كيف سيدخل دونالد ترمب التاريخ؟

المجلة
المجلة

كيف سيدخل دونالد ترمب التاريخ؟

في الكتاب الأول من جمهورية أفلاطون (كتاب العدالة)، ينقل أفلاطون محاورات أستاذِه سقراط مع السفسطائيين، والتي دارت حول مفاهيم العدالة والحكم، وممّا دار فيها أن "بعض المدائن يحكمها الخاصة، وبعضها الديمقراطيون، وغيرها الأرستقراطيون". هذه العبارة توضح أنَّ أنماط الحكم تختلف باختلاف المدن ومجتمعاتها.

لاحقا قام ماكس فيبر بتقعيد أنماط السلطة بشكل يتماشى مع محاورات "كتاب العدالة". وحينما حدد السلطة بثلاثة أنواع: التقليدية، الكاريزمية، والعقلانية القانونية. وبعيدا عن الدخول في التفاصيل، رأى فيبر أن النمطين الأولين ليسا عقلانيين، كونهما يحصران السلطة في مجموعة محددة كما في النوع الأول (التقليدية)، أو فرد بعينه كما في النمط الثاني (الكاريزمية). ويرى فيبر أن النمط الثالث هو الأكثر مثالية والمناسب للمجتمع الحديث، حيث إنه الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الصناعية المتطورة التي تقوم على الاقتصاد الرأسمالي الذي يحتاج إلى نظام سياسي يحاكي الفلسفة الفردانية التي تقوم عليها الرأسمالية، فكانت البيروقراطية القائمة على الديمقراطية هي الخيار الأفضل بحسب فلسفة ماكس فيبر.

وبين روسو وفيبر، في عام 1838 صدر كتاب "في الديمقراطية الأميركية" للمنظّر السياسي الفرنسي أليكسيس دي توكفيل الذي أشاد بالنظام السياسي الأميركي وفضّله على النماذج الأوروبية، حيث رأى في الولايات المتحدة مثالا يُحتذى به في تنامي الديمقراطية، ونموذجا يُمكن للدول الأخرى أن تتعلم منه.

هناك قلق بالغ بشأن الانقسام السياسي وانخفاض مستوى العدالة، ومدى التزام القادة السياسيين بقيم الديمقراطية الأميركية

أدت دراسات توكفيل للديمقراطية في الولايات المتحدة إلى استنتاج أن المجتمع الأميركي يتميز بخمس سمات رئيسة:

(1) حب المساواة، فالأميركيون يحبون المساواة أكثر من حب الأوروبيين للحرية الفردية؛ (2) غياب التقاليد، حيث يعيش الأميركيون في بيئة خالية إلى حد كبير من المؤسسات والتقاليد الموروثة (الأسرة، الطبقة، الدين) التي تحدد علاقاتهم ببعضهم البعض؛ (3) الفردية، فلا يوجد شخص أفضل من الآخر بحد ذاته، لذلك يسترشد كل فرد بذاته وليس بالتقاليد المتوارثة ولا بحكمة الأفراد الآخرين؛ (4) استبداد الأغلبية، ففي الوقت الذي يُولي الأميركيون وزنا كبيرا لرأي الأغلبية، فهم يشعرون بضغط كبير منه. ولأنهم جميعا متساوون، يشعرون بالضآلة والضعف مقارنة بالعدد الأكبر؛ (5) أهمية التجمع الحر، فلدى الأميركيين دافعٌ قويٌّ للعمل معا لتحسين الجوانب المشتركة لحياتهم، ويتجلى ذلك بوضوح من خلال تكوين جمعيات تطوعية. هذا التوجه الأميركي الفريد في التجمع يُخفف من نزعاتهم نحو الفردية، ويغرس فيهم عادة خدمة الآخرين وشغفهم بها.

