عالم بلا شرطي… حدائق ودوائر

عالم ترمب ليس بلا منطق، بل عالم بلا قيود

عالم بلا شرطي… حدائق ودوائر

استمع إلى المقال دقيقة

لم يعد ممكنا فهم سياسة دونالد ترمب الخارجية بوصفها فوضى أو ارتجالا شخصيا، بل كخيار واعٍ لتفكيك النظام الدولي القائم منذ ثمانين سنة، واستبداله بمنطق أبسط وأكثر قسوة. عالم تحكمه مناطق النفوذ لا القواعد، والصفقات لا التحالفات، والقوة لا القوانين، و"حدائق خلفية" لا جبهات أمامية، ودوائر محددة لا عالم واسع.

استراتيجية الأمن القومي الأميركي الأخيرة ليست وثيقة تقنية، بل إعلان قطيعة مع فكرة القيادة الغربية ذاتها، ومع دور "الشرطي العالمي". الولايات المتحدة، في هذا التصور، لم تعد ترى نفسها ضامنا للنظام الدولي، بل قوة عظمى تسعى إلى تحصين مجالها الحيوي و"حدائقها" و"دوائرها"، وتقليص التزاماتها، وفرض كلفة عالية على من يقترب من خطوطها الحمراء وحديقتها الخلفية، مع استعداد واضح لغضّ الطرف عمّا يجري خارجها.

الأخطر في هذه الاستراتيجية ليس ما تقوله، بل ما تتجاهله عمدا. روسيا تكاد تختفي من النص، والحرب في أوكرانيا تُختزل إلى نزاع هامشي لا يستحق أن يكون محور السياسة الأميركية، رغم كونه أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945. هذا التجاهل ليس صدفة، بل انعكاس مباشر لفكرة مناطق النفوذ. أوكرانيا ليست جزءا من المجال الحيوي الأميركي، وأمن أوروبا لم يعد أولوية استراتيجية، بل عبء مالي وسياسي. الرسالة الأميركية واضحة: على الأوروبيين أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يحلّوا مشاكلهم بأنفسهم، أو أن يقبلوا بتسويات تُرسم فوق رؤوسهم، حتى لو كان معنى ذلك تثبيت نفوذ روسي دائم في شرق القارة. هنا، لا تُهدَّد أوروبا بالإهمال و"التلاشي" فقط، بل بإعادة تعريف موقعها في النظام الدولي كطرف تابع، لا كشريك.

في المقابل، يُعاد تعريف التهديدات الحقيقية للولايات المتحدة بطريقة تعكس انكفاءها إلى الداخل وإلى محيطها المباشر. الهجرة الجماعية، المخدرات، الجريمة العابرة للحدود، والتفكك الاجتماعي داخل الغرب تُقدَّم بوصفها أخطارا وجودية، فيما تُهمَّش الصراعات الكبرى ما دامت تدور خارج المجال الأميركي.

هذا التحول يُترجم عمليا بعودة "مبدأ مونرو" بأوضح صوره. نصف الكرة الغربي هو "الحديقة الخلفية" لواشنطن، وأي نفوذ أجنبي فيه يُعدّ تهديدا مباشرا للأمن القومي.

ضمن هذا الإطار، تتحول الحرب التي يشنها ترمب ضد المخدرات إلى أداة سيطرة جيوسياسية، لا إلى سياسة عامة. المكسيك، وأميركا الوسطى، ودول الكاريبي تُعامل كامتدادات أمنية للحدود الأميركية؛ تُفرض عليها الشروط، وتُربط المساعدات والتجارة بدرجة الامتثال. السيادة هنا مشروطة، والاستقلال نظري، وأي اعتراض يُقابَل بالعقوبات أو بالتهديد باستخدام القوة.

فنزويلا هي الحالة الأكثر وضوحا لهذا المنطق. نظام نيكولاس مادورو لا يُستهدف فقط لأنه سلطوي أو فاشل، بل لأنه يشكّل اختراقا جيوسياسيا داخل المجال الحيوي الأميركي عبر علاقاته مع روسيا والصين وإيران. لذلك، لا تتعامل واشنطن مع فنزويلا كقضية ديمقراطية، بل كملف نفوذ يجب إغلاقه. العقوبات، العزل، التهديدات العسكرية، مصادرة ناقلات النفط، وحتى الاستعداد لعقد صفقات نفطية إذا تغيّر السلوك، كلها أدوات لهدف واحد: إعادة فنزويلا إلى بيت الطاعة الجيوسياسي، لا إنقاذ شعبها ولا بناء دولة قابلة للحياة.

