عابد إسماعيل: أسوأ الترجمات تلك التي تتقيد بالمعنى القاموسي

المترجم ليس مجرد وسيط آلي بين لغتين

Almajalla
Almajalla

عابد إسماعيل: أسوأ الترجمات تلك التي تتقيد بالمعنى القاموسي

ارتبط اسم الشاعر والمترجم السوري عابد اسماعيل، الذي درس الأدب الإنكليزي في جامعة نيويورك، بترجمات نوعية، وبات القارئ الحصيف مدركا أن وجود توقيع اسماعيل كمترجم على غلاف كتاب ما، هو ضمان على فرادته وجودته.

لا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لإثبات هذه الفرادة التي تتمتع بها ترجمات اسماعيل (المولود في اللاذقية عام 1963)، فإلقاء نظرة على أرشيف ترجماته يمنح مثل هذا الانطباع، إذ سنجد اسماء لكتاب كبار من قبيل والت ويتمان (1819- 1892) أحد أهم شعراء أميركا وأكثرهم تأثيرا في القرن التاسع عشر، وبورخيس الأرجنتيني (1899 -1986) الباهظ الصعوبة، وف. س. نايبول (1932 - 2018) الفائز بنوبل الآداب 2001، والناقد الأميركي هارولد بلوم وسواهم.

إلى جانب كتب ذات خصوصية من قبيل "ادفنوني واقفا" للكاتبة الأميركية إيزابيل فونسيكا، عن سيرة الغجر، و"فن الكتابة/ تعاليم الشعراء الصينيين" وسواهما، فإن اللافت، كذلك، في تجربة اسماعيل، الذي أصدر ستة دواوين شعرية، هو تصديه لترجمة الأعمال الكاملة للشاعرتين الأميركيتين سيلفيا بلاث (1932 –1963) وإميلي ديكنسون (1830 - 1886)، فمن المعروف ان ترجمة الأعمال الكاملة تفرض على المترجم تحديات لا تحصى، يشرحها اسماعيل في هذا الحوار مع "المجلة"، فضلا عن قضايا أخرى تتعلق بتعقيدات الترجمة وهمومها، وآفة "غوغل"، "شفيع" الكثير من المترجمين حاليا.

يجب على المترجم أن يكون في أقصى درجات اليقظة والحذر، كي لا يضيع عليه، أو منه، خيط واحد من خيوط الدلالة المتشابكة، المبثوثة في ثنايا النص

بين ديكنسون وبلاث

  • لنبدأ من ترجمتك للأعمال الكاملة لإميلي ديكنسون التي صدرت أخيرا... المترجمون يختارون، غالبا، نصوصا سهلة، طيعة أمام الترجمة لهذا الكاتب او ذاك، ويتجنبون الأعمال الكاملة التي قد تضم نصوصا عصية على التعريب، لكنك تصديت للأعمال الكاملة لهذه الشاعرة، صاحبة تجربة "غاية في الصعوبة والتعقيد والإضمار والترميز". ما التحديات التي واجهتك خلال هذه المغامرة؟ ما الصعوبات التي تفرضها ترجمة الأعمال الكاملة على المترجم؟

كما أشرتَ في سؤالك، تتأتى الصعوبة من محاولة سبر أغوار أسلوب ديكنسون الصعب، والوعر، والمبهم، والمخاتل في كثير من الأحيان، وهنا يجب على المترجم أن يكون في أقصى درجات اليقظة والحذر، كي لا يضيع عليه، أو منه، خيط واحد من خيوط الدلالة المتشابكة، المبثوثة في ثنايا النص. دلالة المفردة في قصيدة ديكنسون ليست مشروطة بتعريفاتها القاموسية، ولا حتّى سياقاتها اللاهوتية والفلسفية والميتافيزيقية، بل تتعداها إلى ما هو أبعد، إلى معنى المعنى، وهنا يجب على المترجم أن يلتفت إلى ما يمكن تسميته "ظلال الدلالة"، مما يجعل عملية الترجمة مغامرة لا تخلو من الصعوبة، على الرغم من أنها لا تخلو من المتعة أيضا. شخصيا، يغويني كثيرا الأسلوب الصعب، الثريّ بالترميز، المترع بالتلميح، الذي ينطوي على فضاءات دلالية ورمزية ومجازية شاسعة، وهذا ما وجدته بكثرة في شعر إميلي ديكنسون.