رويترز
دونالد ترمب المرشح، خلال لقاء مع جماهير الحزب الجمهوري في تجمع "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" الذي أقيم في مركز غراند ريفر في دوبوك، آيوا، في 25 أغسطس 2015

وعندما نقرأ الشارع الأميركي اليوم، نجد أن غالبية الشعب يُقدّرون الديمقراطية تقديرا عميقا ويعتبرونها أمرا جوهريا لهوية البلاد. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن ثلاثة أرباعهم يؤمنون بكون الحكومة المنتخبة ديمقراطيا ضرورية لإكمال معنى أن تكون أميركيا. وتحظى القيم الأساسية المرتبطة بالديمقراطية- بما في ذلك المشاركة المتساوية في الانتخابات، وحرية التعبير، والانتخابات النزيهة- بقبول واسع النطاق من جميع الأطياف السياسية. ولكن ذلك لا يعكس رضا عن العملية الديمقراطية، إذ يعتقد حوالي ثلاثة من كل أربعة أن الديمقراطية في الولايات المتحدة تواجه تهديدات خطيرة، مما يجعل من يعتقدون أن النظام يعمل بكفاءة أقلية مقابل من يتوجسون من تزعزع الديمقراطية الأميركية. وبينما لا يزال الاعتزاز بالمُثُل الديمقراطية راسخا، إلا أن هناك قلقا بالغا بشأن الانقسام السياسي وانخفاض مستوى العدالة، ومدى التزام القادة السياسيين بقيم الديمقراطية الأميركية.

الاحتكار الجمهوري-الديمقراطي للمشهد

في بدايات تأسيس الولايات المتحدة، وتحديدا في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، أسس كل من توماس جيفرسون وجيمس ماديسون أول حزب معارض للحزب الحاكم المسمى بـ"الحزب الفيدرالي". وقد اختار المؤسسان اسم "الحزب الديمقراطي الجمهوري"، والذي أُنشئ لمواجهة رؤية "الحزب الفيدرالي" المتمثلة في حكومة فيدرالية مركزية قوية. كان هدف الحزب الجديد الدفاع عن حقوق الولايات، والعمل على تفسير صارم للدستور، ودعم الاقتصاد الزراعي. وفي مطلع القرن التاسع عشر، تم انتخاب توماس جيفرسون عام 1800 كأول مرشح عن "الديمقراطي الجمهوري" الذي تسلم السلطة بشكل سلمي من "الحزب الفيدرالي".

منذ ترسخت سيطرة الحزبين الرئيسين على المشهد السياسي الأميركي، أصبحت الانتخابات أشبه بحدث رياضي كبير ينتظره الجميع

انتقلت السلطة إلى الحزب الجديد، وظل النظام أحادي القطب في جمهورية يسيطر عليها الحزب الواحد. وخلال فترة بسيطة ظهرت الانقسامات في الحزب لتصل أوجها في انتخابات 1824 التي شهدت تنافس أربعة مرشحين من الحزب نفسه. تُوصف تلك الانتخابات بالمثيرة للجدل بسبب عجز جميع المرشحين عن الحصول على الأغلبية، مما أدى إلى حسم الانتخابات عن طريق تصويت مجلس النواب ليتم تنصيب جون كوينسي آدامز رئيسا للبلاد.

وفي أعقاب انتخابات 1828 التي ربحها أندرو جاكسون عقب تغلبه على آدامز، ظهرت مجموعة عُرفت بـ"رجال آدامز" والتي نظمت نفسها تحت اسم "مناهضي جاكسون" حيث بدأ استخدام مصطلح "الجمهوريين الوطنيين" عام 1830. عندها وضح أن الحزب قد تقاسم الاسم، فكان الديمقراطيون هم المحافظون، والجمهوريون هم من يطالبون بالتغيير. ومع مرور الزمن، أصبح جمهور "الحزب الديمقراطي" أكثر ليبرالية ويسعى لاستقطاب الأقليات والمهاجرين، بينما اجتذب "الحزب الجمهوري" المتدينين والمحافظين.

