رسائل تنشر للمرة الأولى... حب مستحيل لأراغونhttps://www.majalla.com/node/322986/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%AA%D9%86%D8%B4%D8%B1-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%A8-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D9%8A%D9%84-%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%A7%D8%BA%D9%88%D9%86
معظمنا يعرف قصة الحب التي جمعت لوي أراغون وإلسا تريولي، وباتت اليوم أسطورة. ومَن يجهل هذه القصة، ربما سمع بديوان أراغون "عينا إلسا" (1942) أو بديوانه الآخر "مجنون إلسا" (1963). لكن هذا الشاعر الذي كتب يوما أن "مستقبل الرجل هو المرأة"، كان عاجزا في الواقع عن الاكتفاء بحب امرأة واحدة، فأحب نساء كثيرات، قبل إلسا، وخلال علاقته بها. ومن بين هؤلاء النساء، شابة تُدعى دنيز وقع في غرامها في سن السابعة والعشرين وكتب لها 21 رسالة نارية صدرت حديثا في كتاب عن دار "موريس نادو".
أهمية هذه الرسائل لا تكمن فقط في كشفها طبيعة المشاعر التي أشعلتها هذه الشابة داخل أراغون، ظروف اشتعالها، مآلها، وتداعياتها داخل إنتاجه الروائي، بل في إنارتها أيضا تلك المرحلة المحورية من حياته التي شارك خلالها في تأسيس الحركة السوريالية مع صديقيه أندره بروتون وفيليب سوبو.
تكمن أيضا قيمة هذه الرسائل في تبديدها بعضا من الغموض الذي لا يزال يلفّ شخصية وحياة تلك المرأة الساحرة التي مارست فتنتها، من غير قصد، على أراغون، بل على كل من كان محظوظا ـــ أو ملعونا ـــ بلقائها، بدءا ببروتون وبول إيلوار ورينه شار، الذين كتبوا قصائد لها، مرورا بمكسيم ألكسندر الذي نافس أراغون على حبها، وبيار نافيّ الذي حظي بيدها، وانتهاء بموريس نادو الذي ندين له بكشف النقاب عن هذه الرسائل التي أجبرت بيار ديكس، حين اطلع عليها، على إعادة كتابة نصف صفحات السيرة المرجعية التي كان قد وضعها لأراغون، بالتعاون معه.
إلهام
في مطلع المقدمة التي خطّها لهذه الرسائل، يقول ديكس: "كنا نعرف أن بيرينيس، بطلة رواية "أوريليان" (1943)، هي في الواقع امرأة حقيقية عرفها أراغون خلال مرحلته السوريالية. تحضر هذه المرأة أيضا في روايته الأخرى "قروي باريس" (1926)، وإن تعمّد الشاعر فيها إحداث التباس في هويتها بجعلنا نظن أنها إير دو لانوكس (...)، وفي سردية "عانة إيرين" (1928)" التي كان من المفترض أن تأخذ مكانها داخل روايته "دفاع عن اللانهائي" التي أحرق معظم صفحاتها في مدريد عام 1927.
تكمن قيمة هذه الرسائل في تبديدها بعضا من الغموض الذي لا يزال يلفّ شخصية وحياة تلك المرأة الساحرة التي مارست فتنتها على أراغون
عام 1966، رفع أراغون جزئيا الحجاب عن هوية هذه المرأة بإقراره بأنه شيّد شخصية "بيرينيس" انطلاقا من "امرأة شابة وحقيقية التقيتها وأحببتها، أو ظننت أنني أحببتها، إلى حدود اليأس"، موضحا أنه "لم يحصل شيء بيني وبينها". ويجب انتظار عام 1978 كي يكشف كليا هويتها لدى اقتباس مسلسل تلفزيوني من رواية "أوريليان"، فنعرف أن الأمر يتعلق بدنيز كان، ابنة عم سيمون كان، زوجة بروتون، المولودة عام 1896 في مقاطعة ألزاس ـــ لورين، مما يفسّر إتقانها اللغتين الفرنسية والألمانية.
دنيز، "اسم مثل الريح حين تحطّ عند أقدامكم"، كتب أراغون عنها. امرأة لعبت في صباها دورا داخل الحركة السوريالية تتجلى كل أهميته في الرسائل الـ 21 التي كتبها عاشقها الشاب لها، وأيضا من خلال الترجمات التي أنجزتها لمجلة "أدب" منذ عام 1922، لمجلة جان بولان "تبادل" عام 1924، ثم لمجلة "الثورة السوريالية" عام 1925، قبل أن تنأى عن هذه الحركة عام 1927 لدعم تروتسكي ضد التجاوزات الستالينية للأممية الشيوعية، فترتبط بصداقة وثيقة به، وتضع عام 1928 الترجمة الفرنسية الأولى لكتابه "نحو الرأسمالية أو نحو الاشتراكية؟"، ثم تُراجع معه الترجمة الألمانية للعديد من كتبه. ندين لها أيضا بنقلها الباهر إلى الفرنسية أعمال هولدرلين وتسيلان وشونبرغ وبعض نصوص ماركس وإنجلز ونوساك وكلاوسفيتش وفيتغنشتياين.