أما عن تحديات ترجمة الأعمال الكاملة، فهي كثيرة، وأبرزها ضرورة إلمام المترجم العميق والشامل بكلّ جوانب الحياة الأدبية والشخصية والتاريخية للمؤلف، فضلا عن درايته المرهفة والفريدة بأسلوب الشاعر وطريقة فهمه للقصيدة، وعلاقته باللغة والميراث الأدبي، والمدارس النقدية، وسوى ذلك. في ترجمة "الأعمال الكاملة" لا يملك المترجم بذخ الاختيار، أو الحذف، أو الانتقاء، كما هي الحال في ترجمة "المختارات"، بل يرى نفسه ملزما-موضوعيا-بترجمة كلّ نثرة ومزقة وشذرة أدرجها الكاتب في أرشيفه الشعري، بدءا من الديوان الأول حتى الأخير. وهذا ما قمتُ به مع ديكنسون التي لم تنشر سوى القليل من قصائدها خلال مسيرة حياتها، وانتظر العالم طويلا قبل أن يرى أعمالها تُجمع وتُنشر تباعا بعد وفاتها.

  •  قبل ديكنسون، ترجمت كذلك الأعمال الكاملة لسيلفيا بلاث، ماذا تخبرنا عن هذه التجربة بالمقارنة مع سابقتها؟

هما شاعرتان مختلفتان تماما في الرؤيا والأسلوب، النبرة والإيقاع، الحساسية والثقافة، ويفصل بينهما قرن كامل. ديكنسون تميل في شعرها إلى التكتم والابهام، وبلاث شغوفة بالبوح والمكاشفة. ديكنسون مقتصدة في مفرداتها كأنها تنحت في صخر، وبلاث سخية، متدفّقة، كأنّها تغرف من بحر. الألم لدى ديكنسون، فلسفي، وجودي، ولدى سيلفيا شخصي، ذاتي. في شعر ديكنسون صدوعٌ لا حصر لها، تتطلب من القارئ ثقافة أدبية عالية لفك شيفرة الإحالات والتوريات والرموز، وفي شعر بلاث انسيابية تعبيرية وغنائية آسرة. حين ترجمتُ سيلفيا، تمنيت أن أبقى في صحبتها وقتا أطول، أصغي إلى اعترافاتها، وأتلصص على أسرارها، إذ لا يجد القارئ صعوبة في الاستدلال إلى مفاتيح شعرها، وشخصيتها، وشعرها القائم على السرد والعاطفة المتأججة. مع ديكنسون، كان العبء أكبر، والمهمة أصعب، لأنّ شعرها مثخن بالغموض، أو ما أرغب بتسميته المعترضات اللغوية والفكرية والعاطفية، التي تتعمّد إحداث القطيعة مع كلّ انسيابية رومانسية، لأنّ عقلها مشغوف بأسئلة وجودية مرهقة عن الموت والعزلة والخلود والزمن والله، وسوى ذلك. صحيح أنني أعتبر ديكنسون الأعظم شعريا، وبما لا يُقاس ربّما، لكنّ صوت بلاث يظل عالقا في الذاكرة لفترة أطول، ربّما بسبب حضور المأساة في حياتها، ومحاولاتها المتكررة للانتحار مذ كانت فتاة مراهقة في منزل أهلها، مرورا بزواجها من الشاعر الإنكليزي الشهير تيد هيوز، ثم طلاقها منه، وانتحارها المأسوي في ذروة عطائها.

  • هذا الاختلاف الشاسع بين ديكنسون وبلاث يقودنا الى سؤال حول كيفية اختيارك لترجماتك. ما المعايير  والشروط؟

أصف نفسي دائما بالقارئ "المُتْعَوي"، وهذه عبارة أستعيرها من بورخيس، لأنني لا بدّ أنّ أضع في الحسبان دائما معيار المتعة الجمالية الذي يوفره العمل الأدبي لي كقارئ أولا ومترجم ثانيا، وأجده شرطا ضروريا لقبول المهمة العسيرة التي اسمها الترجمة. أحيانا تُمضي أشهرا وسنوات منكبا على كتاب بعينه، فإذا لم يكن ممتعا، تصبح الترجمة جحيما لا تطاق. في النقد الأدبي، على سبيل المثل، اخترتُ هارولد بلوم لما يتميز به من ذائقة رفيعة، وثقافة أدبية عميقة، ورؤيا حداثية للنص الأدبي، ولأنه يوفّر لي تلك المتعة النادرة التي أبحث عنها دائما في كلّ كتابة. هذا ينطبق على معظم الشعراء والروائيين الآخرين الذين ترجمت بعض أعمالهم.

