديللي في بيروت عام 1975، إلى جانب وليام حسواني (يمين) وابنها زياد الرحباني (يسار) بلباس شرطة عثمانيين

في نسيج الموسيقى نجد ما يميز زياد الرحباني عن سائر الموسيقيين العرب. لا إعجابه المبكر بالجاز والبوسا نوفا فهذا لا يختلف كثيرا عن اعجاب سابقيه بالتانغو والرومبا مثلا واستيراد أساليب وايقاعات غربية، بل في إصراره على إبقاء "جملة" واضحة الشرقية في كثير من هذه الأعمال (بالطبع ليس في الأعمال التي "عربها"، بل تلك التي ألفها هو، وإن تفاوتت جودتها ومستواها في الحقيقة)، وكذلك في ملامح الحيوية والمرح والسخرية التي تتخلل موسيقاه ـ والسخرية هي أصعب ما يمكن الموسيقى أن تنتجه ربما ـ مثلما تتخلل توزيعاته للألحان، ما سنحاول رسم خطوط عريضة له في عجالة سريعة.

زياد الرحباني، الحالم بأن يكون عازف بيانو لا أكثر، هو أولا وآخرا ممسوس بالموسيقى، موسيقاه والموسيقات الأخرى التي يغرم بها ويسعى إلى تعريف الناس بها

بداية، يبدو أن زياد الرحباني ومنذ سن مبكرة كان مطلعا على التراث الشرقي أكثر مما كنا نظن من قبل. ولسنا نعرف كيف تأتى له أن يسمع "يا بنت المعاون" التي غنتها "الست نجيلة الشامية" على اسطوانات بوليفون سنة 1927 (شكرا لعمرو نصحي على اكتشاف هذا التسجيل) و"القراصية" التي هي غالبا من التراث الشامي، وقد أعاد استعمالهما في "سهرية" وفي "نزل السرور"، فاتحتي مسرحه حين كان لا يزال يافعا. ولا شك في أنه تشرب أيضا الكثير من إنتاج والده وعمه، وأيضا فيلمون وهبه، إضافة إلى أعمال المصريين مثل سيد درويش (وعند زياد الرحباني أحيانا نزعة تكرار أجزاء الجملة الموسيقية على الدرجة نفسها مثلما يفعل سيد درويش). وقد لحن زياد الرحباني عددا كبيرا من الأعمال التي لا تفترق كثيرا عن الأساليب الشائعة في تلحين الطقاطيق والأغاني البوب، سواء غناها ملحم بركات أو عبده ياغي أو هدى أو منى مرعشلي. لكن الأهم أنه احتفظ من ذلك بطريقة في تركيب الجملة الموسيقية، في مفرداتها الأصغر، تكشف بسرعة عن شرقيته حتى وإن كان يؤلف أو يوزع في إطار غربي أو لاتيني، وليس فقط في إطار شرقي ("ديار بكر" مثلا أو "وقمح"). وهي بالطبع واضحة الظهور في أغانيه "الشرقية" كمعظم أعماله مع جوزيف صقر، ويكفينا مثلا التأمل في التعقيد النسبي للمقدمة الموسيقية لأغنية "مربى الدلال"، حيث يمكن أن نتعرف إلى تقنية "السؤال والجواب" الشائعة في بناء الجملة، إلا إن زيادا يعقد بنية كل منهما بشذرات أقصر وأكثر تقطعا، وبعدم التناظر في الأطوال. وفي هذا المجال الشرقي نفسه منحنا زياد الرحباني لمحات بديعة (مثل التلميح إلى جنس الحجاز في مطلع "يا زمان الطائفية"، أو في استعماله للراست في "اسمع يا رضا"). وهو بالطبع لا يستنكف من المزاح مع شرقيته ومراجعها نفسها كما في "شو هالايام" التي يجري فيها إحالات على "هو صحيح" أو "الحلوة دي".

