خطة ترمب لإنهاء حرب غزة.... مسارات معقدة لسلام صعب

مفاعيلها لا تقتصر على "اليوم التالي" في غزة بل في المنطقة ككل

رويترز
رويترز
يرفع أفراد وسائل الإعلام أيديهم أثناء مصافحة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي مشترك في غرفة الطعام الرسمية في البيت الأبيض في 29 سبتمبر 2025

خطة ترمب لإنهاء حرب غزة.... مسارات معقدة لسلام صعب

أطراف كثيرة ووازنة عربية ودولية وإسلامية انخرطت في خطة دونالد ترمب لإنهاء الحرب في غزة، ما يدفع في المقابل إلى التفكير في من يمكن أن يعارضها، وبطبيعة الحال فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن إيران لن تكون راضية أو موافقة على الخطة، وهي لم تكن جزءا من العملية التفاوضية التي سبقتها ولم يظهر أثر لمفرداتها في البنود التي تضمنتها. لكن إيران التي تتعرض لضغوط كبيرة مع إعادة تفعيل العقوبات الأممية عليها والمعروفة بـ"آلية الزناد" أو "سناب باك"، والتي تتحسب لهجوم إسرائيلي جديد ضدها ربما يكون خلال ثلاثة أشهر بحسب التسريبات الإسرائيلية، لا تمتلك الكثير من الخيارات للرد على "استبعادها" من المفاوضات ومن "خطة الـ20" بخلاف ما كانت عليه حالها قبل نحو ثلاثة عقود عندما استخدمت أدواتها الأمنية والعسكرية والسياسية لبناء مسار مواز لـ"مؤتمر مدريد"، ولاسيما بعد التوقيع على "اتفاق أوسلو"، من خلال دعم "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"حزب الله" في لبنان.

كان ذلك إيذانا مبكرا بالصعود الإقليمي لإيران، حتى قبل الغزو الأميركي للعراق الذي فتح الباب واسعا أمامها للتوسع على امتداد المنطقة من بغداد إلى دمشق وبيروت وصنعاء، العواصم العربية الأربع التي ادعت إيران في عز سطوتها أنها تسيطر عليها، ولكن سبحان مغير الأحوال، فإنّ عملية "طوفان الأقصى" كانت بداية لمسار معاكس للنفوذ الإيراني في المنطقة، وكأن السحر انقلب على الساحر، وبصورة لم تكن تخطر ببال. والحال فإن تعويل إيران لأكثر من ثلاثة عقود على "حماس" ودعمها المتواصل لها، وإن شهدت العلاقة بين الطرفين بعض التذبذب بالنظر إلى موقف "حماس" من نظام بشار الأسد، كل ذلك لم يضمن لطهران حضورا مباشرا في المفاوضات بشأن "اليوم التالي" للحرب فلسطينيا وإقليميا، ولكن مرة جديدة لا بد من السؤال عن كيفية تصرف إيران حيال خطة ترمب؟ وهل يعد موقف "الجهاد الإسلامي" السلبي منها مؤشرا إلى تصميم طهران على مناكفتها وتخريبها؟

ولكن ما الأدوات المتبقية لإيران، بعد إضعاف وكلائها الإقليميين وبعد الهجوم الإسرائيلي-الأميركي ضدها والذي شكل محطة مفصلية في مسيرة نظامها الإسلامي؟

الربط الذي أقامه ترمب بين تنفيذ خطته لإنهاء حرب غزة وتوسيع نطاق "الاتفاقيات الإبراهيمية"، يؤشر إلى الفحوى الأساسية لتلك الخطة

لا شك أن التأييد العربي والإسلامي الواسع لـ"خطة الـ20" يؤمن دفعا رئيسا لها لا يمكن توقع نجاحها من دونه، ولذلك فإنه يصعب التصور أن يكون بمقدور "حماس" رفض هذه الخطة، وإلا تكون قد دخلت في عزلة عربية وإسلامية حقيقية ولا يتبقى لها سوى دعم إيران. لكن حتى طهران نفسها مضطرة لإجراء حسابات دقيقة للتعامل مع خطة ترمب بسبب التأييد العربي والإسلامي الواسع لها، في وقت تسعى إيران لبناء وتوطيد علاقاتها العربية والإسلامية ولاسيما بعد الهجوم الإسرائيلي-الأميركي ضدها والذي يمكن أن يتكرر، في محاولة لبناء مناخ إقليمي مؤات. ولذلك ليس مستبعدا أن تكون إيران في أجواء المفاوضات بشأن "خطة الـ20"، إذ من المرجح أن تكون قطر قد فعلت خطها الساخن معها بشأنها، وفي السياق كان لافتا قول ترمب خلال إعلانه عن هذه الخطة إن انضمام إيران إلى الاتفاقات الإبراهيمية سيكون أمرا رائعا، وهو ما يعني أن الإدارة الأميركية لم تغلق باب المفاوضات مع طهران، بل إنها تسعى لإغرائها بفوائد الموافقة على "خطة الـ20".