الخيانة الظاهرة

  • وفقا لأمبرتو إيكو، فان "الخيانة الظاهرة" للنص هي، في نهاية المطاف، "وفاء" لهذا النص. ما تعليقك أنت؟

هذا الرأي لإيكو يتقاطع قليلا مع ما قاله الشاعر الأميركي روبرت فروست الذي يرى أنّ الشعر الحقيقي هو ذاك الذي يضيع في الترجمة. فروست-العاشق للوزن والقافية-كان يعي استحالة ترجمة الأوزان من لغة إلى أخرى، وبالتالي عبّر، ربّما، عن خشيته من ضياع الشعر في الترجمة. بل إنه تحدث ذات مرة عمّا أسماه "إيقاع المعنى"، وهذا أيضا "يضيع" في الترجمة بسبب الاختلاف البنيوي والنحوي والصرفي بين لغة وأخرى. وقد يكون فروست على حقّ حين ننظر إلى ترجمات الشعر العربي الكلاسيكي إلى اللغة الإنكليزية مثلا، ونكتشف "ضياع" تلك العناصر الفريدة التي تقوم عليها القصيدة العمودية، وخاصة تلك المحسنات البديعية الخارقة التي نجدها مثلا في بيت شعري لامرئ القيس يقول: "مكرٍّ، مفرٍّ، مقبلٍ، مدبرٍ معا كجلمود صخر حطّه السيل من علٍ"، فكيف نترجم بيتا كهذا؟ ألن نخسر لا محالة الكثير من الإيقاع والزخم والروح، والموسيقى، كونها ببساطة عناصر عضوية تدخل تلقائيا في تركيبة وبنية اللغة العربية ونظامها الدلالي، بحيث يصعب، بل قد يستحيل، إيجاد بدائل لها في اللغة الأجنبية الجديدة. لكن الوضع يختلف تماما في ترجمة الشعر الحرّ، الخالي من الوزن والقافية، وتلك قضية أخرى لن أتطرق إليها الآن. مع ذلك، في قرارة نفسي، أجزم أن الدقة والأمانة والوفاء للنصّ الأصلي تظل معايير جوهرية لا يمكن التحايل عليها تحت أية حجج واهية، بغض النظر عن طبيعة النص وجنسه الأدبي، أو درجة صعوبته، والمفارقة التي يشير إليها إيكو في جملته تعني، كما أرى، أنّ أسوأ أنواع الترجمة هي تلك التي تتقيد حرفيا بالمعنى القاموسي فحسب. فالخيانة الظاهرة هنا تعني الابتعاد عن المقاربة الحرفية للمعنى الأدبي، واعتماد المقاربة الرمزية أو المجازية أو الدلالية، لأنّ اللغة الأدبية استعارية في جوهرها، وتنطوي على فضاءات دلالية شاسعة لا نجدها مثلا لدى "غوغل"، الذي بات المرشد الجديد لكثير من المترجمين العرب اليوم-ممن لم يدرسوا اللغة الإنكليزية أكاديميا-وذلك للتستّر على جهلهم باللغة الأجنبية، شكلا ومضمونا. "غوغل" يعطيك المعنى السطحي، الأولي، أو الحرفي، ويترك جانبا الدلالات الجوهرية الغائرة في نسيج النص، وخاصة الشعريّة منه. أعتقد أنّ إيكو هنا يتحدث عن ضرورة الابتعاد عن المستوى السطحي الأوّل للمعنى، أي الحرفي، والاقتراب-"الوفاء"-من الدلالة الرمزية الأعمق والأبعد، وعدم الوقوع في الابتذال والتشويه أو "الترجمة بتصرف"، كما يحلو للبعض أن يفعل.   

 قد تصحّ استعارة القبلة الزجاجية في توصيف الترجمات الرديئة للشعر، وهنا ينبغي أن نلوم المترجم، وليس الشعر

  •  لمزيد من التوضيح حول هذه الإشكالية، ما رأيك بمقولة: إن ترجمة الشعر، بصورة خاصة، هي كالقبلة من وراء الزجاج؟

