اقتصاد أفريقيا الحديث... استعمار جديد بواجهة تنموية

مئات تريليونات الدولارات المفقودة من الفرص الضائعة والصراعات الداخلية لا تزال مستمرة

غيتي
غيتي
رسم يجسد حالة عمال قارة أفريقيا في القرن 16

اقتصاد أفريقيا الحديث... استعمار جديد بواجهة تنموية

عاد النقاش أخيرا حول العلاقة بين أفريقيا والدول التي تقاسمت استعمار دولها. ففي الملتقى السنوي للحوكمة الذي انعقد في مراكش، المغرب، مطلع يونيو/حزيران المنصرم، وهو تجمع غير رسمي لشخصيات أفريقية بارزة، أشعل الملياردير السوداني البريطاني مو إبراهيم جدلا واسعا، عندما انتقد في حواره مع الرئيس السابق لمفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي، اعتماد الاتحاد الأفريقي بنسبة 70 في المئة من موازنته على مساهمات خارجية. وقال: "تسمونهم بالمستعمرين، لكن عندما يمنحوننا المال، يصبحون شركاء... هذه مهزلة؛ إما أن تكونوا جادين، أو تنسوا الأمر".

وعلى الرغم من أن هذه التصريحات تبدو بشكل ظاهري أنها تهدف للدفاع عن السيادة الأفريقية، فإنها تخفي في طياتها مغالطة أساسية في مفهوم تقييم هذه المساعدات المالية. إذ ليست هذه المساهمات، التي يتم تأطيرها كشراكات تنموية، تبرعات خيرية من الغرب، بل هي، في جوهرها، حقوق تعويضات مستحقة عن قرون من الاستغلال الاستعماري الممنهج.

تاريخ من الاستغلال يصعب محوه

فقد امتد تاريخ إخضاع أفريقيا واستعمارها منذ عام 1415، مع احتلال البرتغال لمدينة سبتة المغربية، إيذانا ببدء توسع استعماري مفترس بلغ ذروته في حملة "التدافع على أفريقيا" المشينة خلال القرن التاسع عشر.

بعدها، أضفى مؤتمر برلين (1884-1885) الطابع الرسمي على تقسيم القارة بين القوى الأوروبية، دون أي اعتبار لشعوب أفريقيا أو للنظم الثقافية أو العرقية أو الاجتماعية القائمة. بل إن التوسع الاستعماري الأوروبي في أفريقيا لم يتم تقديمه باعتباره مشروعا سياسيا واقتصاديا، بل تم تأطيره داخل الخطاب الغربي بمصطلح "اكتشاف أفريقيا"، في تجاهل فجّ لواقع أن القارة كانت مأهولة منذ آلاف السنين بشعوبها الأصلية، بثقافاتهم، ونظمهم الاجتماعية والسياسية، وتاريخهم العميق وتفاعلاتهم المختلفة مع حضارات العالم القديم المجاورة.

بلغ النهب الاقتصادي لأفريقيا خلال العهد الاستعماري حدا مذهلا. تشير التقديرات المتحفظة إلى أن الإمبراطورية البريطانية وحدها استخرجت ما يزيد على 35 تريليون جنيه إسترليني (بالقيمة الحالية) من مستعمراتها المتنوعة حول العالم

خلّف هذا الاستغلال، الذي استمر حتى النصف الثاني من القرن العشرين، ندوبا عميقة واضطرابات اقتصادية مزمنة لا تزال تعصف بالقارة.

العنصرية الممنهجة... أبرز مخلفات الهيمنة الغربية

في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، تم استعباد أكثر من 12,5 مليون أفريقي ونقلهم قسرا إلى الأميركيتين بين عامي 1501 و1866. ولم تكن تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وهي إحدى أفظع مظاهر الاستعمار الغربي خلال تلك القرون، مجرد استغلال اقتصادي فحسب، بل كانت مدعومة بإطار فكري محكم هدفه تبرير إخضاع الأفارقة واعتبارهم عرقا أدنى بطبيعتهم، وترسيخ مفهوم سيادة العرق الأبيض وتفوقه. وأصبح هذا الاطار بدوره جزءا مدمجا في النظام العالمي الحديث، إذ تغلغل في العلاقات الدولية، والاقتصاد، والسياسة، والثقافة، ولا تزال آثاره ملموسة حتى اليوم.