رويترز
ترمب خلال اجتماع مع قادة في دول عربية وإسلامية في نيويورك، 23 سبتمبر 2025.

بيد أن الموافقة الإيرانية على خطة ترمب ليست أمرا سهلا وهي في حال حصلت ستكون بمثابة "كأس السم" الثاني الذي تجرعته إيران خلال العقود الأربعة من عمر نظامها الإسلامي. لكن "كأس السم" الذي تجرعته بعد الحرب مع العراق كانت مفاعيله محصورة ولم تكن لها ارتدادات إقليمية جدية، بينما "خطة الـ20" ستكون أقسى على إيران بما لا يقاس بالنظر إلى أنها تجردها من ورقتها الفلسطينية المتمثلة بـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، على قاعدة أن أساس هذه الخطة يقوم على نزع سلاح "حماس" نزعا كاملا، مقابل الانسحاب التدريجي للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، ومقابل عدم تهجير الغزيين وعدم ضم إسرائيل للضفة الغربية، وهما نقطتان كتبتا بأحرف عربية.

والحال فإن الربط الذي أقامه ترمب بين تنفيذ خطته لإنهاء حرب غزة وتوسيع نطاق "الاتفاقيات الإبراهيمية"، يؤشر إلى الفحوى الأساسية لتلك الخطة من حيث إن مفاعيلها لا تقتصر على "اليوم التالي" في غزة والأراضي الفلسطينية بل تشمل المنطقة بأسرها. وهو مسار كان قد بدأ يترسخ منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إذ سرعان ما بدا أن هذه الحرب ليست كسابقاتها من حيث مدتها وأهدافها ومداها الجغرافي، وخصوصا مع توسعها لتشمل لبنان وسوريا واليمن وأخيرا إيران، من ضمن ما يعتبره بنيامين نتنياهو خطته لتغيير الشرق الأوسط، وهو المفهوم الذي تولى دونالد ترمب في نهاية المطاف إخراجه ووضعه حيز التنفيذ من خلال خطته، وبأسلوبه الخاص، وعلى نحو لا يرضي تماما اليمين الإسرائيلي الذي كان يريد تهجير الغزيين، بالرغم من وصف نتنياهو لترمب بأنه أفضل صديق لإسرائيل في البيت الأبيض.

قدرة الفلسطينيين على صوغ مطالبهم كانت أقوى مما هي عليه الآن وقدرة اليمين الإسرائيل المتطرف على فرض شروطه كانت أضعف مما هي عليه الآن

ولذلك فإن ترمب- الذي اعتبر الإعلان عن خطته، من أعظم الأيام في تاريخ الحضارة، لكونها تضع حدا لمأساة استمرت لـ"مئات وآلاف السنوات"، وفق تعريفه الخاص للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين- يواجه امتحان التعامل مع اليمين الإسرائيلي المتطرف في حال كان فعلا يريد أن يكون إعلانه "يوما تاريخيا للسلام في الشرق الأوسط"، تماما كما كان على إسحق رابين أن يواجه امتحان التعامل مع اليمين الإسرائيلي المتطرف بعد "أوسلو" وقد فشل فشلا ذريعا ودفع حياته ثمنا لذلك. طبعا هناك سياقان تاريخيان مختلفان بين مؤتمر مدريد و"اتفاق أوسلو" وإعلان ترمب عن "خطة الـ20"، ولاسيما لناحية أن قدرة الفلسطينيين على صوغ مطالبهم كانت أقوى مما هي عليه الآن وأن قدرة اليمين الإسرائيل المتطرف على فرض شروطه كانت أضعف مما هي عليه الآن.

أ ف ب
تصاعد الدخان إثر غارة إسرائيلية على خان يونس جنوب قطاع غزة، في 29 سبتمبر 2025

بالتالي نحن أمام واقع جديد تماما فرضته نتائج الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وفي المنطقة بأسرها، بحيث إن خطة ترمب تكرس جنوح موازين القوى لصالح إسرائيل وبما لا يقاس، مع الأخذ في الاعتبار أن أدوات الضغط على هذه الخطة من جانب الأطراف الموافقة عليها ليست فلسطينية بالنظر إلى الوضع الفلسطيني الراهن بل عربية وإسلامية ولاسيما في ما يتعلق باللاءتين الاثنتين: لا للتهجير ولا للضم. ولكن هاتين اللاءتين تواجهان هما أيضا تحديات جسيمة بالنظر إلى النزعة الاستيطانية المتفاقمة من قبل الصهيونية الدينية واليمين الإسرائيلي القومي المتطرف، وبالنظر أيضا إلى رفض نتنياهو أي دور للسلطة الفلسطينية في حكم قطاع غزة، ناهيك عن رفضه قيام الدولة الفلسطينية. ولذلك من الصعب جدا تصور كيف يمكن بناء مسار موثوق لقيام هذه الدولة، وفق ما نصت عليه خطة ترمب، في ظل جنوح إسرائيل القوي نحو أقصى اليمين الديني والقومي. وهذه معضلة تاريخية تطرح تساؤلات جدية حول احتمالات التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبأي شروط. فضلا عن أنه يصعب تصور كيف يمكن تجاوز المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة طوال عامين كاملين من دون أدنى محاسبة، وهذه مسألة أصبحت دولية بامتياز ولا يتوقع أن تنتهي هنا.

