دفاعا عن البذاءة في رواية "يوم الجرو" لمحمد الحارثي

الماضي لم يكن دوما جميلا ولا مثاليا

رواية "يوم الجرو"

دفاعا عن البذاءة في رواية "يوم الجرو" لمحمد الحارثي

هل الماضي حقا بتلك الوردية والرومانسية التي يصورها أدب النوستالجيا؟ هل كان يحمل ذلك السحر والكمال الذي نشاهده في الأعمال الدرامية أو التاريخية التي تمجد شخصيات عظيمة، وتتحسر على غيابها، وتتغنى برومانسية عذرية تسكن أزقة الأحياء الشعبية؟

في رواية "يوم الجرو" الصادرة أخيرا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، يكشف الكاتب السعودي محمد الحارثي عن وجه الماضي القاتم، موضحا كيف أنه يمكن الفقر والظلم والجهل تشويه أخلاق الإنسان ولغته وحتى حياته بأكملها. يطرح الحارثي سؤالا جريئا حول أثر استبداد الآباء وغيابهم وسلبيتهم في تدمير العلاقة الأقدس في المجتمع: علاقة الابن بالأب. إذ بينما تكرس روايات الحنين الى الماضي مفهوم الطاعة العمياء للآباء وتقديرهم واحترامهم، نجد في "يوم الجرو" نموذجا معاكسا تماما، فهناك شخصيتان تتجرآن على الأب، في تمرد صريح على القيم التقليدية.

صراع أجيال

فياض، أحد أبطال الرواية، يرفض أن يكون مجرد امتداد لوالده المحطم والفاشل، معلنا انتماءه إلى جدته، ودفاعه عنها في وجه أبيه. وبالمثل، يرفض طيري أن يبقى الابن المنبوذ، مصمما على نزع الشرعية عن والده الظالم. وهكذا يصبح التطاول على الأب في الرواية رمزا لتمرد الأبناء على جيل قديم، وعلى ماضي كريه، ومنظومة اجتماعية فاسدة، ورغبة في خلق هوية جديدة لا تخضع لسلطة الماضي.

يتجسد هذا الصراع في شخصية فياض، الشاب الضخم الذكي، الذي ينشأ في بيئة غارقة في الفقر والعوز والقذارة، بين بذاءة جدته وسلبية والده. يحاول فياض أن يخلق عالما جديدا لنفسه، حتى لو كان وهميا، من خلال إيهام نفسه بالوقوع في حب فتاة بالكاد يعرفها وتفتقر إلى الجمال. فهو لا يريد أن ينتمي إلى عالم أبيه، ذلك الرجل المحطم الذي يعاني الإحباطات والخسارات، العاجز عن حماية ابنه أو دعمه، الى درجة تركه عامين بلا تعليم لمجرد أن سيارته أصبحت قديمة ومعطلة غالب الأوقات.

لم تكن تلك الصفعة مجرد فعل عابر، بل حملت دويا تجاوز المكان والزمان، لتصبح إعلان حرب بين جيل جديد يرفض شرعية القيم القديمة، وجيل قديم متشبث بسلطته

أما طيري، الابن البكر لزيني، شيخ قرية أم الهداهد، ورمز السلطة السياسية والاجتماعية والدينية، فقد عانى من نبذ والده له لأنه ولد قصير القامة. هذا النبذ المستمر جعله يكبر محطما نفسيا، لتصبح الصفعة التي يوجهها إلى أبيه أكثر من مجرد انتقام لحظي، بل هي صرخة رفض في وجه سنوات طويلة من الإقصاء والتهميش، ومحاولة يائسة لاستعادة كرامة مسلوبة ودونية فرضت عليه قسرا.

لهذا، لم تكن تلك الصفعة مجرد فعل عابر، بل حملت دويا تجاوز المكان والزمان، لتصبح إعلان حرب بين جيل جديد يرفض شرعية القيم القديمة، وجيل قديم متشبث بسلطته.