.أ.ف.ب
صورة من ثلاثينات القرن الماضي، لساحل دول غرب أفريقيا الذي تأسس في عام 1895

لم تكن هذه الأحداث مجرد وقائع تاريخية معزولة، بل عمليات ممنهجة أدت إلى نشأة العنصرية الحديثة كأيديولوجيا وممارسة مؤسسية. اعتمد المشروع الاستعماري على هذه المفاهيم ليس فقط لإضفاء الشرعية على الاتجار بالبشر، بل لترسيخ بنية عالمية احتلت فيها أفريقيا موقعا دونيا.

استنزاف الثروات لا يزال مستمرا

بلغ النهب الاقتصادي لأفريقيا خلال العهد الاستعماري حدا مذهلا. تشير التقديرات المتحفظة إلى أن الإمبراطورية البريطانية وحدها استخرجت ما يزيد على 35 تريليون جنيه إسترليني (بالقيمة الحالية) من مستعمراتها المتنوعة حول العالم، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من العمالة الرخيصة أو المجانية تماما، وكميات هائلة من السلع كالمطاط والسكر والنفط.

وما يثير القلق هو استمرار تدفق الثروة من أفريقيا حتى بعد انتهاء الحكم الاستعماري المباشر. فقد كشفت دراسة حديثة أنه بين عامي 1970 و2010، تدفق ما قيمته 814 مليار دولار (بقيمة دولار 2010) من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، عبر تهريب رؤوس الأموال، والتدفقات المالية غير المشروعة، والتسعير الخاطئ للموارد، وفوائد الديون القسرية. هذا الرقم يتجاوز بكثير القيمة الإجمالية للمساعدات الإنمائية الرسمية والاستثمار الأجنبي المباشر في القارة خلال الفترة نفسها، في استمرارية ديناميكية لثقافة الاستغلال.

تكاليف الفرص الضائعة

إلى جانب الخسائر المالية المباشرة، تسبب الاستعمار في ضياع فرص التنمية الأفريقية بشكل هائل. فبينما بلغ حجم الأصول الخارجية لأوروبا 70  في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 1914، لم يتخط النمو في أفريقيا نسبة 0,9 في المئة خلال الحقبة الاستعمارية. يضاف إلى ذلك تدمير الأنظمة الاقتصادية المحلية، ونظم وهياكل ملكية الأراضي، وإعاقة التنمية الصناعية، وفرض اقتصادات أحادية المحصول، وتجزئة المناطق التجارية عبر إنشاء حدود سياسية واقتصادية مصطنعة، وقمع التقدم العلمي والاقتصادي والفكري المستقل.

في عام 1999، دعت لجنة الحقيقة الأفريقية العالمية للتعويضات وإعادة التوطين، الدول الاستعمارية إلى دفع 777 تريليون دولار، وهو رقم يعادل نحو 1,34 كوادريليون دولار في عام 2023. وقدرت مجموعة "براتل"، تكلفة العبودية عبر الأطلسي بمبلغ يتراوح بين 100 و131 تريليون دولار

بالإضافة إلى ذلك، لم يكن نمط الاستغلال الاستعماري الأوروبي في مقابل الاستثمار التنموي موحدا أو متجانسا بين مستعمرات أوروبا المختلفة، بل ساد النمط العنصري فيه بشكل واضح. خصصت بريطانيا، وهي أكبر قوة استعمارية وقتذاك، 16,9 في المئة فقط من صادراتها الاستثمارية الخارجية لجميع مستعمراتها (باستثناء كندا وأوستراليا ونيوزيلندا)، وهو أقل من الـ20,5 في المئة التي خصصتها لمستعمرتها الأميركية وحدها.