في باريس
لكن فلنعد إلى عام 1922 الذي حطّت دنيز خلاله في باريس لإشباع فضولها حول جلسات التنويم المغناطيسي التي كان بروتون يجريها في منزله، وكانت على علم بـها من خلال زوجته، ابنة عمها، سيمون. تجارب دفعت ثمارها الشعرية المدهشة رائد السوريالية إلى الكتابة في "دخول الوسطاء": "بعد عشرة أيام، لا يزال الأكثر إرهاقا والأكثر ثقة بيننا في حالة ارتباك، يرتجفون امتنانا وخوفا أمام هذا العجب". أراغون الذي كان في برلين آنذاك، فوّت بدايات هذه المغامرة. لكن فور عودته إلى باريس، التقى بدنيز ووقع في حبها: "لا أرفع عينيّ عنكِ حيث أنا، لأن خلف القصر الذي تحوّل إلى ثكنة، ثمة مكانا يسكنه الحدادون ويتدفق فيه ماء حي، ماء يستحضر بنقائه نظراتك" (الرسالة الثالثة).
لعبت دنيز في صباها دورا داخل الحركة السوريالية تتجلى كل أهميته في الرسائل الـ 21 التي كتبها عاشقها الشاب لها
وبسرعة، يتحوّل هذا الحب إلى هوس يظهر بوضوح في الرسالة الرابعة: "(...) لا أسمع في هذا المقهى سوى صدى ملحّ، صدى وجودك وحدك. تتجولين بصمت، تتكئين على طاولة البلياردو، تقفين بالقرب من النبتة الخضراء. أنتِ في ضباب الليلة، حيث الكون أزرق. تكلّمي، لو سمحتِ". ولأن دنيز لا تتجاوب مع هذا الحب الجارف، يرحل أراغون في ربيع 1923 إلى جيفرني، حيث يعيش مغامرة عاطفية قصيرة، لكن من دون أن يتوقف عن مراسلتها. وبما أن رسائل دنيز إليه غير متوافرة، نجهل ما حدث بينهما لدى عودته مجددا إلى باريس. هل التقاها؟ هل حاول ذلك ولم يفلح؟
الأكيد هو أن الشاعر لم يفقد أمله في كسب حبها، وهي استمرت في الرد على رسائله: "في رسالتكِ، ثمة كلمة تفاجئني أكثر من أي شيء آخر: أنا أبدو لك "شديد البهجة"؟ ثمة في المراسلات مفاجآت رهيبة! لا شك أن الكلمات تتغيّر حين نضع الرسالة في الظرف. تشتكين من كوني أفتقر إلى الصراحة معك، ومن أنني أريكِ وجوها مختلفة كثيرة: لكن ألم تتأملي في الوجه الحقيقي مرة؟ إنه يمنح معنى لجميع الوجوه الأخرى. ثمة أيام أنتظر وآمل فيها بانقلابات غير محتملة، مستحيلة. (...) ثمة أشياء لا أريد قولها ثانية لك. (...) ثمة شيء أفتقده كما حين نجوع. (...) ثمة، كما تعرفين، أنواع عدة من الوحدة".
لكن في صيف 1925، ينقطع خيط مراسلتهما، مما يفسّر تذمّر أراغون من "الثقل الذي لا يطاق لبضعة أشهر أخرى" من الانتظار، في الرسالة الأخيرة التي يوجّهها اليها، وكتابته جزءا من سردية "عانة إيرين" يستحضر فيه هذه الحبيبة المستحيلة، ومحاولته نسيانها مع "الصديقة السمراء المشرقة"، أي إير دو لانوكس التي تستسلم في النهاية له، بعد تأرجحها بينه وبين صديقه دريو لا روشيل. ومع أنه يسعى الى رؤية دنيز من جديد، إلا أن أكثر ما يهمّه آنذاك هو عدم فقدانها كصديقة شاهدة على تلك اللحظة المصيرية من حياته: "في هذه اللحظة من حياتي التي يتقرر فيها كل شيء، تتقاطر أفكاري نحوك، ونحوك فقط. (...) ربما تكوّنت داخلي مشاعر قوية جدا لم تمسسكِ. نعم تكوّنت مثل هذه المشاعر. أعرف ذلك، أشعر بذلك، ويجب أن أقرّ لك به. لكن يبقى مني إليكِ طريق فريد لا يمكن لأحد أن يعبره الآن".