لا أوافق على هذه المقولة أبدا. بين يدي المترجم الموهوب، تصبح ترجمة الشعر بمنزلة القبلة الحارة بين عاشقين شغوفين. أبعد من ذلك، لماذا نفترض أنّ اللغة الأمّ هي الأصل المنزّه، المقدّس، الصافي دائما، وترجمتها إلى لغة أجنبية أخرى، تعني الانحدار بها إلى منزلة أدنى، كمثل سقوط آدم من الفردوس. الفيلسوف الفرنسي دريدا، على سبيل المثل، يدحض فكرة اللّغة-الأصل، ويعتبر أنّ كلّ لغة هي شكل من أشكال الترجمة، لأننا نتعلّمها-نحوا وصرفا وقواعد-كما نتعلّم أية لغة أجنبية أخرى. مفهوم "اللّغة الأمّ" إذاً هو خرافة فحسب. وغالبا ما تصبح الترجمة أصلا تتفوق فيه على "الأصل" ذاته إذا أوفت بجميع وعودها. وأنا أرى أنّ المترجم البارع قادر على نقل جذوة النصّ إلى لغة أخرى إذا عرف كيف يتماهى مع المؤلّف، روحا وفكرا وأسلوبا، أي أن يحلم أحلامه، ويتألم ألمه، ويتكلّم كلامه. قد تصحّ استعارة القبلة الزجاجية في توصيف الترجمات الرديئة للشعر، وهنا ينبغي أن نلوم المترجم، وليس الشعر.    

المترجم والرقيب

  • حين تعثر على عبارة مثيرة للجدال على المستوى الديني أو السياسي في نص ما (لها علاقة بإنكار الإله مثلا أو شتمه أو ينطوي على انتقاد سياسي فج...إلخ)، وتعرف انها محظورة عربيا، كيف تتصرف؟ هل من رقيب خفي لدى المترجم؟

من حيث المبدأ، أنا أمقتُ كلّ أنواع الرقابة على التفكير، فما بالك إذا مورست على المخيلة الأدبية؟ حين أترجم قصيدة أو رواية، أعلم أنني أتعامل مع نصوص متخيلة، غير واقعية، لا تخضع لمعايير لاهوتية أو سياسية أو اجتماعية، بل أدبية محضة. على سبيل المثل قد تقتضي الضرورة الفنية في مسرحية أو رواية أو قصيدة ابتكار شخصيات "ملحدة"، وأخرى "إباحية"، وأخرى مجنونة، متهتكة، ماجنة تستخدم ألفاظا شائنة تتلاءم مع طبيعة تفكيرها وموقعها في العمل الأدبي ذاته، فهل أقوم بكمّ أفواهها، لأنّ خطابها ينتهك المقدّس، أو يخدش الذوق العام؟ بالطبع لا، طالما أنها شخصيات أدبية صرف، ابتدعها الكاتب من مخيلته لتقوم بأدوار الخير والشرّ، فليس من حقي كمترجم أن أعدّل أو أخفّف من غلواء كلامها، لاعتبارات تقع خارج نطاق الكتابة الإبداعية. أنهكتنا الرقابة بشتى أشكالها في العالم العربي، وآن الأوان لإعطاء العقل الحرية الكاملة، وغير المشروطة، كي يتصدى لكلّ القضايا الإشكالية، الجدلية، الدينية والسياسية والأخلاقية، بعيدا من ثقافة الأمر والنهي، التي باتت جزءا من ثقافة عصور الظلام.

  • بعد كل هذه الترجمات، إلى ماذاتوصلت في هذا الحقل الشائك؟ هل لك أن تقدم تعريفا مبسطا للترجمة من وجهة نظر شخصية؟

الترجمة علم وفن في آن واحد. ومعرفة المترجم العميقة باللغة الأجنبية التي يُترجم عنها لا ينبغي أن تقلّ أهمية عن إلمامه بلغته الأمّ، وأي خلل في هذه المعادلة يُعتبر "خيانة" حقيقية للمعنى، بكل مستوياته وتجلياته وإرهاصاته. إنّ ترجمة نص إبداعي من لغة إلى أخرى يعني دائما إعادة ابتكاره من جديد في لغة جديدة. بين العلم والفن تأتي روح المترجم التي تولد معه فطريا، مسكونة بشغف الكتابة، وإلاّ فإنّ ترجمته سوف تعاني كثيرا، وتضمحل قيمتها الجمالية. ليس المترجم مجرد وسيط آلي، حيادي، بين ثقافتين أو لغتين، بل هو مبدع بكلّ ما للكلمة من معنى، ولا يقلّ شأنا في هذا عن المؤلف. 