AFP
زياد الرحباني خلال التمارين لحفل في القاهرة، 29 تشرين الثاني 2018. توفي في 26 تموز 2025 عن عمر 69 عاماً بعد مسيرة فنية غيّرت المشهد الفني العربي

وعندما تتبدى هذه الشرقية في أعمال مؤلفة ذات إطار أكثر غربية، ويبدو ذلك في تجاور الدرجات الموسيقية وقصرها ما يولد حيوية وحركة متواصلتين (على خلاف استعمال الكمنجات في سحبات مطولة مثلا)، يكون عمل زياد الرحباني في رأيي في أفضل مستوياته، مبتعدا عن إعادة انتاج الموسيقى الغربية سواء في صيغها الجازية بأنواعها أو ما بات نوعا من موسيقى كلاسيكية شائعة في الموسيقات التصويرية مثلا.

احتفظ بطريقة في تركيب الجملة الموسيقية، في مفرداتها الأصغر، تكشف بسرعة عن شرقيته حتى وإن كان يؤلف أو يوزع في إطار غربي أو لاتيني، وليس فقط في إطار شرقي

يلوح ذلك مثلا في الجملة الأساسية من مقدمة "ميس الريم" أو في التدرجات المتصاعدة والقفلة الشرقية المميزة في "ضيعانو"، مثلما يتبدى في كثير من شغل زياد، بما فيه "أورينتال جاز" وما ادخله فيه من "تقاسيم" تحاول المزج بين الجاز وبين الأسلوب الشرقي في التقسيم. وهو يمزج هذه المفردات الشرقية بأخرى غربية، بما فيها من قفزات موسيقية واسعة بين الدرجات (كما في الفرق بين الجملتين الأوليين من "يا ليل ليلي" التي غنتها فيروز)، وكأن جزءا مهما من شغله يسعى إلى توسيع المساحة والمفردات التي يمكن المؤلف الشرقي أن يستعملها. وربما كان هذا من جوانب العمل الفني الجاد عبر الزمن، أي السعي إلى توسيع حدوده والتغلب على ما كان يتصور من قبله إنه نشاز أو غير متوافق مع القواعد المستقرة. ربما كان زياد الرحباني يقول أحيانا إنه يسعى إلى "موسيقى شرقية يفهمها العالم"، وهذه في رأيي مسألة ثانوية، إلى أنه، بغض النظر عن مصادره أو نياته، يقوم بما من شأنه توسيع فهمنا واحتمالاتنا في موسيقاتنا.

وتبرز هذه الشرقية أيضا في إصرار زياد الرحباني على الصوت المعدني المميز للبزق مثلا مرافقا للبيانو وللباص الكهربائي كما في "هدوء نسبي" مثلا، وفي بحثه عن ايقاعات عربية حتى على آلات غربية (كما يذكر في لقاء تلفزيوني عن تحويله إيقاع "الواحدة الكبيرة" إلى جملة على البيانو). وهو يبني توزيعه في غالبية الأحيان على مجموعة من المستويات، يكون البيانو (وهو استعمال أهله المفضل) أو الباص، "الفرشة" الأساسية لها، وفوقها تتراكب مجموعة من الشذرات أحيانا بآلات مختلفة، ومن ثم يمكن أن نعثر على استخدام للكمنجات لا يختلف جذريا عن كلاسيكية أهله.

AFP
(أرشيف) فيروز تتحدث مع ابنها زياد الرحباني (يمين) وقائد الأوركسترا كارين دورغاريان خلال تمارين لحفل في دبي، 23 يناير 2003

لكن "لمسة" زياد تتبدى أحيانا في استعمال البزق، كما ذكرنا، او القانون حتى حين يمتزجان مع الغيتار الكهربائي مثلا (في "ولعت كثير")، وفي الأخص في استعمال آلات النفخ النحاسية التي كان يحبها (على ما أورد عبود السعدي في شهادته في ملف مجلة "الآداب" سنة 2010)، التي كان يكتب لها كتابة صعبة بما تتطلبه من نفخات سريعة متقطعة staccato، وهذا الأسلوب يشبه أيضا أسلوبه في تقطيع بعض الجمل الغنائية (في "مثل ما كأنه ما تلفن" من "تلفن عياش" على سبيل المثل). وفي ظني أنه كان يستعمل النحاسيات بالضبط نقيضا لما هو معتاد من ربطها بالملكية والأمراء والصيد والفخامة والعسكر، أي للعب والتهريج والهزء من هذه الادعاءات. ومن ذلك مثلا استعماله المتكرر لها على ألحان شرقية صميمة، مثل "راجعة بإذن الله" و"اسمع يا رضا" بكل ما تحمله اذن هذه الآلات من "نشاز" وتنافر مع المزاج اللحني الأصلي.