عدسة السخرية

فما هي حكاية "يوم الجرو" التي تتناول مواضيع معقدة تتعلق بالرجولة والنضج والعلاقات العائلية المتوترة وعلاقات حب محبطة، وذلك من خلال عدسة تجمع بين السخرية والفجاجة والأسطورة الشعبية؟

قبل أربعين سنة، كان عصام مراهقا يترقب لحظة بلوغه بقلق، يخشى تأخره مقارنة بأصدقائه، وخاصة ميمون الجمل، الذي سبقه إلى الرجولة بفعل هرموناته المتسارعة. وفي خضم هذا القلق، قاد البحث عن سر الرجولة عصام إلى بيت غامض في قرية أم الهداهد، يدعى "بيت الجعرة"، تسكنه عجوز تدعى رعناء، نسجت حولها الحكايات، فقيل إنها تزوجت جنيا وأنجبت منه ولدا يدعى عقاب. لكن ما وجده عصام لم يكن سوى واقع مختلف تماما. فرعناء ليست سوى عجوز كباقي العجائز، أما حفيدها فياض، المعروف بـ"الجرو"، فرغم قوته الجسدية وشراسته، كان في داخله صبيا رقيقا يبحث عن الحب. وأما عقاب، ابن رعناء، فلم يكن سوى ميكانيكي فاشل، هجرته زوجته وتركته وحيدا مع ابنه الرضيع، يتخبط بين فشله المهني ووحدته العاطفية.

وسط هذا العالم الغريب، يصدم القارئ بكم الشتائم المقذعة التي تتبادلها رعناء وابنها، "شتائم عابرة للأجيال"، مصحوبة بحركات الأصابع والإيحاءات الجنسية، ولا سيما حينما تسخر من علاقته بغزالة، المرأة التي تأتي طالبة منه "حك روحها" مقابل ما تدفعه لوالدته. يلجأ عقاب إلى العنف اللفظي كوسيلة للتنفيس عن إحباطه، فهو رجل مسحوق بين فشل في إصلاح السيارات، ورفض للزواج بعد هجر زوجته، وصراع دائم مع والدته التي خاب أملها فيه. في ظل هذا العجز، تصبح الفجاجة لغته، وكأن تعويض النقص الجنسي لا يتحقق إلا بإطلاق أقسى الألفاظ.

ورغم كل هذه البذاءة، لا تخلو لغتهما من الطرافة، فكأن الشتائم بينهما لا تستخدم تعبيرا عن الكراهية، بل هي شكل من أشكال التواصل، أسلوب وحيد فرضه عليهما واقعهما القاسي. فهل يمكن أن تكون الشتائم، رغم فظاظتها، لغة عاطفية خفية، رابطا مشوها لكنه حقيقي بين أم وابنها؟

كأن الشتائم بينهما لا تستخدم تعبيرا عن الكراهية، بل هي شكل من أشكال التواصل، أسلوب وحيد فرضه عليهما واقعهما القاسي

ما يبرز في هذه الحكاية هو التناقض بين المظهر القاسي والباطن الهش للشخصيات، فالجرو الذي يبدو شرسا، يبحث عن الحب عبر خرم في الجدار. وعقاب الذي يعيش إحباطاته من خلال العنف اللفظي، يسمح لغزالة باستغلاله جنسيا. ورعناء رغم فجاجة ألفاظها، تتعلق بشكل مرضي بريحاناتها وتطلق عليها أسماء صديقاتها الراحلات.

كان زيني الصياد، شيخ أم الهداهد، يحمل ضغينة قديمة تجاه رعناء منذ صباها، حين اختارت الزواج من رجل فقير بدلا منه. بعد وفاة زوجها، لم يكتف زيني باغتصاب أرضها، بل حولها إلى منبوذة بنشر الشائعات عنها، مدعيا أنها ساحرة تعيش مع الجن. لكن حملته التشويهية جاءت بنتيجة معاكسة، فبدلا من نبذها، أصبحت رعناء مقصدا للنساء الباحثات عن حلول لمشاكلهن، مستعينات بتعاويذها وتمائمها. وهكذا، وجدت رعناء في الشتائم والشعوذة وسيلة للبقاء، تؤكد بها الشائعات حول تعاملها مع الجن، لا لأنها تؤمن بذلك، بل لأنها أدركت أن ترسيخ صورتها المخيفة هو درعها الأخير في وجه الظلم والتهميش.

