عبد الله الوصالي الذي جعل أروقة المستشفيات مختبرا لسردياته

يرى فيها عالما حافلا بالقصص

عبدالله الوصالي

عبد الله الوصالي الذي جعل أروقة المستشفيات مختبرا لسردياته

يلتقط الروائي والقاص السعودي عبد الله الوصالي تفاصيل العديد من أعماله الأدبية من مشاهدته غير مألوفة للإنسان العادي، كونه درس الطب والعلوم الطبية وتخصص في الإدارة الصحية. ومن ثم عمل في قسم الطوارئ في مستشفى كإداري، فكان مكان عمله يوحي بالكثير من الأفكار التي تجسدت في أعماله، التي بدأ بنشرها منذ 2003 وكانت حينها مجموعة قصصية بعنوان "وميض الأزمنة المتربة"، ثم أصدر عددا من المجموعات القصصية والروايات من بينها رواية "عشرة أسابيع بجوار النهر" ورواية "نورس هامبورغ" و"أقدار البلدة الطيبة" التي أهلته للحصول على جائزة الأمير سعود بن عبد المحسن للرواية السعودية من نادي حائل الأدبي.

ترجم الوصالي كتاب "كيف يؤثر الأدب في الدماغ" للكاتب الأميركي بول أرمسترونغ، كما دخل عالم الكتابة النقدية، إذ يكشف في حديثه لـ"المجلة" أنه سيصدر قريبا كتابا نقديا بعنوان "النفس والرواية – العقل في المجتمع والعقل في النص".

هل لك أن تحدثنا بداية عن كتابك "النفس والرواية" الذي سيصدر قريبا؟

الكتاب يندرج تحت ما بات يعرف بالدراسات البينية التي تمزج بين أكثر من حقل معرفي لتحقيق هدف واحد، حيث وظفتُ بحوثا ودارسات حديثة في علم الأعصاب وعلم النفس في تقصي الظواهر الأدبية، وفهم منشئها.

بسطت في البداية، بقدر ما يسمح به المجال من السلاسة، عمل فيسيولوجيا العقل وما ينتج منه من تكيفات وظواهر في المجتمع، ثم انتقلت إلى مقارنة تلك التكيفات والظواهر مع عالم الرواية الموازي للعالم الواقعي، وكان من الضروري تحديد مفهوم النفس، وما يعرف بـ"المعمار الإدراكي" للإنسان المميز عن جميع المخلوقات.

لا يعدل ثراء عالم المستشفى مكان آخر في مشهد يتجدد يوميا لا تنقصه الطزاجة والتنوع الدرامي، هو المكان الذي تختزل فيه سيرورة الحياة من الولادة إلى الموت وما بينهما

أطمح إلى أن يشكل هذا الكتاب جوهرا ونقطة انطلاق للنقد الإدراكي المحلي، لجيل من النقاد الذين تنتظرهم الساحة النقدية. نقاد لديهم القدرة على التنقل بسلاسة بين الإنسانيات والعلوم، وهذا النهج ليس في وراد إلغاء المناهج النقدية الأخرى إنما يسعى إلى أن يكون إضافة وإثراء للمشهد النقدي، لقد آن الأوان للخطو مسافة أخرى صوب أفق جديد في مشهد السرد المحلي.

غلاف "النفس والرواية"

عبقرية المكان

عملت سنوات طويلة في المستشفيات، كيف أثرت تلك التجربة التي عشتها على كتاباتك بالأخص القصصية منها؟

خلال تلك السنوات تملكني عالم المستشفى برفق وأنا غير منزعج من ذلك، تواطأنا كلانا على ذلك. وفر لي المفارقات العديدة، والكثير من الأفكار، وبصفتي قاصا ذا حساسية فائقة، فإنني ألتقط تلك المفارقات وأترك لعالم المستشفى حرية التدفق عبر كتاباتي دون افتعال.

لا يعدل ثراء عالم المستشفى مكان آخر في مشهد يتجدد يوميا لا تنقصه الطزاجة والتنوع الدرامي، هو المكان الذي تختزل فيه سيرورة الحياة من الولادة إلى الموت وما بينهما.

الأهم أن طبيعة المكان (المستشفى) تتناسب بشكل مذهل مع طبيعة القصة القصيرة، فهو قادر على تسليط الضوء على حدث درامي محدد في مسيرة الشخصية في معزل عن سيرتها الكاملة في الحياة محققا شرطا مهما في القصة القصيرة وهو وحدة الحدث.

