إياد عبد الرحمن: الرواية الجديدة تستلهم الموروث لتفتح آفاقا جديدة

يعود في "إهانة غير ضرورية" إلى مرحلة "الأغوات"

wikipedia
wikipedia
إياد عبد الرحمن

إياد عبد الرحمن: الرواية الجديدة تستلهم الموروث لتفتح آفاقا جديدة

من خلال قسوة اللحظات الأخيرة في حياة الأغا "آدم" وطفولته التي لا تقل قسوة، تدخلنا رواية "إهانة غير ضرورية" للكاتب والناشر السعودي الشاب إياد عبد الرحمن، إلى عالم المسكوت عنه ضمن مجموعة "الأغوات"، وهم رجال أفارقة كانوا يُخصون عمدا من أجل خدمة المتعبدين في الحرمين المكي والمدني منذ عام 1161 وحتى عام 1979. استخدم الكاتب في روايته الأحدث تقنية التداعي الحر التى نجحت في نقل عالم المهمشين بتفاصيله الدقيقة من خلال ذكريات البطل وعلاقته بمجتمع الأغاوات الذين مارسوا أفعال القسوة والإذلال بعضهم على بعض، في إسقاط نفسي على ما قاسوه في الطفولة.

ولد الكاتب والمترجم والناشر إياد عبد الرحمن بالمدينة المنورة عام 1987. تخرج في كلية هندسة الحاسب الآلي من جامعة يوتا بالولايات المتحدة الأميركية. صدرت له عدة أعمال أدبية من بينها نصوص "انعتاق" (2012) ورواية "ريب المنون" (2014) ورواية "الخليفة" (2015) كما ترجم بعض أعمال الكاتبة الأميركية الراحلة مايا أنجلو، وهو في الوقت نفسه مدير تحرير "دار ميلاد". هنا حوار معه.

  • "إهانة غير ضرورية" هي الرواية الثالثة في مسيرتك الأدبية فما الذي سعيت إلى تقديمه من خلالها؟

أردتُ في هذه الرواية أن ينتصر الأدب للهامش بصفته وسيلة فاعلة لتسليط الضوء على أحداث وشخصيات لا اعتبار لها. إذ استعنتُ بالقليل من الحكايات الشعبية، وبعض المصادر التاريخية الشحيحة، لسرد قصة طفل حبشي يُخصى في خمسينات القرن الماضي ويُرسل إلى مكة المكرمة ثم إلى المدينة المنورة كي يعمل لدى جماعة الأغوات، وهي جماعة من الرجال، غالبيتهم من أصول أفريقية، يقومون بإيقاف حياتهم للعمل في رعاية وتنظيف المشاعر المقدسة، وذلك بشرط أن يكون جميع أعضائها مخصيين وفاقدي الذكورة. إن نظام الأغوات هذا ليس دخيلا على الحجاز، لكنّ المشاريع الأدبية، لا سيما المحلية منها، لم تتطرق له بالشكل الكافي. لذا، أردتُ لهذه الرواية، أن تكون مدخلا مثيرا لاكتشاف الجوانب النفسية والاجتماعية والعاطفية والدينية لواحدة من أكثر الحالات الإنسانية إثارة للاهتمام.

 أردت في هذه الرواية أن ينتصر الأدب للهامش بصفته وسيلة فاعلة لتسليط الضوء على أحداث وشخصيات لا اعتبار لها

  • الرواية ممتلئة بالتفاصيل، بداية من نمط حياة الأغوات، من ملبس ومأكل ومسكن، وصولا إلى حياتهم الخاصة وأسلوب تربيتهم الصارم، حدثنا عن مرحلة الإعداد لكتابة رواية ذات بعد تاريخي؟

باستثناء بعض المصادر التاريخية القليلة التي تطرّقت إلى نظام الأغوات على نحو سطحي، عوَّلتُ  كثيرا على القصص التي يتناقلها أهل الحجاز فيما بينهم، لسرد الحكاية كما يجب. لقد كان للأغوات حضورهم الملحوظ في المجتمع الحجازي، سواء في مكة المكرمة أو المدينة المنورة، وهذا ما جعل الأمر يسيرا عليَّ بعض الشيء للوصول إلى شخصيات حجازية تقاطعتْ مع الأغوات بشكل مباشر وتعرَّفت على روتينهم اليومي. لعلي كنتُ راغبا في الوصول إلى مصادر توثق قصص الأغوات بصوتهم، وتسهب في تفاصيلهم، لا سيما الشخصية والنفسية، لكن وفاة غالبيتهم وانقضاء نظامهم جعل الأمر عسيرا عليَ، وهذا ما جعلني أستعيض عن ذلك بالوصول إلى أفرادٍ في المشهد المحلي كان لهم وافر الحظ في التقاطع مع الأغوات والتعامل معهم بشكل يومي.