أ.ف.ب
المناظرة الرئاسية الأولى بين ترمب وبايدن التي أُقيمت في مدينة كليفلاند، أوهايو، في 29 سبتمبر 2020

منذ ترسخت سيطرة الحزبين الرئيسين على المشهد السياسي الأميركي، أصبحت الانتخابات أشبه بحدث رياضي كبير ينتظره الجميع. فكل أربع سنوات، تتحول الولايات المتحدة إلى ساحة سباق محتدم بين الحزبين، وتصبح هذه السنة "الموسم الذهبي" الذي يدرّ أرباحا طائلة على وسائل الإعلام. تتبارى القنوات في تغطية أخبار المرشحين، وخطاباتهم، ومناظراتهم، في سباق محموم لجذب الانتباه.

هذه البيئة التنافسية الهائلة يصعب على أي حزب ثالث اختراقها، لأنه يفتقر إلى الدعم المالي والإعلامي الذي يتمتع به الحزبان المسيطران. وهذا ما ينسجم مع الثقافة الرأسمالية التي ترسخت على مر السنين؛ والتي تحصر المنافسة بين عملاقين يتناوبان على السلطة. إنها ثنائية مألوفة نراها في قطاعات أخرى: كوكا كولا وبيبسي، ماكدونالدز وبرغر كنغ، مايكروسوفت وآبل. فمهما ظهرت علامة تجارية جديدة، يبقى موقعها في الهامش بسبب عدم قدرتها على مجاراة العملاقين في الحضور الإعلامي والتمويل.

خلاصة القول، إن الحزبين خرجا من رحم حزب واحد. وأن المشهد السياسي كان حكرا على نخبة معينة ظلت تتوارث السلطة على مستوى الولايات والحكومة الفيدرالية بشكل ممنهج. فالسياسي يجب أن يكون قادما من خلفية حكومية، قانونية، أو عسكرية. ومن الصعب جدا منافسة أي مرشح لأي منصب رفيع المستوى إن لم يكن المنافس قادما من إحدى تلك الخلفيات.

تاريخ ترمب يقول إن أهدافه لا ترتبط بحزب معين، فهو ليس من الموالين لـ"الحزب الجمهوري" بشكل أيديولوجي

ولو أخذنا بعض الأمثلة لمن تولوا الرئاسة قبل دونالد ترمب، نجد أن باراك أوباما قبل توليه الرئاسة (2008-2016) كان عضو مجلس الشيوخ الأميركي، وقبلها عضو مجلس الشيوخ لولاية إلينوي، وهو في الأساس رجل قانون. وقبله جورج بوش الابن الذي كان حاكما لولاية تكساس، وهو في الأساس طيار في الحرس الوطني لولاية تكساس. وقبله بيل كلينتون الذي كان حاكما لولاية أركنساس، وقبلها شغل منصب المدعي العام للولاية نفسها، وهو في الأساس رجل قانون. ينطبق الأمر نفسه على جو بايدن الذي شغل منصب الرئاسة بين فترتي رئاسة ترمب الذي يُعتبر شذوذا عن القاعدة السياسية الأميركية.

ترمب القادم من خارج النخبة

بالرغم من أنه لم يسبق له شغل أي منصب حكومي قبل تولي الرئاسة في يناير/كانون الثاني 2017، فإن اهتمام دونالد ترمب بالسياسة وفكرة الترشح للرئاسة كانت تراوده قبل ذلك بكثير. وقد سبق له تقديم الكثير من التبرعات للحزبين الجمهوري والديمقراطي، وفي 1987 صرّح للإعلام بتفكيره في خوض الانتخابات. وفي عام 1999 شكّل لجنة استكشافية لانتخابات عام 2000، وتم تداول اسمه كمرشح محتمل لـ"حزب الإصلاح"؛ لكنه انسحب في وقت لاحق. ورغم انسحابه من سباق "حزب الإصلاح"، فقد استمر في التصريح الإعلامي بتفكيره في الترشح للرئاسة، وكان أكثرها جدية تلك التصريحات التي أطلقها عام 2012 قبل أن يتراجع في النهاية عن الترشح.