جاءت قصة "امتزاج" نتيجة حدث في قسم الطوارئ بين امرأة تلد طفلها، ورجل يفارق الحياة. كيف جمعت بين أكبر مفارقة يشهدها البشر؟

من جديد، إنه المكان الحاضن. فالمستشفى مكان عبقري. في قصة "امتزاج"  الشخصية طبيب مستجد حاول جهده لإنقاذ مريض من الموت لكنه يفشل في ذلك، فيمضي ليلته أرقا، يراجع متذكرا كل الخطوات التي اتخذها من أجل إنقاذ المريض ويزيد شعوره بالحزن انتباهه إلى بقعة من دم الميت على كم معطفه. لكن عالم قسم الطوارئ مفتوح على كل الاحتمالات.

عبدالله الوصالي

قد تمر عليك ساعات دون أن تأتي حالة حرجة واحدة، وقد تنقلب المعادلة فجأة وتقصر أسرة القسم عن استيعاب المصابين المرضى عند أي كارثة أو وباء. إنه عالم يموج بشتى صنوف الوجع. في ليلة الطبيب ذاك، انشق القدر عن حالة ولادة متعسرة. كانت بداية رأس الجنين أطلت من رحم أمه المستلقية في المقعد الخلفي ويكاد يختنق. ينجح الطبيب المثقل بالإحباط في إنقاذ الموقف. وحين يعود إلى غرفته ليستريح يرى بقعة الدم امتزجت بدائرة أكبر منها من دم الولادة. إنها بقعة العود الأبدي إن صح توظيف المصطلح الفلسفي.

نافذة الأدب

ما أكثر ما بقي في ذاكرتك من حالات الإنسان، عندما يكون رهين مرضه، وما الرسائل التي تتمنى تقديمها أو بالفعل قدمتها عبر كتابتك؟

تمتلئ ذاكرتي بالكثير من المشاهد والحكايات لم أسرد بعضها، وبعضها وجد طريقه للقص. لا يمكنني سرد كل شيء بالتفصيل، وتسجيل الواقع حرفيا، لا بد أن أفي بالشرط الفني الجمالي وهي المهمة الأصعب.

أكبر قيمة يقدمها المبدع للقارئ عبر نصه هي استدراجه للتأمل، لأن يأخذ سانحة من وقع الحياة ويفتح نافذة ينظر من خلالها إلى داخله

لكن قصصي تحوي الكثير من حالات المعاناة وظروفها القاهرة. كتبت عن الطبيب ومعاناته في إنقاذ الأرواح في "امتزاج"، وعن مريض الفشل الكلوي في "يوريميا"، وعن العجز الجنسي في "قرص دواء"، وعن الموت بالتليف الكبدي في قصة "إلى حين"، وفي قصة "المعادلة" عن ورم الثدي، وحتى عن سائق الإسعاف البدوي الذي يجد نفسه أمام ضرورة ارتداء البنطال والقميص، الأمر الذي يراه معيبا في قصة "الزي الجديد". داخل كل ذلك أبثّ رسائلي غير مباشرة. لكن أكبر قيمة يقدمها المبدع الى القارئ عبر نصه هي استدراجه للتأمل، لأن يأخذ سانحة من وقع الحياة ويفتح نافذة ينظر من خلالها إلى داخله وإلى الأشياء من حوله ببصيرة بكر.

غلاف "عشرة أسابيع بجوار النهر"

كيف تحافظ على المسافة ما بينك كروائي، وبين حرية شخوصك الروائية؟

جُبِل الإنسان على حب السيطرة، والتحكم فيمن حوله، هذه الطبيعة تترشد مع النضج الحضاري والنفسي فيعترف بحق الآخر في الوجود والتعبير وتحقيق مصيره. هذا ما يحدث في عالم كتابة الرواية المعاصرة. مع تنامي وعي الكاتب، يتيح لشخصياته الحديث وتعدد الأصوات. كل شخصية لها زاوية رؤيتها ومفرداتها وجوهرها الإنساني، وهو ما يجعل الشخصية أكثر مصداقية وأوقع أثرا لدى القارئ. لكن ذلك يستلزم ثقافة واسعة من الكاتب ومهارة ومعرفة عميقة بنفسيات متعددة والبحث فيها. والأهم يحتاج إلى كبح حب السيطرة ومحاولة تحريك الأحداث عن بعد دون فجاجة التدخل المباشر. يغدو دوري في كثير من الأحيان مجرد غرس البذرة لتنمو الشخصية متحررة من سطوتي، وحقيقة لا تنظيرا أجد الشخصية التي أبتكرها تكبر وتنمو بذاتها تحت عيني ودونما تدخل مني.