ازدواجية اللغة

في المجتمعات العربية التي يقهر فيها الضعفاء ويقصى المهمشون، تصبح الشتيمة أكثر من مجرد تفريغ غضب، إنها أداة مقاومة، "رصاصة لغوية" تعوض عن القوة الفعلية المفقودة. لم تكن رعناء تملك سلاحا سوى لسانها، فصنعت من فجاجة كلماتها درعا يحميها من قسوة العالم. الشتائم هنا ليست مجرد بذاءة، بل وسيلة بقاء، لغة عنيفة تخفي وراءها هشاشة داخلية، وتلبسها قناع القوة في مجتمع لا يرحم من يقع في دائرة ضعفه.

وفي هذا السياق يطرح الباحث صادق جلال العظم في كتابه "ما بعد ذهنية التحريم" تساؤلا حول ازدواجية المجتمع في التعامل مع اللغة، حيث يسمح بها شفهيا لكنها تحظر حين تصبح جزءا من الأدب المكتوب، متسائلا: "لماذا هذا التحرج  الشديد والتزمت المبالغ فيه إزاء تسجيل أو تدوين او كتابة أو طباعة عبارات وكلمات وامثال ونكات ونعوت ومسبات ينطق بها ملايين البشر ملايين المرات في كل ساعة من ساعات الليل والنهار وفي مجرى حياتهم  اليومية والعادية والعفوية والعائلية والمهنية الخ؟ هل هو الحياء حقا؟ لكن لماذا تستحي الناس والسلطات من الكتابة والمكتوب ولا يستحي أحد، على ما يظهر، من الفعل الأصلي الذي لا تعمل الكتابة إلا على تسجيله وحفظه وتوثيقه؟".

فهل كان الحارثي في روايته يشوه ماضيا مثاليا أم يقدمه كما كان فعلا؟ هل كان متجنيا عندما قدم شخصية تختلف تماما عما اعتدنا عليه من شخصيات عجائز يتصفن بالحكمة وحلو الحديث؟ وهل رفضت دور نشر محلية إصدار روايته لأنها لم ترق إلى معايير الأدب "المؤدب"؟

"كانت (رعناء) عجوزا كبقية عجائز البلدة، لها نفس الوجه ونفس الرائحة، ونفس الكرم، ونفس التدين، ونفس السباب والشتائم" (ص27)

ربما كان هذا الوصف وحده كافيا ليكشف عن واقع لا يريد البعض الاعتراف به، لكنه موجود، حقيقي، ويستحق أن يروى.

تصبح الشتيمة أكثر من مجرد تفريغ غضب، إنها أداة مقاومة، "رصاصة لغوية" تعوض عن القوة الفعلية المفقودة

يجد عصام في بيت الجعرة ملاذا من تنمر أصدقائه، ويصبح صديقا مقربا للجرو، ذلك الفتى القوي الشجاع الذي هزم أمام الحب. أحب فتاة متواضعة الجمال، وأوكل إلى عصام مهمة توصيل رسائل الحب بينهما، رسائل حب طفولية تحمل بعض كلمات الحب والأغاني وقلوبا تخترقها السهام. لكنه ينهار حين تهجره وضحا وترفض انتظاره عشر سنوات ريثما ينهي دراسته ليصبح مهندسا ويأتيها خاطبا، فيجن جنونه ويعتدي على عريسها في ليلية زفافهما.

"لن تصدقوا أن ذاك الشاب الضخم القوي الذكي ذا الستة عشر ربيعا يصرعه الحب هكذا، ويبكي بلا سبب سوى أنه رأى حبيبته من خرم جدار" (ص 129)

لعل الحارثي أراد القول إن الحياة ليست بتلك الرومانسية التي يصورها البعض، وربما أراد أن يظهر أن الجرو، رغم محاولاته الفارغة للانسلاخ من بيئته والانغماس في عالم مثالي تحيطه كلمات الحب والأغاني العذبة ، إلا أن الواقع القاسي يعيده دائما إلى أرض الواقع. عالم لا مكان فيه للرومانسية الزائفة، حيث يسيطر العنف اللفظي والفعلي كأقوى أدوات التعبير عن حقيقة الوجود. وهكذا،  يظل الجرو عالقا بين حلمه الوردي وواقع لا يرحم.