الصين هي الخصم الوحيد الذي لا يمكن تجاهله، لكنها تُدار بدورها بمنطق مختلف عن الخطاب التقليدي حول الصراع بين الديمقراطيات والشمولية

المنطق نفسه يحكم مقاربة الشرق الأوسط، لكن بوضوح سياسي أكبر. المنطقة تُدار لا بوصفها فضاء للتسويات أو للاستقرار، بل كساحة يجب ضبطها بما يخدم المصالح الأميركية المباشرة، وعلى رأسها أمن إسرائيل وتهديدات إيران. في هذا السياق، لا تُعدّ حرب غزة مأساة إنسانية أو اختبارا للقانون الدولي، بل ملف أمني يُقاس بمدى تأثيره على الردع الإقليمي. الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، والتسامح مع التدمير الواسع في غزة، لا ينبعان من غياب البدائل، بل من قناعة بأن الكلفة السياسية والأخلاقية أقل من كلفة الضغط على حليف يُعدّ حجر زاوية في منظومة النفوذ الأميركية.

إيران، في المقابل، تُقدَّم كخطر مركزي لا بسبب نظامها، بل بسبب قدرتها على تعطيل هذا الترتيب عبر وكلائها، فيما تُترك الصراعات الأخرى للتجميد أو للإدارة، لا للحل، مع استعداد دائم للانسحاب إذا ارتفعت الكلفة.

أما الصين، فهي الخصم الوحيد الذي لا يمكن تجاهله، لكنها تُدار بدورها بمنطق مختلف عن الخطاب التقليدي حول الصراع بين الديمقراطيات والشمولية. المواجهة مع بكين في عهد ترمب ليست أيديولوجية ولا قيمية، بل تجارية وتكنولوجية بالدرجة الأولى. الصين ليست تهديدا لأنها شمولية، بل لأنها تنافس الولايات المتحدة في قلب اقتصادها وسلاسل إمدادها. لذلك، تُستخدم الرسوم الجمركية، والقيود التكنولوجية، والضغط على الحلفاء كأدوات تفاوض، مع استعداد دائم لعقد صفقات إذا ضمنت تفوقا أميركياً آنياً، حتى لو جاء ذلك على حساب النظام التجاري العالمي أو استقرار الحلفاء الآسيويين.

عالم ترمب، في النهاية، ليس بلا منطق، بل عالم بلا قيود. لا قواعد مشتركة، ولا قيم جامعة، ولا حماية مجانية

استراتيجية الأمن القومي، في محصلتها، تختزل العالم إلى دوائر نفوذ صلبة: دائرة داخلية تُؤمَّن بالقوة والجدران، ودائرة إقليمية في نصف الكرة الغربي يُمنع فيها أي اختراق، ودائرة خارجية تُدار بمنطق الصفقات، حيث لا التزامات دائمة ولا تحالفات مقدسة. الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي، تتحول إلى أدوات خطابية انتقائية، تُستخدم عند الحاجة وتُهمَل عند التعارض مع المصالح.

النتيجة ليست نظاما دوليا جديدا، بل عملية هدم بطيئة للنظام القائم، وتفكيك لمؤسسات الأمم المتحدة. أوروبا تُدفع إلى الهامش أو إلى عسكرة قسرية بلا قيادة موحدة. أوكرانيا تُختزل إلى ورقة تفاوض. غزة تتحول إلى مسرح مفتوح للإفلات من العقاب. أميركا اللاتينية تُعاد إلى موقع التابع الأمني. والصين تُواجَه لا لِما هي عليه، بل لِما يمكن أن تقتطعه من النفوذ الأميركي.

عالم ترمب، في النهاية، ليس بلا منطق، بل عالم بلا قيود. لا قواعد مشتركة، ولا قيم جامعة، ولا حماية مجانية. فقط خرائط نفوذ، وحدائق خلفية، ودوائر صلبة، وصفقات قاسية، ورسالة صريحة: من يقترب من المجال الحيوي الأميركي سيدفع الثمن، ومن يطلب من واشنطن الدفاع عن نظام لم تعد تؤمن به، فليستعد لخيبة مؤكدة.

font change