بتحول زياد الرحباني إلى وارث، خسرنا تلك الطاقة الفريدة، وبوفاته اليوم نخسر حلم لبنان الاقدم ونخسر أيضا قدرة الاعتراض على ذلك الحلم

ومما كان يستعمله أيضا على سبيل المرح والسخرية التنويعات التي يدرجها في توزيعه، في المستوى الخلفي من اللحن، وراء الجملة اللحنية الأساسية، وهي تقنية كانت موجودة عند الأخوين رحباني من قبله ولكن اكتسبت معه أهمية رئيسة في التوزيع. فحتى في عمل شهير مثل "ع هدير البوسطة" (بصوت فيروز)، يمكن التنبه إلى هذا المستوى الثاني من الحشو الذي يورده بين النغمات الأساسية، ومن تنويعه المتواصل لهذا الحشو، وما يستدعيه ذلك أحيانا من تلاعب بتوقعات المستمع، سواء بعزف ما هو مغاير لما سمعه من قبل، أو بإغفال الحشو مطلقا واضمار بعض الجمل (كما يفعل موسيقيا وكما تفعل فيروز أحيانا حين تغني "زعلي طول" وتغفل "أنا واياك")، أو سوى ذلك من تنويعات. وفي ظني أن التنبه إلى هذه الميني ـ لوازم التي يدرجها زياد الرحباني ويتلاعب بها وينوع عليها، بين درجات الجملة الأصلية وفي طياتها، هو التنبه إلى ما يخبئه الرحباني أحيانا ويبنيه طبقات فوق طبقات من الموتيفات الموسيقية واللعب بها ومن التجارب في مزج الآلات ومن المفاجآت المبثوثة في أعماله. 

AFP
زياد الرحباني (وسط) على مسرح قصر بيت الدين خلال مهرجانات بيت الدين، 12 يوليو 2018

وفي مثل هذا الحشو، وشذراته التي لا تكاد تكتمل جملا موسيقية (مثل انطلاقات الكمان المتكررة كأنما دون طائل في "سلم لي عليه" أو تكرار نقرات "عودك رنان" كأنها صدى لأصوات الرصاص نفسه)، وفي الهمهمات التي يطلقها أحيانا زياد الرحباني وأحيانا فيروز، في أجزاء من جمل متقطعة ("ولقد.. فيطيب لي...)، نجد التقاء لغة زياد الرحباني، المستقاة من العي اللبناني (على رأي أحمد بيضون) وتأتأته، مع أسلوبه الموسيقي ومع كلامه الذي يبدو، غالب الأحيان، متقطعا مبهور الأنفاس متعبا.

كانت سخرية الرحباني اللاذعة اساسا موجهة فنيا ضد فن الجيل الرحباني الاول. فكانت وقوده الاساس، حتى انتهى إلى التصالح مع أهله في "إلى عاصي" حيث وضع عبقريته في التوزيع في خدمة أبرز الأغاني الرحبانية الأقدم، معلنا انتهاء تلك المعركة وعمليا انتهاء مبرراته للاستمرار في مجادلة الأخوين رحباني ومناكفتهما. وفي موته نكتشف حجم الغياب بالموت، وأيضا حجم الغياب الذي سبق الموت. بتحول زياد الرحباني إلى وارث، خسرنا تلك الطاقة الفريدة، وبوفاته اليوم نخسر حلم لبنان الاقدم ونخسر أيضا قدرة الاعتراض على ذلك الحلم. وأنى لنا، ولهذا البلد المتهدم الكسير، بصانعي أحلام جدد؟

font change