ما الذي يدفعك إلى تغيير أسلوبك السردي ما بين عمل وآخر؟

ربما هو حب المغامرة والتجديد. أنا شخص يخنقه الاستقرار وتغضبه الرتابة. أؤمن ألا أفق للمعرفة والابداع وبالتالي تحولات الشخصية الفردية. بالإضافة إلى أني أعي جيدا أنني يجب أن أكسر توقع القارئ وأن أسبقه بخطوات حتى لا يمل.

عبدالله الوصالي يوقع كتابه "أقدار البلدة الطيبة"

أنت حاليا على مسافة متوازية بين القصة القصيرة والرواية، هل تتخيل أن تبقى محافظا على المسارين خاصة أنك ترى أن وجود القصة أصبح باهتا؟ 

لا أظن أني قادر على الموازنة بين المسارين، مسار الرواية يجذبني بشدة بالرغم من أني أحب القصة القصيرة ودهشتها، ولدي أفكار كثيرة تصلح للقصة القصيرة. لكن للأمر بعدا ذهنيا أيضا. إن زاوية الالتقاط لدى القاص غير تلك التي لدى الروائي، فمن الملاحظ أننا حين نهتم عميقا بأمر ما، فإن وعينا وحواسنا تتحفز لالتقاط كل ما له علاقة بذلك الأمر، وتهمش ما عداه. هذا ما يحدث عند ممارسة كتابة الرواية بعمق وجدية كبيرين.

زخم

كيف تنظر إلى حالة الإبداع الروائي والقصصي في السعودية؟

هناك زخم روائي سعودي متدفق. لكن مفهوم الرواية يظل غائبا في كثير من الحالات عن بعض الكتاب فتأتي، كتاباتهم عبارة عن قصص قصيرة ممطوطة، لكني متفائل بأن هناك أجنة تتشكل في رحم المشهد. وروايات عالية القيمة. لدينا كتاب رواية جيدون ومثابرون وصبورون.

سؤال الرواية هو سؤال الحرية، والعالم العربي يحتاج هامشا أكبر من الحرية حتى تزدهر فيه الفنون والآداب

بالنسبة للقصة ليس الأمر بالدرجة نفسها من الإيجابية. عانت القصة كثيرا من العبث الكتابي بعد جودة الثمانينات والتسعينات، وهذا لا يعني أنه لا توجد بعض الحالات الإبداعية القصصية لدى البعض.

هل ما زال الكاتب العربي يتخذ من الرواية والقصة الغربية نموذجا له، أم أننا نستطيع الحديث عن مدرسة سردية عربية اليوم؟

المركزية الأوربية في هذا الشأن لم تعد واردة منذ مدة، فقدت الرواية الغربية سيادتها المطلقة وحاصصتها الرواية اللاتينية، والرواية اليابانية والهندية. الفنون والآداب مع ضرورة احتفاظها بهويتها إلا أنها عالمية المعايير، والرواية العالمية تشكل سقفا ساميا تحاول الرواية العربية الوصول إليه. سؤال الرواية هو سؤال الحرية والعالم العربي يحتاج هامشا أكبر من الحرية حتى تزدهر فيه الفنون والآداب.

أصبح هناك عدد من الجوائز العربية التي تتناول الرواية، ويرى البعض أنها تشجع ازدهار الكتابة السردية العربية، كيف ترى ذلك؟

أتفق مع ذلك. فالجوائز تشجع ازدهار الكتابة، وفي جرد للسنوات الماضية نرى بوضوح صدق ذلك. ورغم أن نتائج بعض الجوائز يعتريها لغط أحيانا لكنه أمر طبيعي. طبعا من المهم النزاهة وفوز الأجدر، لكننا في صدد حكم ذوقي صرف. ومع ذلك فقوائم الجوائز المتتالية تشكل أجندة قراءة للكثيرين وتثير نقاشا وجدلا متواصل. وانتقاد النتائج عمل إيجابي إذ يمثل دور الاستئناف على الحكم.

font change