سوريا على كتف سنة واحدة

للمرة الأولى منذ زمن طويل، يطلّ السؤال كأنه يستعيد حقه الطبيعي: هل صار المستقبل قابلا للبناء؟

سوريا على كتف سنة واحدة

استمع إلى المقال دقيقة

قبل عام فقط، كانت سوريا منسية تتدلّى على حافة الزمن. نظامٌ صدئ وظل ثقيل. شعب يُستنزَف بلا نهاية. بلاد تتقاسمها الندوب بين عبء التاريخ وشهوة الجغرافيا ووطأة الخراب ووجع العذاب. ثم جاء ذلك اليوم الذي لم يكن انقلابا في الموازين وحسب، بقدر ما كان انهيارا لجدار بدا لسنوات عصيا على الانشقاق. لحظة انفتح في صدرها الهواء فجأة، وانسحب من صدر البلاد غبار أسود.

عام واحد مضى على تلاشي "نظام الأسدين" وعلى جلوس أحمد الشرع في القصر، الذي ظلّ لسنوات غارقا في شلالات الدم وشاهدا على القنابل المرمية من قاسيون على بطن دمشق والطعنات في أكتاف غوطتها. عام واحد، لكن عاصفته امتدت كأنها عقدٌ كامل، يعيد صياغة وعي بلدٍ فقد إيقاعه، وها هو يحاول استعادته.

خلال سنة، لم تتغيّر سوريا فقط، بل تغيّر صوتها وصمتها. نظرتها إلى نفسها، طريقتها في الوقوف. سقطت الثنائية التي كبّلت البلاد عقوداً، سلطة تُقصي وشعب يُقصى. نظام ثقيل وسكاكينه في صدر شعبه وجيرانه وعالمه. معضلة لأصدقائه ومشكلة لأعدائه. تشققت المعادلات الجامدة. بدأ السوريون- بخطى مترددة وكرامة لا تنكسر- صياغة سردية جديدة تخصّهم وحدهم، سردية تنبع من رماد السنوات لا من نصوص الآخرين. شيء انهار، وشيء آخر وقف كهيكل مدينة، نجا من الزلزال وقرر أن يبني نفسه مهما كان الخراب المحيط، وأن يفتح شرايين في جسد منهك.

خلال هذا العام، لم يُسجَّل انتصارٌ نهائي ولا هزيمة مطلقة. زلزال يولد من قلب المفاجأة. تفككت آلة الخوف، وتلاشت الأجهزة التي كانت تصادر الهواء. الأصوات التي كانت ترتطم بجدار الصمت صارت تعلو في الفضاء العام؛ تُجادل، تحتدّ، تتصارع، لكنها لم تعد تُسحق كما كانت. الفضاء الذي وُلد هذا العام ليس مثالياً، لكنه موجود، وهذه وحدها معجزة صغيرة في سياق بلدٍ جُرّد طويلاً من أنفاسه.

وفي خضم داخلٍ متقلّب ضمن برنامج انتقالي فوقي، برزت جبهة أخرى لا تقل أهمية عن الداخل، جبهة الدبلوماسية. خلال هذه السنة، خرجت سوريا من "ثلاجة العزلة" خطوة بعد خطوة. بدأت عواصم كانت مغلقة تعيد فتح نوافذها، وتفتح شوارعها وقصورها. تبدّلت لغة العالم من طلاق مطلق إلى حوارٍ مشروط ثم إلى انخراط محسوب. وشرعت بعض العقوبات تُرفع أو تُخفَّف، ليس كمنحة بل كنتيجة لتحولات داخلية وفرص خارجية فرضت حضورها الجديد.

لقد كان هذا الانفتاح، بكل ما فيه من حذر ومساومات، أول اعتراف دولي بأن سوريا ما بعد السقوط ليست امتداداً لما قبله ويجب أن لا تكون. وربما كان هذا من أبرز انتصارات السلطة الجديدة، أنها أعادت للبلاد مقعداً في العالم بعد أن كانت جدرانه جميعاً موصدة بوجهها.