يرحل عصام عن "أم الهداهد" وينتقل إلى جدة، ليصبح لاحقا مقدم برنامج إذاعي بعنوان "أيامنا الحلوة"، يروي رسائل المستمعين وذكرياتهم. ذات يوم، تصله رسالة بعنوان يوم الجرو، يتهمه فيها صديقه القديم"الجرو" بالخيانة، وبتزوير رسائل حبيبته. عندها، يقرر عصام أن يروي القصة كاملة عبر الإذاعة، محاولا أن يبرئ نفسه بعد كل هذه السنوات.

لا يمكن القول إن الرواية توظف الشتائم والإيحاءات الجنسية بغرض الإثارة، بل لتكشف عن واقع قاس يتداخل فيه الفقر والقهر الاجتماعي والحرمان العاطفي. إنها ليست مجرد بذاءة، بل صدى لمعاناة الشخصيات، وطريقة للتعامل مع الحياة بأسلوب هجومي يخفي هشاشة داخلية عميقة.

نفوذ اجتماعي

تعكس تلك الشتائم المتوارثة عبر الأجيال، بيئة ثقافية تتعامل مع اللغة بوصفها أداة للنفوذ الاجتماعي. في مجتمع "أم الهداهد"، الشتائم ليست مجرد كلمات، بل هي جزء من "الحوارية" اليومية التي تحدد العلاقات بين الأفراد، وتصبح وسيلة للسخرية والانتقام وأسلوبا دفاعيا الى درجة أن الفرد يبحث لنفسه عن عيرة يكنى بها قبل أن يفعل ذلك أهل القرية فتلتصق به "شتيمتهم" مدى الحياة. الشتائم هنا تحمل طابعا احتفاليا في بعض الأحيان، فهي لا تهدف فقط إلى الإهانة، بل إلى خلق نوع من "الهوية الجماعية" التي تؤسس لقيم الرجولة والقوة.

تزخر "يوم الجرو" بلغة جريئة مشحونة بالشتائم الساخرة، لكنها ليست زوائد لفظية يمكن حذفها دون أن يتأثر النص، بل جزء من النسيج النفسي والاجتماعي الذي يحدد علاقات الأفراد

فالشتائم إذن جزء من البيئة الثقافية والشفوية لا يمكن نكرانها او التغاضي عنها بهدف تجميل الماضي، حتى وإن رفض بعضهم في العالم العربي وجود ألفاظ خادشة للحياء فجعلوا المحرمات في الأدب لا تقف عند الجنس والدين والسياسة بل تزيد عليها محرما رابعا هو البذاءة كما يصفها الباحث بوعلي ياسين في كتابه: "بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة" قائلا: "موضوع البذاءة ذو شجون في الوطن العربي. لطالما تحدث الكتاب والمفكرون عن المحرمات التي تقيد المثقفين في أعمالهم، تحرمهم الحرية اللازمة للإبداع وتبعدهم عن الواقع من خلال إبعادهم عن جوانب أساسية من هذا الواقع، وهي: السياسة والجنس والدين. وقد وجدت أن أدب النكتة، باعتباره من أكثر الأجناس الأدبية شعبية والتصاقا بالواقع، ينوء تحت عبء محرم رابع، لا يقل ثقلا عن المحرمات الثلاثة الأخرى. إنه محرم البذاءة".

الأدب العربي الحديث مؤدب جدا، أما الأدب القديم فما هكذا كان، وكذلك الأدب الشعبي، خاصة غير المسجل منه، أي الأصلي الذي لم يجر تهذيبه.

صحيح، تزخر "يوم الجرو" بلغة جريئة مشحونة بالشتائم الساخرة، لكنها ليست زوائد لفظية يمكن حذفها دون أن يتأثر النص، بل جزء من النسيج النفسي والاجتماعي الذي يحدد علاقات الأفراد، حيث تتحول إلى وسيلة للتعبير عن القوة أو السخرية أو حتى الحب المتناقض كما رأينا بين رعناء وابنها عقاب.

font change