هل الماضي حقا بتلك الوردية والرومانسية التي يصورها أدب النوستالجيا؟ هل كان يحمل ذلك السحر والكمال الذي نشاهده في الأعمال الدرامية أو التاريخية التي تمجد شخصيات عظيمة، وتتحسر على غيابها، وتتغنى برومانسية عذرية تسكن أزقة الأحياء الشعبية؟
في رواية "يوم الجرو" الصادرة أخيرا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، يكشف الكاتب السعودي محمد الحارثي عن وجه الماضي القاتم، موضحا كيف أنه يمكن الفقر والظلم والجهل تشويه أخلاق الإنسان ولغته وحتى حياته بأكملها. يطرح الحارثي سؤالا جريئا حول أثر استبداد الآباء وغيابهم وسلبيتهم في تدمير العلاقة الأقدس في المجتمع: علاقة الابن بالأب. إذ بينما تكرس روايات الحنين الى الماضي مفهوم الطاعة العمياء للآباء وتقديرهم واحترامهم، نجد في "يوم الجرو" نموذجا معاكسا تماما، فهناك شخصيتان تتجرآن على الأب، في تمرد صريح على القيم التقليدية.
صراع أجيال
فياض، أحد أبطال الرواية، يرفض أن يكون مجرد امتداد لوالده المحطم والفاشل، معلنا انتماءه إلى جدته، ودفاعه عنها في وجه أبيه. وبالمثل، يرفض طيري أن يبقى الابن المنبوذ، مصمما على نزع الشرعية عن والده الظالم. وهكذا يصبح التطاول على الأب في الرواية رمزا لتمرد الأبناء على جيل قديم، وعلى ماضي كريه، ومنظومة اجتماعية فاسدة، ورغبة في خلق هوية جديدة لا تخضع لسلطة الماضي.
يتجسد هذا الصراع في شخصية فياض، الشاب الضخم الذكي، الذي ينشأ في بيئة غارقة في الفقر والعوز والقذارة، بين بذاءة جدته وسلبية والده. يحاول فياض أن يخلق عالما جديدا لنفسه، حتى لو كان وهميا، من خلال إيهام نفسه بالوقوع في حب فتاة بالكاد يعرفها وتفتقر إلى الجمال. فهو لا يريد أن ينتمي إلى عالم أبيه، ذلك الرجل المحطم الذي يعاني الإحباطات والخسارات، العاجز عن حماية ابنه أو دعمه، الى درجة تركه عامين بلا تعليم لمجرد أن سيارته أصبحت قديمة ومعطلة غالب الأوقات.