رويترز
خلال تجمع انتخابي تحت شعار "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" في بلدة مون بولاية بنسلفانيا، الولايات المتحدة، في 10 مارس 2018

تاريخ ترمب يقول إن أهدافه لا ترتبط بحزب معين، فهو ليس من الموالين لـ"الحزب الجمهوري" بشكل أيديولوجي، فقد سبق له أن دعم أحزابا أخرى بما فيها "الديمقراطي". ترمب يتحرك من خلال قناعاته التي تتقاطع- في مجملها- مع أجندة "الحزب الجمهوري"، لكنه يرى في الجمهوريين- تماما كما يرى في الديمقراطيين- أنهم جزء من النخبة السياسية التي استأثرت بالسلطة وأقصت صوت الشعب الأميركي.

ومن أبرز الأدلة على توصيف ترمب بذلك، التصريح الذي أدلى به في نوفمبر/تشرين الثاني 1999 في مقابلة تلفزيونية أجراها مع كريس ماثيوز في برنامج "هاردبول" عندما كان يخوض السباق الانتخابي لـ"حزب الإصلاح" بهدف الترشح عن الحزب لرئاسة الجمهورية، قال ترمب وقتها حرفيا: "الأمر لا يتعلق بـ(حزب الإصلاح) بقدر ما يتعلق بحقيقة أنني أرغب في أن أجعل من الممكن الفوز فعليا، وهزيمة النظام الديمقراطي-الجمهوري إذا ترشحت وأنفقت الكثير من المال".

يكشف هذا التصريح الصحافي عن سخط ترمب على احتكار الحزبين للمشهد السياسي الأميركي. ومن الواضح أن ترمب بعدها اقتنع تماما بأنه من أجل أن يكون مرشحا قويا للرئاسة، فلا بديل عن أن يخطف بطاقة الترشح عن أحد الحزبين الكبيرين ليقوم بعدها بالعمل وفقا لقناعاته التي يُفترض أن تتقاطع مع بعض قناعات قادة الحزب، ولكنها بالتأكيد ستكون معبّرة عن قناعات الأصوات التي ستنتخبه.

شهدت فترة رئاسة دونالد ترمب الأولى صراعا إعلاميا استثنائيا وغير مسبوق، اتسم بالتوتر والعدائية المتبادلة بين الرئيس ووسائل الإعلام الكبرى

وفي يونيو/حزيران 2015 أطلق ترمب حملته الرئاسية تحت شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددا". ألقى خطابا افتتاحيا حماسيا أمام جمهور متحفز، معلنا برنامجا سياسيا جريئا. هاجم فيه المهاجرين غير الشرعيين بوصفهم "لصوصا ومجرمين"، وانتقد بشدة المسلمين، والأقليات، والمؤسسة السياسية التقليدية، والديمقراطيين، معلنا أن "الحلم الأميركي قد انتهى". تعهد ترمب ببناء جدار حدودي ضخم مع المكسيك وترحيل ملايين المهاجرين. أثارت تصريحاته الصريحة والمثيرة للجدل موجة من الصدمة، حيث اعتبرها الكثير من المراقبين محفزا لخطاب الكراهية وتعميق الانقسامات في المجتمع الأميركي.

اتسمت الانتخابات التمهيدية الرئاسية لـ"الحزب الجمهوري" لعام 2016 بمعارضة داخلية كبيرة لترشيح دونالد ترمب. وجاءت هذه المعارضة من مجموعة واسعة من الجمهوريين، من خصومه في الانتخابات التمهيدية إلى شخصيات بارزة في الحزب ومعلقين محافظين. وفي الانتخابات التمهيدية للحزب، واجه ترمب أسماء لامعة في الحزب مثل جيب بوش، وماركو روبيو، وتيد كروز، وجون كاسيتش الذين أجمعوا على انتقاد ترمب على مستوى الأفكار والطباع.