المذكرات والاتفاقات والتعهدات أُطلقت بانتظار التنفيذ. الإعمار هنا ليس مشروعاً هندسياً، بل اختبارٌ لإرادة شعبٍ يرفض أن يبقى تحت أنقاض تاريخه

أما الإعمار والتنمية، فقد خرجا من خانة الأمنيات والتصريحات إلى ورشة العمل. من سيف العقوبات إلى وعود البناء. لم تُبنَ المدن كما يجب بعد، لكن الرافعات ارتفعت فوق الركام كأذرع تقول إن الحياة ما زالت ممكنة. المذكرات والاتفاقات والتعهدات أُطلقت بانتظار التنفيذ. الإعمار هنا ليس مشروعاً هندسياً، بل اختبارٌ لإرادة شعبٍ يرفض أن يبقى تحت أنقاض تاريخه. الطرق التي تُرصف ليست عبوراً فقط، بل إعلان عن العودة. الشرايين التي تفتح ليست سوى عمليات جراحية في جسد أقام في العناية الفائقة لعقود. والمباني التي ترتفع ببطء تقول إن الخراب، مهما طال، ليس قدراً نهائياً. التنمية لا تزال هشة، محاصرة ببيروقراطية أثقل من الحجر، لكنها بدأت تخترق المشهد مثل نبتةٍ تشق صخراً قديماً.

والمجتمع السوري، الخارج من نفق بلا نوافذ، تلقّى الضوء دفعة واحدة، متوهجاً، جارحاً، مربكاً. ترنّحت خطوته الأولى، لكنه مضى. استعادت الشوارع ضجيجها الخافت ثم المرتفع. عادت المدارس، واستيقظت المقاهي، واستأنف الناس عادة الحياة كما لو أنهم يخوضون معركة يومية ضد الفناء. لكن تحت هذا السطح، تبقى طبقات الألم والرهبة والذاكرة النازفة، طبقات لا يمحوها ترميم واجهة ولا احتفال رسمي؛ بل زمن طويل من المكاشفة والاعتراف وإعادة ترتيب الروح.

اليوم، تقف سوريا على كتف سنة واحدة، لكنها سنة بحمولة زمن كامل. ما جرى لم يكن نهاية التاريخ ولا بداية الفردوس السياسي، بل افتتاح فصلٍ جديد

بقي ملف المعتقلين والنازحين واللاجئين والمفقودين، الجرح الأكثر حضورا وعمقا، والأكثر قدرة على تقسيم الوجدان السوري. هو امتحان السلطة الجديدة وامتحان البلاد كلها. خطوة بعد خطوة، بدأت العائلات تستعيد حقها الأول، الحقيقة. لا العدالة بعد، فلا عدالة بلا زمن مستقر، لكن الحقيقة وحدها تكفي أحياناً لتعيد نبضاً إلى صدور ظنت أنها انتهت... بانتظار العدالة.

لم تنتقل سوريا هذا العام من ليلٍ دامس إلى فجر صافٍ، بل من ظلام خانق إلى عتمة يمكن فيها رؤية ملامح الطريق. وهذه العتمة، بكل ضعفها، تقدم لا يُستهان به. لم تدخل البلاد بعد فضاء الدولة المدنية الراسخة، لكنها خرجت من قبضة حكم كان يخنق حاضرها ويصادر مستقبلها. لم تبلغ الخلاص، لكنها بدأت السير على الخريطة التي كان لا بد من البدء بها، مهما كان الثمن.

اليوم، تقف سوريا على كتف سنة واحدة، لكنها سنة بحمولة زمن كامل. ما جرى لم يكن نهاية التاريخ ولا بداية الفردوس، بل افتتاح فصلٍ جديد يختبر فيه السوريون قدرتهم على إعادة بناء وطنٍ نجا من محاولات المحو، وصياغة تاريخ لا يُكتب تحت فوهة البندقية، ورسم مستقبل لا يملكه أحد بمفرده.

سوريا لم تدخل حربا أهليه كما تمنى "الأسديون". كان يمكن أن تكون الأمور أسوأ. تجنبت البلاد كثيرا من "الأفخاخ" وسقطت في بعضها. كان يمكن أن تكون سنة أحسن. الأمل والعمل أن تكون بلا جروح وانتهاكات وطعنات واستثناءات. بلاد تقرأ التاريخ كي لا تعيده. تقرأ الماضي كي لا تكون رهينة له، بل كي تبنى المستقبل.

عام مضى. للمرة الأولى منذ زمن طويل، يطلّ السؤال كأنه يستعيد حقه الطبيعي: هل صار المستقبل قابلا للبناء؟

font change