الترجمة العكسية

  • كيف تجد حركة الترجمة من العربية إلى الإنكليزية؟ وهل ثمة عوامل أو دوافع خفية تهمل نصوصا عربية تستحق الترجمة وتركز على أسماء مكرسة فحسب؟

أظنّ أنها تحبو ببطء شديد، ولا تزال حكرا على الأعمال الأدبية التي تنال جوائز هنا وهناك، فضلا عن اعتبارات كثيرة شتى مرتبطة بمدى دراية الغرب بنصوصنا وأدبنا وكتابنا، والتي لا تزال محدودة وضيقة مع الأسف. أنت وأنا نعرف جيدا كيف أنّ كتابا تُرجمت أعمالهم إلى لغات أخرى، بالكاد يعرفهم أحد في بلدانهم الأصلية. نعم، ثمة عوامل ساذجة، سياسية، وسواها، ربّما هي التي تحسم مدى صلاحية هذا النص أو ذاك للترجمة، بعيدا من المعايير الأدبية الخالصة التي ينبغي أن تكون العامل الحاسم في اختيار نص ما للترجمة عن سواه. أحب أن أضيف أيضا أن حضور الأدب العربي المترجم لا يزال في حد ذاته حبيس أدراج الاختصاصيين والمستشرقين فحسب، ولم ينزل إلى الشارع أو القارئ العادي في هذه العاصمة الغربية أو تلك، حتى بالنسبة الى الأسماء المكرسة عالميا كأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني ونجيب محفوظ وسليم بركات، وسواهم. بكلام آخر، لا يزال أدبنا العربي المترجم حكرا على المؤسسات الأكاديمية والجامعية في الغرب، وأقسام صغيرة تُعنى بدراسات "الشرق الأوسط" في هذه الجامعة أو تلك، ولم يرتق بعد إلى مستوى حضور أدب أميركا اللاتينية مثلا، أو حتى أدب القارة السوداء، وذلك لأسباب تاريخية، غائرة، سبق وسلّط عليها الضوء إدوارد سعيد في كتابه الفذّ "الاستشراق".

أنهكتنا الرقابة بشتى أشكالها في العالم العربي، وآن الأوان لإعطاء العقل الحرية الكاملة وغير المشروطة

  • هل أنت راض عما يتقاضاه المترجم من دور النشر؟

مشكلتي أنني لا أعتبر نفسي مؤسسة تجارية ربحية، غايتها جمع المال من وراء عملي في الترجمة، فأنا عاشق للترجمة، أولا وأخيرا، وسأبقى عاشقا لها، على الرغم من صعوبة الظروف المعيشية في هذا الشطر الكئيب من كوكبنا. أعتقد أنّ الجانب المعنوي أهم بكثير بالنسبة إليّ، مما يجعلني في كثير من الأحيان أغمض عيني عن "حقوقي المادية" لدى هذا الناشر أو ذاك لصالح ضمان نشر أعمالٍ أدبية قيّمة من رواية ونقد وشعر، تهمّ القارئ العربي، وترفد المكتبة العربية بآفاق معرفية جديدة، فالترجمة بالنسبة لي شغفٌ في الدرجة الأولى، وليست مهنة بالضرورة. ونظرا الى الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها الجميع في سوق الكتاب، أجد نفسي مضطرا إلى السكوت عن أشياء كثيرة. أنا راضٍ فقط عن الكتب التي ترجمتُها حتى الآن، وصدرت في السنوات الأخيرة عن دور نشر عربية مرموقة (المدى في بغداد-التكوين في دمشق)، يديرها أناس مثقفون، ومحترمون، يبذلون ما في وسعهم لإبقاء عجلة النشر متحركة وسط ظروف صعبة جدا.

  • على مستوى الشعر، من الملاحظ أن أكثر من عقد يفصل بين ديوانك الخامس "لمع سراب"، وديوانك السادس "أشباح منتصف النهار" الذي صدر قبل نحو سنتين. هل لديك تفسير لذلك، وما الأثر الذي تركته الأزمة السورية على قلمك ويومياتك؟

دعني أصارحك أنني لم أتوقف قطّ عن كتابة الشعر خلال هذه الفترة الفاصلة بين الديوانين، الخامس والسادس، التي تجاوزت العقد من الزمن. ما امتنعتُ عنه هو نشر ما كنت أكتبه لأسباب شتى أهمها بالطبع الحرب وتبعاتها الكارثية، والتي تجعلك تعيد النظر في كلّ شيء، وتفقد الثقة بكلّ شيء، حتى بالكلمة ودورها وفاعليتها وجدواها. لكنني قررت في لحظة ما نشر ديواني "أشباح منتصف النهار"، الذي أرصدُ فيه تلك اللحظات الرهيبة التي عشتها ككائنٍ مذعورٍ، تقوقع على نفسه على مدى سنوات متتالية، واختبر كلّ تنويعات العزلة، والألم، والخوف، والخيبة، والعدمية، والذهول.

font change

مقالات ذات صلة