وقد ظهرت حركة "لا لترمب" التي شكّلت تحالفا بارزا من الجمهوريين الذين عارضوا علنا ترشحه، ورئاسته لاحقا. ضمّت هذه المجموعة استراتيجيين سياسيين وصحافيين ومسؤولين سابقين رأوا أنه لا يمثل المبادئ المحافظة أو أنه غير مؤهل للرئاسة. وكانت شخصيات بارزة مثل المرشح الجمهوري لانتخابات 2012 ميت رومني والكاتب الصحافي جورج ويل من بين أشد المنتقدين والمعارضين لترمب الذين وصفوه بأنه دخيل شعبوي على قادة الحزب الملتزمين بالقيم المحافظة التقليدية وقيم المؤسسة. ومع ذلك، كان التصويت الشعبي لجمهور الحزب لصالح ترمب بفوارق أذهلت المراقبين.

أ.ف.ب
ترمب يرفع صحيفة تظهر عنوانها الرئيسي "تبرئة" أثناء حديثه عن محاكمة عزله من مجلس الشيوخ، وذلك في قاعة الشرق بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، في 6 فبراير 2020

شهدت الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 نقطة تحول حاسمة في التاريخ السياسي الحديث. تحولت الحملات الانتخابية والمناظرات بين دونالد ترمب وهيلاري كلينتون إلى صراع مرير، اتسم بلغة عدائية لم يعهدها الأميركيون من قبل. تبادل المرشحان الاتهامات القاسية المدعومة بقصص فضائحية شخصية مثيرة للجدل، مما أحدث حالة من النفور لدى قطاع واسع من الناخبين. وقد أظهرت استطلاعات الرأي وقتها أن ما يزيد على نصف الناخبين صوتوا ليس تأييدا لمرشحهم، بل لرفض المرشح الآخر. ومع تصاعد حدة الخطاب العدائي والعنصري بين أنصار الطرفين، تفاقم الاستقطاب الاجتماعي. انتشرت الأخبار المغلوطة (Fake News) بسرعة هائلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتجذب ملايين التفاعلات وتعمّق الهوة بين مؤيدي المرشحين. كما برزت العنصرية والكراهية تجاه الأقليات كسمة بارزة في التجمعات السياسية، مما زاد من الانقسام العرقي والثقافي الذي أحدث شرخا في النسيج الديمقراطي الأميركي.

المشهد ضد الرئيس

شهدت فترة رئاسة دونالد ترمب الأولى صراعا إعلاميا استثنائيا وغير مسبوق، اتسم بالتوتر والعدائية المتبادلة بين الرئيس ووسائل الإعلام الكبرى. وقد وجهت وسائل الإعلام انتقادات حادة لترمب، متهمة إياه بنشر تصريحات كاذبة ومضللة، حيث وثقت منظمات تدقيق الحقائق الآلاف من هذه التصريحات طوال فترة ولايته. في المقابل، رد ترمب على هذه الاتهامات بشن هجوم مضاد على الإعلام، واصفا إياهم بالكذب والتضليل، بينما اتهمه مؤيدوه بالتحيز الأيديولوجي. هذا الصراع المستمر، الذي وصل إلى حد وصف بعض المنابر الإعلامية لترمب بـ"الفاشي"، أدى إلى تعميق الفجوة بين البيت الأبيض وقطاع كبير من وسائل الإعلام الأميركية.

