لم يكن الاتصال الهاتفي الأخير بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جين بينغ مجرد حوار حول تطبيق "تيك توك". كان لحظة كاشفة عن طبيعة الصراع الجديد بين القوى الكبرى. صراع لم يعد يدار بالصواريخ والرؤوس النووية وحدها، بل بالخوارزميات والبيانات ومفاتيح الرأي العام.
في ستينات القرن الماضي، عشنا أو قرأنا عن أزمة الصواريخ الكوبية. العالم وقف على حافة مواجهة نووية. السفن تتجه إلى الكاريبي. الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، أكبر قوتين نوويتين، تستعدان للحرب. العالم ينتظر كلمة واحدة من كينيدي أو خروتشوف. وفي النهاية، جاءت التسوية: "خط ساخن" بين البيت الأبيض والكرملين. الهاتف صار أداة حل وردع. وسيلة لمنع خطأ في الحسابات يقود البشرية إلى كارثة ويرسم "قواعد الاشتباك".
بعدها بربع قرن، جلس ريغان مع غورباتشوف. كانت معاهدات "سالت" و"ستارت". اتفاقات للحد من الترسانات. محاولات لضبط سباق التسلح. لم تنه "الحرب الباردة". لكنها جعلتها أكثر قابلية للإدارة. الحوار المباشر صار ضرورة. "الخط الساخن" جزءا من معادلة الردع. المعادلات استمرت إلى أن سار بوش وغورباتشوف في الجنازة "السوفياتية" وتشظت الرايات الشيوعية. وها هو بوتين ينتقل من رئيس أميركي إلى آخر، بمغامرة أو اختبار، وآخر الاختبارات مع ترمب في الأصقاع الأوكرانية.
اليوم، الصورة مختلفة. مع الخوف من زر أحمر يطلق مئات الرؤوس النووية والسباق النووي بين الصين وأميركا على سطح القمر، كما كان التنافس بين واشنطن وموسكو للوصول إليه، هناك خوف آخر، من خوارزمية صغيرة قادرة على اختراق ملايين الشاشات الصغيرة. التهديد لم يعد مخبئا في الأنفاق وتحت الأرض بل في الهواتف المحمولة التي تتنقل بين الأصابع والجيوب. ومع ذلك، الحاجة هي نفسها: قناة مفتوحة. حوار مباشر. تفاهم يقي من الانفجار.
"تيك توك" ليس مجرد منصة للترفيه. ليست ثواني عابرة. إنه ساحة نفوذ. قناة تأثير. مصدر بيانات. واشنطن تنظر إليه بوصفه تهديدا للأمن القومي. تخشى أن تستخدمه بكين للتجسس والتلاعب في الانتخابات. بكين ترى فيه قصة نجاح. شركة صينية تنافس شركات "وادي السيليكون". نافذة على السوق الأميركية. رمزا لقدرتها على تغيير موازين القوة التكنولوجية، أضيف إليه رمز آخر يخص الذكاء الاصطناعي.
لذلك، الاتفاق حول "تيك توك" يتجاوز التطبيق نفسه. يشبه اتفاقيات الحد من التسلح. لا ينهي التوتر. لا يحل الخلافات الكبرى. لكنه يمنع الانفجار. يضع حدودا. يؤسس لضوابط.
"تيك توك" ليس لعبة تقنية. هو أداة للتأثير في الرأي العام. قدرة هائلة على التحكم في الأجندة السياسية. ترمب ذاته، قال إن له الفضل في فوزه بالانتخابات الأخيرة
عين ترمب في اتصاله مع جين بينغ، على حسابات انتخابية، أن يظهر بمظهر الحامي للأمن القومي. وأن يعزز صورة "صانع صفقات"... حتى مع الخصم الأكبر. صفقة مع الصين، ولو في ملف حساس، تعزز صورته في "جعل أميركا عظيمة ثانية". رسالة بأنه لا يرفع الشعارات فقط، بل يفاوض ويعقد التفاهمات.
جين بينغ دخل الاتصال بحساباته الصينية والعالمية. يقود بلدا يواجه تباطؤا اقتصاديا وضغوطا متزايدة. أي تصعيد مع واشنطن يضر بالأسواق ويؤثر على الاستقرار الداخلي. لذلك، فإن التفاهم حول "تيك توك" فرصة لتخفيف الضغط الخارجي. وإشارة إلى الداخل بأن بكين قادرة على حماية مصالحها من دون مواجهة مباشرة. خطوة في الطريق إلى القمة مع القوة المنافسة على قيادة العالم الجديد.
الأبعاد الأوسع أكثر خطورة. "تيك توك" ليس لعبة تقنية. هو أداة للتأثير في الرأي العام. ملايين الأميركيين يستخدمونه يوميا. مقاطع قصيرة تنتشر بسرعة. قدرة هائلة على تشكيل المزاج. على توجيه النقاش. على التحكم في الأجندة السياسية. هنا جوهر الملف. ليس فقط مسألة أمن قومي تقليدي. بل مسألة ديمقراطية. ترمب ذاته، قال إن له الفضل في فوزه بالانتخابات الأخيرة.
بين زر نووي وخوارزمية رقمية، تتغير الأدوات. لكن السياسة تبقى كما هي. إدارة المخاطر. والحوار قبل الصدام. والهاتف وسيلة الردع الأولى
الاتفاق حول "تيك توك" يوازي، في رمزيته، النقاشات حول الأسلحة النووية. يومها كان السؤال: كيف نمنع سباق الصواريخ من تدمير العالم؟ السؤال اليوم: كيف نمنع منصات التواصل من تدمير الثقة في العملية الديمقراطية؟
بالأمس كان الردع يقوم على "التدمير المتبادل". اليوم الردع يقوم على "التأثير المتبادل". كل طرف، مع فرق كبير بينهما وطبيعة نظاميهما، قادر على النفاذ إلى فضاء الآخر. إلى بياناته. إلى أسواقه. إلى عقول شبابه.
اللغة القديمة تعود بلباس جديد. "قواعد اشتباك". "منع التصعيد". قمة و"خط ساخن". مصطلحات "الحرب الباردة" تُستعار الآن لوصف الحرب الرقمية. الميادين تغيّرت. الأسلحة تبدلت. لكن الحاجة إلى الحوار لم تتغير.
الاتصال الأخير لا يلغي الخلافات الأميركية–الصينية. ملفات التجارة قائمة. تايوان قائمة. بحر الصين الجنوبي قائم. لكن الاتصال يفتح نافذة. يذكّر بضرورة "الخط الساخن" و"قواعد الاشتباك". وأن الهاتف، رغم كل التطورات التكنولوجية والهواتف الذكية، يظل أداة السياسة الأولى.
هل نحن أمام بداية مسار لتفاهمات رقمية كبرى، تضبط الذكاء الاصطناعي وتحدد قواعد الخصوصية والتطبيقات العابرة للحدود؟ أم إن الأمر سيبقى في حدود ملف واحد اسمه "تيك توك"؟
بين زر نووي وخوارزمية رقمية، تتغير الأدوات. لكن السياسة تبقى كما هي. إدارة المخاطر. والحوار قبل الصدام. والهاتف وسيلة الردع الأولى.