  • شخصية "الناظر" هي النقيض لشخصية "الشيخ إسماعيل" هل أردت أن تظهر الفرق بين نظافة القلب والروح للشخصية الصوفية والنظافة والانضباط "الظاهري" للأغوات ؟

لربما هذا هو ظاهر الأمور، لكن في باطنها، خُلقت هذه الشخصيات حتى تختبر السلوكيات اللاواعية لآدم بطل الرواية، وحتى توجهه، بأسلوبها الخاص، نحو الإجابة عن سؤال يشكل هاجسا له منذ الطفولة، ألا وهو، لماذا كان ينبغي عليَّ أن أفقد ذكوريتي؟ إن رحلة آدم التي لم تخلُ من التساؤولات، كان لابد أن ترغمه على العبور بشخصيات تختبر إمكاناته وتؤثر سلبا أو إيجابا على طريقته في إجابة السؤال، فشخصية "الشيخ إسماعيل"، مثلا، كانت تحثه على الاهتداء للإجابة من خلال الخضوع لأوامر الجماعة وإخلاص العمل لها دون الاسهاب في السؤال، إذ أن تسليم المسألة للأقدار هو جلّ ما ينبغي فعله، أما شخصية "الناظر"، فقد جاءت كي تقوده للاعتقاد بأن الإجابة لا يمكن أن تأتي بشكل مباشر، وأنها تقتضي تطوير مَلَــكة عقلية بعد أن يفهم منافع الحكمة فيصبح إدراكه أعمق للأشياء، ولا يكتفي بالظواهر بل يمضي مسافة أبعد مما يمضيه الناس عادة عند سبرهم لموضوع ما.

تمرّد

  • آدم ذو طبيعة متمردة تعكس الطبيعة التي يتربى عليها الأغاوات وكأنك أردت أن تقدم روح الثائر على المسكوت عنه في حياة المهمشين...

منذ طفولته كان آدم مشغولا بالسؤال، السؤال عن سبب خلقه، وعن سبب إخضاعه لفقدان ذكوريته، وعن سبب إرغامه على ترك قريته والسفر وحيدا إلى الحجاز، وعن سبب حاجته إلى الاعتكاف سبع سنوات متواصلة تحت إمرة الأغوات وأنظمتهم الصارمة. ميلهُ للسؤال وشخصيته التي تتسم بإطلاق الاحكام والاستدلال بالخَلق الظاهر على الخُلق الباطن، لا بد لهما من جعله يثور على الأفكار والمبادئ، لا سيما تلك التي تتعارض مع استنتاجاته الخاصة، وتزيد ثورته حين تأتي استنتاجاته مرافقة لتناقض سلوكياتٍ الأغوات من حوله، وميل بعضهم للتصرف بطرق تتعارض مع ما هو مأمول من الأغوات. إن هذه الرواية جاءت كي تنفي، وبشكل قطعي، احتمالية أن يفتقر المهمشون لمهارات التفكير الناقد، إذ لا بد لإحدى الشخصيات المقموعة، داخل جماعةٍ تؤمن بضرورة الرضوخ للأوامر دون سؤال، أن تملك القدرة الذهنية على عدم قبول المعلومات التي تقدم للمرء بصفتها حقائق مباشرة، وأن تمحّص بعقلها كل ما يردها من معلومات، وألا تُدخل في ذهنه إلا ما تم التحقق في أصوله وما يتم التحري عنه جيدا.

  • بين خوف الطفل آدم من الموت غرقا بعدما تركته أمه واللحظات الأخيرة في حياته كرجل مسن كانت آخر كلماته "ينتصر القدر، وتخيب نبوءة أمي، وتنتهي القصة". هل كانت نبوءة أمه هي الثقل الحقيقي في حياة أدم؟

صحيح، لا سيما وأنه كان شديد الاعتقاد بانه سيلقى والدته في مرحلة لاحقة من حياته، فتأخذهُ إليها، وتمتدحه، بطريقتها الجافة المعهودة، لأنه واظب على العمل في الجماعة مثلما أرادت له، ومثلما رأتْ في حُلمها. انشقاقهُ عن الجماعة وضع على عاتقه ثقلا كبيرا، وهذا يتجلى في اللحظة التي جاءت بها "مونا" للبحث عنه، فظن الجميع أنها والدته. لقد كان يخشى اللقاء حتى لا يجد نفسه أمام والدته، وأمام الحاجة الملحة لتبرير الأسباب التي جعلته يخيّب ظنها. ولأنه لم يلقَ والدته مذ أن ودّعته وتركته يسافر للحجاز وحيدا من دونها، ظلّ يحمل على عاتقه هذا الثقل الذي كان من الممكن أن يزول في حال لو لقاها وشرح لها أسبابه. 