كانت المقارنة بين بايدن وترمب فرصة للأخير ليطرح نفسه- من جديد- كمخلّص للأميركيين من فساد الدولة العميقة والنخبة السياسية

لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، وجد الأميركيون أنفسهم أمام آلة إعلامية تصف رئيس الجمهورية بهذا القدر من السلبية، حيث خصصت برامج عديدة وقتها للانتقاد والسخرية منه. ويمكن القول إن ترمب عُومل من قبل الإعلام بطريقة لم يواجهها رئيس أميركي من قبله. لقد واجه ترمب حملة إعلامية غير مسبوقة اتسمت بالسخرية والانتقاد الشديد، وقد أثرت هذه الحملة على الفضاء العام، مما جعل من شيطنته أمرا مقبولا حتى في بعض المؤسسات الرسمية والمدارس.

انعكس ذلك على الموسم الانتخابي التالي 2020، حيث دفع الديمقراطيون بجو بايدن الذي كان نائبا لآخر رئيس من الحزب. وقد استغلّ الديمقراطيون تبعات انتشار فيروس "كوفيد-19" ليحملوا ترمب مسؤولية ما حصل للأميركيين من وفيات وخسائر اقتصادية. وقد حظي بايدن وقتها بدعم من بعض قادة الحزب الجمهوري ومن أبرزهم: وزير الخارجية السابق كولن باول، وعضو مجلس الشيوخ السابق عن ولاية أريزونا جيف فليك، وحاكم ولاية أوهايو السابق جون كاسيش، الذي ألقى كلمة في المؤتمر الوطني الديمقراطي لعام 2020.

وقد سعت تلك الشخصيات لإقناع الجمهوريين والمستقلين ذوي الميول اليمينية تحديدا بالتصويت لبايدن. وأطلقت هذه المنظمات حملات إعلانية تضمنت شهادات من ناخبين سابقين لترمب يشرحون فيها مسببات قرارهم بدعم المرشح الديمقراطي ضد مرشح حزبهم. ذلك الموقف قائم على خلاف أيديولوجي نابع من معارضتهم لما اعتبروه تحديا من ترمب للمعايير الديمقراطية في سياساته وأسلوب قيادته. وجادلوا بأنه على الرغم من اختلافاتهم السياسية، يُمثل بايدن نموذجا أكثر استقرارا وتقليدية للحكم.

أ.ف.ب
توقيع "اتفاقات ابراهام" في 20 سبتمبر 2020

بديل غير مجدٍ

مع انتقال السلطة إلى جو بايدن، أظهرت فترة رئاسته أداء لم يتفوق كثيرا على ترمب. وبالرغم من محاولات الإعلام المقرب من "الحزب الديمقراطي" تلميع صورة الرئيس المسن، فإن زلّاته المتكررة على الهواء جعلته عرضة للسخرية في البرامج السياسية والكوميدية، بشكل أعاد للأذهان ما واجهه ترمب. لكن الفرق يكمن في التصوير: فبينما طُرح ترمب كشخصية شعبوية متعجرفة، قُدم بايدن كرجل مسن يثير الشفقة.

عودة الفاتحين

كانت المقارنة بين بايدن وترمب فرصة للأخير ليطرح نفسه- من جديد- كمخلّص للأميركيين من فساد الدولة العميقة والنخبة السياسية. ففي حملته الانتخابية عام 2024، هاجم ترمب إدارة بايدن متهما إياها بالضعف، وكرر تأكيداته بأنه لو كان في البيت الأبيض لما اندلعت الحرب في أوكرانيا ولما استمرت حرب غزة لأكثر من عام. أعادت هذه التصريحات إلى الأذهان اتهامات بايدن لترمب في انتخابات 2020، حينما حمّله مسؤولية وفاة أكثر من مليون شخص بسبب فيروس "كوفيد-19". المفارقة أن ترمب عاد إلى الرئاسة دون أن يوقف أيا من الحربين، بل لا توجد مؤشرات على جديته في محاولة إيقافهما.