لا أسمع في هذا المقهى سوى صدى ملحّ، صدى وجودك وحدك. تتجولين بصمت... أنتِ في ضباب الليلة، حيث الكون أزرق. تكلّمي، لو سمحتِ
أراغون
اضطراب
ولفهم حالة أرغون العاطفية المعقدة في تلك الفترة، علينا أن نعرف أنه، قبل أن يتعرّف إلى دنيز، كان قد وقع في غرام إير دو لا نوكس، لكنه هرب منها إلى برلين حين اكتشف علاقتها بصديقه دريو. وهذا ما كشفه في "قروي باريس" عام 1926، بكتابته على شكل رسالة مستوحاة حتما من مراسلته لدنيز: "لكن اسمعيني يا صديقتي الغالية، كنتِ خط دفاعي الوحيد وإذ بك تبتعدين. لذلك شعرتُ بالحزن على الشابة الأخرى، من دون أن أعتقد بأنها ستعلم بذلك. كنت أعيش للاقتراب منها. ثم قلت لها إن مشاعر أخرى كانت تبعدني عنها (صداقته مع دريو). وإذ بها تفعل ذلك الشيء المدهش بدعوتي إليها".
هذه الدعوة ستؤدّي إلى تدمير علاقة أراغون بصديقه دريو. ولأن ذلك يحصل في خضم التقارب بين السورياليين والشيوعيين ضد "حرب الريف" في المغرب، ينقضّ دريو على هذا الالتزام السياسي، الذي بدا له غير طبيعي، في نص بعنوان "خطأ السورياليين الحقيقي" يتوجّه فيه مباشرة إلى أراغون، ويتلقاه هذا الأخير كاستفزاز يمسّه في الصميم لأنه يشكّك في صدق هذا التقارب السياسي، فيردّ برسالة مفتوحة يصدم عنفها كل معارفه، بما في ذلك بروتون الذي يغسل علنا يديه من العبارات المستخدمة فيها.
بالتالي، كتب أراغون رسالته الأخيرة الى دنيز تحت وقع "الاضطراب العميق" الذي سببه داخله انفصاله عن دريو ورد فعل بروتون على رسالته. من هنا ذلك البعد الأخلاقي في علاقته بها، وارتقائه بهذه الحبيبة المستحيلة إلى دور "الشاهد الضروري على نفسي"، القادر وحده على "وزن كل ما أتخلى عنه، ما أفعله بنفسي، وما أقتله من نفسي".
لكن دنيز، "تلك الشاهدة التي اخترتها لنفسي يوما"، لم تكن فقط شاهدة على كل ما يعنيه انفصال أراغون عن دريو. فبعد عشرين عاما، وبصفتها "بيرينيس" في رواية "أوريليان"، ستكون أيضا الشاهدة على قصة بطلها، على خاتمتها السياسية التي كتبها الشاعر بعد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي. وفي "بلانش أو النسيان" (1961)، بوصفها مترجمة هولدرلين غير المسمّاة، ستكون الشاهدة على ما شعر به صنو أراغون في هذه الرواية، جوفروا غيفييه، لدى صدور تقرير خروتشوف عن جرائم ستالين.
تخط رسائل أراغون إلى دنيز، في تسلسلها، بورتريهين تحت أنظارنا: الأول لشابة يتعذر عدم الافتتان بها، نظرا إلى سطوة جمالها، والآخر لشاب عاشق لكن تعيس بسبب عيشه حبا غير متبادل
وهذا ما يمنح كل معناه لما كتبه أراغون عام 1966، في مقدمته لـ"أوريليان"، عن "بيرينيس الحقيقية"، أي دنيز: "كان لديها شغف بالمطلق. نعم. ولم أكن، لم نكن جميعا، نحن أصناء أوريليان، المطلق بالنسبة إليها". وكأن ذلك لم يكن كافيا، ختم هذه المقدمة بالإشارة إلى تحوّل شغف بيرينيس بالمطلق، مع مرور الزمن، إلى وعي أخلاقي وسياسي يجعلها تقول: "لم يعد يوجد أي شيء مشترك بيني وبينك، يا عزيزي أوريليان".
باختصار، تخط رسائل أراغون إلى دنيز، في تسلسلها، بورتريهين تحت أنظارنا: الأول لشابة يتعذر عدم الافتتان بها، نظرا إلى سطوة جمالها، ذكائها الحاد، ثقافتها الأدبية والفلسفية الواسعة، وتطلّبها المطلق من نفسها ومن الآخرين. والآخر لشاب عاشق لكن تعيس بسبب عيشه حبا غير متبادل. شاب يبدو وحيدا وهشا، تائها ومتألما من عجزه عن التعبير بحرية عن عواطفه لحبيبته خوفا من إجفالها وخسارتها، ومع ذلك، يكتب كلمات رائعة لها، كالآتية: "لا تقرأي هذه الرسالة، اقرأي الأخرى، تلك التي مزّقتها، واعلمي أنني، في كل مرة أبقى صامتا، أمزّق رسالة".