إن اللحظة الأخيرة في الرواية جاءت كي تضع نهاية للصراع الفكري المحتدم داخل رأس "آدم" هل كان تصرفه صائبا حين ترك جماعة الأغوات؟ وهل كانت والدته ستشعر بالعار والغضب لأنه ترك الجماعة؟ لقد كانت رؤية والدته التي تتمحور حول إخلاصه في التضحية، وإمضائه ما تبقى من عمره في العمل لدى جماعة الأغوات، لكن هذا لم يحدث قطعا، وهو ما جعل نبؤة والدته تخيب، وجعله، من وجهة نظره على الأقل، ينال النهاية التي قُدّرت له. 

الرواية العربية

  • قبل صدور الرواية قلت عنها في أحد الحوارات الصحفية أنها "امتداد لرؤيتي الشخصية ولرؤية دار ميلاد أيضا تجاه العمل الإبداعي" حدثنا عن تلك الرؤية ككاتب ومترجم وناشر؟

شخصيا، أرى أن من الواجب على السرديات الروائية العربية بشكل عام، والسعودية بشكل خاص، أن تتطرق إلى مواضيع جديدة ومغايرة تفتح آفاقا ثقافية بعيدة وتختبر الإرث المحلي الذي يزخر بالكثير من القصص والأحداث الجديرة بالتداول. هنالك الكثير من الحكايات التي يمكن أن تُستمد من الماضي القريب أو البعيد لصنع مرويات محلية عالية الجودة، وهي بدورها تصبح صالحة للتداول محليا وعالميا بسبب أصالة الموروث الذي تستند عليه واختلافه عن السائد والنمطي والمعروف. كروائي وناشر، أرى أن رواية "إهانة غير ضرورية" تتواءم مع هذه الرؤية، إذ أنها، وبالإضافة لكونها عملا إنسانيا ووجدانيا، تناقش قضية محلية أصيلة، وتشكل نموذجا للسردية المحلية القادرة على تجاوز الحدود والوصول إلى قراء خارج المنطقة.

  الرواية أداة فاعلة لمحاولة تعرية الواقع وتحليل سلوك الإنسان

  • كناشر كيف تنظر إلى واقع إقبال دور النشر العربية على الرواية دون سواها من فنون الكتابة؟

 تعتلي الرواية قائمة اهتمامات الناشرين دون غيرها من أطياف الكتابة الإبداعية، ربما بسبب تفردها في توظيف الحكاية لإيصال المعنى، أو ربما لأنها، ومنذ الأزل، كانت الأداة الفاعلة لمحاولة تعرية الواقع وتحليل سلوك الإنسان، لا سيما وأن الإنسان، يميل بطبعه لخلق عوالم أخرى جديدة تفسّر حياته، ولهذا أراها محط اهتمام الناشرين العرب. الجوائز المحلية والعالمية تذكي لهيب الإقبال أيضا، وتزيد من شغف القراء لاكتشافها، وهذا في ظنّي سبب وجيه لكتابة الرواية ونشرها.

  • كيف ترى الأدب السعودي في ظل التغيير الذي شهدته المملكة خلال السنوات الأخيرة؟

العديد من الأعمال المحلية بدأ يتجه نحو مواضيع مغايرة تتواءم مع التغيير الاجتماعي التي تشهده المنطقة والسعودية. فعلى سبيل المثال، لا أعتقد أن القضايا والمواضيع التي كانت تستند عليها الرواية سابقا هي موطن اهتمام الروائيين في الوقت الحالي. أرى أن هناك ميلا كبيرا للعودة إلى الماضي واستخدام الموروث المحلي لكتابة أعمال أصيلة تمثل المنطقة وأهلها، وهذا على الأغلب ما فعلتهُ في رواية "إهانة غير ضرورية".

font change

مقالات ذات صلة