تشويه الأنظمة السياسية والاجتماعية

لم يكتفِ الاستعمار الأوروبي بانتهاك الاقتصاد، بل عطل التطور الطبيعي للأنظمة الاجتماعية والسياسية الأفريقية. أجهض الحكم الاستعماري نشوء الدولة الأفريقية المستقرة. فبدلا من أن تنبثق هذه الدول من مجتمعاتها المحلية وتطوّر مؤسساتها السياسية بشكل طبيعي، فُرضت عليها مؤسسات مستوردة صُممت لخدمة مصالح العواصم الاستعمارية. حرم الاستعمار، المجتمعات الأفريقية من التطور التدريجي اللازم لنضوج المؤسسات الحاكمة المستقرة والبناء الداخلي للشرعية السياسية والاجتماعية.

عمدت القوى الاستعمارية إلى تفكيك الهياكل التقليدية وأنظمة الحكم المحلي، مستبدلةً إياها بسلطات استبدادية مفروضة خارجيا لتخدم المصالح الاستعمارية. وقد أدى ذلك إلى قطع التفاعل العضوي بين المجتمع والدولة، وهو أساس حيوي لتطوير نظم الاستقرار السياسي الطويل الأمد. وتجلت العواقب المباشرة في الحروب الأهلية المتكررة والانقلابات وعدم الاستقرار السياسي الذي ابتليت به الدول الأفريقية طوال القرنين العشرين والحادي والعشرين، تاركة إرثا من المؤسسات الاستبدادية التي تهيمن عليها النخب العسكرية أو العرقية.

أ.ف.ب.
بول بيشار حاكم غرب أفريقيا يرتدي قبعة سوداء بجانب رئيس الوفد الفرنسي ووزير الخارجية فرانسو متيران، خلال افتتاح ميناء أبيدجان في ساحل العاج، 5 فبراير 1951

في المقابل، لم تكن أوروبا نفسها في منأى من الصراع الداخلي والتجزئة السياسية خلال تطورها. فقد خاضت قرونا من الصراعات الدينية والاجتماعية والحروب المدمرة، مثل حرب الثلاثين عاما في القرن السابع عشر والحربين العالميتين في القرن العشرين، قبل أن تتمكن من وضع صيغ للإجماع السياسي والاجتماعي، بما في ذلك الديمقراطية الدستورية وسيادة القانون. ولكن، يكمن الاختلاف الحاسم في أن أوروبا خاضت هذه التحولات من داخل نسيجها الاجتماعي والسياسي، وأدت الى تراكم الخبرات التاريخية. أما أفريقيا، على النقيض، فقد حُرمت من هذه العملية بسبب الإخضاع الاستعماري المفروض بالقوة والهيمنة، بدلا من التفاعل الداخلي أو التفاوض الاجتماعي والسياسي. وقد أدى هذا التشويه إلى تحريف مسارات بناء الدولة، مما أفضى إلى استنساخ هياكل قمعية بعد الاستقلال، غالبا تحت ستار وطني ولكن بأدوات استعمارية في جوهرها.

الحقائق التاريخية والتكلفة الفلكية للاستعمار

على الرغم من أن مساعدات التنمية لا تُصنّف عادة كتعويضات، إلا أنه، وردا على تصريح مو إبراهيم، يمكننا اعتبارها كذلك.

في عام 1999، دعت لجنة الحقيقة الأفريقية العالمية للتعويضات وإعادة التوطين، الدول الاستعمارية إلى دفع 777  تريليون دولار، وهو رقم يعادل نحو 1,34 كوادريليون دولار في عام 2023. وفي الآونة الأخيرة، قدرت مجموعة "براتل"، وهي شركة استشارية دولية، تكلفة العبودية عبر الأطلسي بمبلغ يتراوح بين 100 و131 تريليون دولار. وإذا أخذنا في التقدير الأكثر تحفظا وهو 100 تريليون دولار كتكلفة للاستعمار في أفريقيا، فإن حجم التعويض المطلوب فلكي. 