من المرجح أن يُخلَّد الرئيس ترمب كشخصية بالغة الأهمية ومُثيرة للانقسام في تاريخ الولايات المتحدة، وذلك بفضل أسلوبه غير المسبوق في التعاطي مع الإعلام ومع المشهد السياسي بشكل عام

إن إخفاق ترمب في الوفاء بوعده أخفّ وطأة من إخفاق بايدن. فالحروب الخارجية التي لا يشارك فيها الجنود الأميركيون لا تمسّ المواطن الأميركي العادي في صميم حياتهم اليومية، عكس الوفيات والخسائر المادية التي تكبدها المواطنون خلال فترة "كوفيد-19". وهذه نقطة يعرف ترمب تماما كيف يستغلها.

عاد ترمب للبيت الأبيض بشكل أكثر ثقة بعد تحقيق فوز ساحق له ولحزبه "الجمهوري" على "الحزب الديمقراطي"، نجحا في انتزاع سيطرة ثلاثية شاملة على الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب. هذا الانتصار الساحق يعطي ضوءا أخضر للإدارة الحالية لتمضي في تنفيذ برنامجها دون خشية معارضة قوية، وبالتأكيد دون مجرد التفكير في الخشية من محاولة عزل الرئيس كما حصل مرتين في الفترة الأولى عندما كان الديمقراطيون هم الأغلبية.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب مستعرضا قائمة التعريفات على مجموعة من دول العالم، في البيت الأبيض، 2 أبريل 2025

عندما تسلّم ترمب السلطة في 20 يناير/كانون الثاني 2025، أتى معه نائب رئيس شاب لا يملك تاريخا متجذرا في المشهد السياسي. لقد دخل جي دي فانس المشهد السياسي عام 2022 عندما فاز بمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، وخلال أقل من عامين وجد نفسه مرشحا لمنصب نائب الرئيس! هذا التصرف من ترمب يعكس إيمانه بقوته الذاتية وقدرته على أن يقرّب من يخدم أجندته بشكل تنفيذي. ولو قارنا هذا الموقف بما حصل عام 2016 عندما أتى ترمب بحاكم ولاية أنديانا مايك بنس الذي كان لترشحه دورٌ في تحشيد الجماهير الجمهورية المحافظة. ترمب اليوم يتصرف وهو يعلم أن مفاتيح اللعبة بيده بشكل شخصي.

ويمكن إرجاع ثقة دونالد ترمب بنفسه في ولايته الثانية إلى عدة عوامل. فعودته الناجحة إلى الرئاسة، بعد خروجه منها، تُعدّ تأكيدا قويا على سمعته السياسية وشعبيته. ويعزز هذا الفوز إيمانه بأنه يتمتع بعلاقة فريدة مع شريحة كبيرة من الناخبين، مما يسمح له بتجاهل الأعراف السياسية التقليدية والانتقادات. كما تعزز ثقته قاعدته الجماهيرية القوية، التي تتجمع حوله وحول رسالته باستمرار. هذا الولاء الراسخ يمنحه شعورا بالحصانة وحرية التصرف بحزم؛ وهذا ما يفسّر كثرة الأوامر التنفيذية التي وقّعها دون محاولة تمريرها عن طريق الكونغرس.

ماذا بعد؟

لا يزال الوقت مبكرا للتكهن بما سيكتبه التاريخ عن إرث ترمب، فكيفية تخليد ذكراه موضوع نقاش وتحليل مستمرين. لقد اتسمت حقبة رئاسته بسلسلة من الأحداث غير المسبوقة والتحولات السياسية في الداخل الأميركي والسياسة الخارجية لواشنطن، مما يجعل التقييم النهائي أمرا صعبا قبل انتهاء الحقبة.