بيد أنه من الناحية الاستراتيجية ثمة صعود لافت لإسرائيل كقوة إقليمية وبدعم أميركي ينعكس في مجمل مضامين "خطة الـ20"، خصوصا لجهة احتفاظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية على القطاع، والضفة الغربية حكما، وهي سيطرة تحيل إلى حرية الحركة الإسرائيلية في سماء المنطقة، أقله في سماء "دول الطوق" مثل لبنان وسوريا. وبدورها تحيل حرية الحركة تلك إلى مسألة نزع السلاح الذي يمكن أن يشكل تهديدا على إسرائيل، سواء في غزة أو لبنان أو جنوب سوريا. وهذه مسألة ذات ارتدادات إقليمية تعني إيران بالدرجة الأولى وتحديدا في غزة ولبنان، إذ إن أي موافقة على خطة ترمب تعني الموافقة على نزع سلاح "حماس"، تماما كما كانت الموافقة على اتفاق إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تعني الموافقة على نزع سلاح "حزب الله"، حتى لو حاول الأخير التنصل من هذا الشرط كما لو أنه لم يوافق عليه. لكن في مطلق الأحوال فإن الأهم في ذلك كله أن شرط وقف الحرب بالنسبة لإسرائيل وبغطاء أميركي، هو نزع سلاح "حماس" تماما كما هي الحال بالنسبة لسلاح "حزب الله" في لبنان.

خطة ترمب تحاول أن تحسم هذا الصراع وهي لذلك ليست خطة لإرساء السلام العادل والشامل ذاك المفهوم الذي أصبح من الماضي، بل إن وظيفتها الرئيسة هي ترجمة نتائج الحرب الإسرائيلية سياسيا وعلى أرض الواقع

وهذا يعيدنا إلى لب الصراع في المنطقة طيلة العقود الماضية، وتحديدا بين إيران وإسرائيل، وهو صراع معقد ومركب، ولكن جوهره صراع على النفوذ والسيطرة. والحال فإن خطة ترمب تحاول أن تحسم هذا الصراع وهي لذلك ليست خطة لإرساء السلام العادل والشامل ذاك المفهوم الذي أصبح من الماضي، بل إن وظيفتها الرئيسة هي ترجمة نتائج الحرب الإسرائيلية سياسيا وعلى أرض الواقع، مع قدرة جزئية على فرض شروط مقابلة، سيتبين مع الوقت مدى القدرة على تحقيقها خصوصا في ما يتعلق بآفاق التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي تحدد إمكانات توسيع الاتفاقات الإبراهيمية، لكن بين هذا وذاك مسار طويل ومعقد ومليء بالمطبات، ولكن ذلك لا يعني إمكان العودة إلى الوراء، أي إمكان أن تعيد "قوى المقاومة" بناء نفسها وبأي كلفة ولأي أهداف، وأن تكون عملية "طوفان الأقصى" قد أغلقت مسار التطبيع الإقليمي مع إسرائيل، كما أعتبر "محور الممانعة" الآفل. وهذه معطيات لا يمكن إغفالها في قراءة الواقع الفلسطيني الراهن ليس لناحية مراجعة تجربة "حماس" وتحديدا في محاولة بناء جيش مقابل جيش وحسب بل بالنظر إلى أننا أمام وضع إقليمي ودولي جديد في ما يخص القضية الفلسطينية، وضع يملي مراجعة الأدوات والخيارات بعد اعتراف نحو 80 في المئة من دول العالم بالدولة الفلسطينية، في دحض جوهري ونهائي للنظرية الصهيونية التاريخية في نفي وجود الشعب الفلسطيني والمشروع الوطني الفلسطيني.

ولكن في المقابل فإن هذا الاعتراف بمجمله مشروط بتخلي "حماس" عن أدواتها القديمة، أي عن سلاحها، وهذا ما لا يفترض النظر إليه فلسطينيا كما لو أنه استسلام، بل هو فرصة لإعادة تكوين تصور جديد للقضية الفلسطينية من ضمن التحولات بشأنها على مستوى العالم، وبالأخص لناحية التبدل في نظرة العالم إلى إسرائيل، وهذا ليس مكسبا هامشيا، بل يتيح عزل القضية الفلسطينية عن الصراع الإقليمي، ويضعها في سلم أولويات القضايا الدولية بوصفها المحك الذي تقاس عليه معايير القانون الدولي، وهذه معركة طويلة لن تتوقف بتوقف الحرب، ولاسيما أن اليمين الإسرائيلي قد دخل في صراع مباشر ومفتوح وطويل مع الشارع الغربي، ليست خطة ترمب سوى محطة لاستئنافه وتزخيمه وليس العكس.

font change

مقالات ذات صلة