أفريقيا لا تعاني من "مشاكل أفريقية" ذات جنسية عرقية أو خاصية جغرافية محددة، بل تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية في سياق استغلال جيوسياسي مستمر

ولو افترضنا جدلا أن الشركاء الدوليين قاموا بتسديد الموازنة السنوية الكاملة للاتحاد الأفريقي، والبالغة 650 مليون دولار، على سبيل التعويض، فإن الأمر سيستلزم نحو مئة وثلاثة وخمسين ألف عام (153,000) لردم الهوة التي خلّفها النهب الاستعماري. وحتى لو افترضنا أن جميع المساعدات الإنمائية والإنسانية لأفريقيا، التي تقدر حاليا بحد أقصى بـ3,5 مليارات دولار سنويا (مع إغفال الشروط السياسية والاقتصادية التي غالبا ما تضمن حصول المانحين على 2,15 دولار في مقابل كل دولار يتم منحه كمساعدة)، تشكل تعويضات، فستظل أوروبا بحاجة إلى أكثر من 28,500 عام من المدفوعات المستمرة لتعويض الخسائر الاستعمارية، بافتراض عدم وجود تضخم أو فائدة.

ما وراء السخرية... صراع على السرد التاريخي

ربما يكون الضجيج الذي أثاره مو إبراهيم بتعليقه نابعا من تحرك الاتحاد الأفريقي لتحديد عام 2025 عاما "للعدالة للأفارقة والمنحدرين من أصل أفريقي من خلال التعويضات". وبينما لا يتوقع أحد حقا أن تدفع أوروبا، أو أي قوة استعمارية سابقة، تعويضات، تظل هذه المطالبات مستحقة وعادلة. لكن مجرد الهمس بها، على ما يبدو، كان كافيا لإثارة قلق المستثمرين الأوروبيين، والمستثمرين المقيمين في أوروبا، خصوصا مع عثرات الاقتصاد العالمي المعاصرة.

أ.ف.ب.

وبينما حرص مو إبراهيم على انتقاد مصادر تمويل الاتحاد الأفريقي، فقد تجاهل التوصيف الشائع لضيفه رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي المنتهية ولايته، موسى فكي محمد، بأنه "كارثة" على الاتحاد الافريقي. اتهم موظفو الاتحاد الأفريقي فكي بالفساد، والمحسوبية، وإخفاقات القيادة، مشيرين الى وجود "كارتل" أشبه بالمافيا يعمل بحصانة كاملة داخل الاتحاد الأفريقي.

وربما كان مو إبراهيم محقا في نقطة واحدة: سخريته من شعار "حلول أفريقية لمشاكل أفريقية".

 هذا الشعار، في الواقع، إشكالي للغاية. فأفريقيا لا تعاني من "مشاكل أفريقية" ذات جنسية عرقية أو خاصية جغرافية محددة، بل تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية في سياق استغلال جيوسياسي مستمر، وهو واقع غالبا ما يتجنب "الرجال الحكماء" المجتمعون في مراكش الاعتراف به، خشية أن يؤثر على مصالحهم واستثماراتهم الاقتصادية المباشرة. ولعب المستعمرون السابقون، دورا محوريا في خلق هذه المشاكل التي تتطلب حلولا تتناسب مع طبيعتها: حلول سياسية واقتصادية واجتماعية يتم صوغها من خلال سياسات مصممة بشكل يلائم الواقع لمعالجتها. وتتطلب صناعة هذه السياسات ليس فقط موارد مالية، بل أيضا اعترافا صادقا بحقيقتها وجذورها واستثمارا صادقا في تطوير رأس المال البشري لأفريقيا لتتمكن من صوغها بشكل مستقل.

font change