من المرجح أن يُخلَّد الرئيس ترمب كشخصية بالغة الأهمية ومُثيرة للانقسام في تاريخ الولايات المتحدة، وذلك بفضل أسلوبه غير المسبوق في التعاطي مع الإعلام ومع المشهد السياسي بشكل عام، وإعادة تشكيله لـ"الحزب الجمهوري"، إضافة لكثير من الأحداث المتسارعة التي شهدتها وستشهدها فتات رئاسته. فهو أول رئيس منذ غروفر كليفلاند (1837-1908) يستعيد الرئاسة بعد فترة واحدة من خسارتها، مما يرسّخ مكانته في تاريخ الولايات المتحدة كشخصية جدلية. حوّل ترمب "الحزب الجمهوري" نحو برنامج شعبوي قومي، مُعطيا الأولوية للولاء لقيادته ورؤاه الشخصية على أجندة الحزب، مما قد يفتح مجالا لـ"الترمبية".

دونالد ترمب شخصية مثيرة للجدل، وسيبقى مادة للكتابة والتحليل السياسي لفترة طويلة، ومن المرجح أن تقوى "الترمبية" بعده

شهدت فترة ولايته استخداما مُفرطا للسلطة التنفيذية، وعدة تعيينات في المناصب القضائية تُرجّح كفة المُحافظين، إضافة إلى تغييرات جذرية في السياسات- لا سيما في مجالات الهجرة والعلاقات الدولية والتنظيم الاقتصادي. لقد سمحت قرارات ترمب بتخفيف القيود في مجال الأعمال، وسنّ تخفيضات ضريبية شاملة، وأعاد تشكيل تحالفات أميركا الخارجية، وتوسط في صفقات تاريخية في الشرق الأوسط. ومحليا، كان ترمب شخصية مُثيرة للاستقطاب بشدة، إذ استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتجاوز القنوات التقليدية وحشد المؤيدين، مع بقائه مُثيرا للجدل بسبب خطابه ونهجه المُواجه. وعالميا، غيّر التحالفات التقليدية، ونهج السياسة الخارجية بمبدأ "أميركا أولا". سيُذكر ترمب كرئيسٍ مؤثر، مثيرٍ للانقسام، وفريدٍ بلا شك، سيظل إرثه محل جدلٍ حاد لعقود.

من المرجح أن يُخلَّد الرئيس ترمب كشخصية بالغة الأهمية ومُثيرة للانقسام في تاريخ الولايات المتحدة، وذلك بفضل أسلوبه غير المسبوق في التعاطي مع الإعلام ومع المشهد السياسي بشكل عام، وإعادة تشكيله لـ"الحزب الجمهوري"، واستعادته الرئاسة في الانتخابات اللاحقة لخسارته، ونهجه الجريء في إصدار الأوامر التنفيذية، ومخالفته لكثير من الأعراف السياسية الأميركية على المستويين الداخلي والخارجي، وتحديه للقضاء. كل تلك الأمور مرشحة لتفرز سردية ثقافية بنكهة تختلف عن السرديات الثقافية الأميركية المعروفة عبر التاريخ.

رويترز
لقاء بين ترمب والرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون في المنطقة التي تفصل بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، في بانمنجوم، بكوريا الجنوبية، في 30 يونيو 2019

كثيرة هي الأمور التي قام بها ترمب في ولايته الأولى والأشهر الأولى من ولايته الثانية. وكثير ممّا فعل سيتم إبطاله مع قدوم الرئيس القادم بالذات على مستوى السياسات الداخلية كرسوم تأشيرة العمل وغيرها. غير أن التاريخ سيسجل له عدة أمور من ضمنها لقاء زعيم كوريا الشمالية وتوقيع الاتفاقات الإبراهيمية بين إسرائيل وأربع دولة عربية.

في المحصلة، دونالد ترمب شخصية مثيرة للجدل، وسيبقى مادة للكتابة والتحليل السياسي لفترة طويلة، ومن المرجح أن تقوى "الترمبية" بعده، خصوصا في حال قام "الحزب الجمهوري" بترشيح نائبه جي دي فانس لخلافته في انتخابات 2028. ليس لدى فانس من قاعدة يقف عليها غير إرث ترمب الذي سيكون من مصلحته أن يستغله ليضمن الأصوات الموالية لترمب.

font change

مقالات ذات صلة