مع رفع سقف الدين.. السياسة الخارجية لأميركا كل شيء بثمن

مع رفع سقف الدين.. السياسة الخارجية لأميركا كل شيء بثمن

[caption id="attachment_2651" align="aligncenter" width="620" caption="جندي أميركي يؤدي تحية العلم بعد عودته من مهمة قتالية في أفغانستان"]جندي أميركي يؤدي تحية العلم بعد عودته من مهمة قتالية في أفغانستان[/caption]

بعث الرئيس باراك أوباما اثنين من كبار مساعديه إلى مبنى الكونغرس لإبلاغ كبار أعضائه أن واشنطن على وشك شن غارة جوية على نطاق صغير والقيام بعملية عسكرية بحرية لوقف قوات العقيد الليبي معمر القذافي من اجتياح مدينة بنغازي وربما لتنفيذ عمليات قتل عقابية. وكان أول رد على مساعدي أوباما «كم سيكلفنا ذلك؟».
بعد أن علقت أميركا في اثنين من العمليات الكبرى في أفغانستان والعراق، أعلنت الحرب على القذافي (وإن كان دون حماس)، وفي غضون أسبوع، سلمت أميركا القيادة لحلفائها في حلف شمال الأطلسي. وتكلف تلك العملية أميركا نحو 700 مليون دولار، وهو ما يعد مبلغا ضئيلا مقارنة بتكلفة العمليات اليومية في العراق وأفغانستان التي تصل حاليا إلى ما قيمته 450 مليون دولار يوميا. ومع ذلك، فتلك هي المرة الأولى التي تفكر فيها أميركا في تكلفة نشاطها العسكري، وهو ما يعد سلوكا جديدا على واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل.

[caption id="attachment_2652" align="alignleft" width="302" caption="صفقة رفع سقف الدين الأميركي"]صفقة رفع سقف الدين الأميركي[/caption]

في واشنطن التي تمر بأزمة مالية حيث يصل دينها الوطني إلى 14.3 تريليون دولار ومن المتوقع أن يتزايد بعد إعلان الحكومة رفع سقف الدين، أصبح لكل دولار قيمة. فعلى الرغم من أن دافعي الضرائب من الأميركيين يشعرون بالتعاطف مع القتلى في سوريا وليبيا ويتمنون لهم السلامة، فإنهم يدركون أنه في الوقت الذي تبذل فيه الحكومة أقصى جهودها لكي تحصل على تريليوني دولار التي تحتاج إليها لصيانة وتطوير البنية التحتية للمواصلات في البلاد، تصبح الدولارات التي تنفق داخليا فقط هي الأموال التي تنفق في مكانها الصحيح، ويتراجع الإنفاق على الأمور المتعلقة بالسياسة الخارجية والعمليات العسكرية إلى المرتبة الثانية.
وقد ناقش البروفسور مايكل ماندلباوم، أستاذ السياسات الخارجية الأميركية بمعهد الدراسات العليا بجامعة جونز هوبكنز، آثار السياسات المالية الأميركية على سياستها الخارجية. فيقول ماندلباوم في كتابه «تقشف القوة العظمى»: إن أميركا ستجد نفسها غير قادرة على دفع فاتورتها العالمية، من تكلفة حماية الممرات البحرية، والتجارة العالمية ومصادر الطاقة. وبما أن أقرب حلفاء أميركا وخاصة المستفيدين من دور واشنطن كحكومة العالم، لم يقوموا في الماضي بالمشاركة في سداد الفاتورة، فسوف تتقلص القوة الأميركية.
وفقا لماندلباوم، يرجع مصير أميركا المحتوم للتوسع في برامج واشنطن التي تقوم بتمويل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية خاصة في ظل بلوغ معظم جيل الطفرة السكانية سن التقاعد في العقد الحالي. ولكن الإنفاق على تلك البرامج، الذي يمثل جزءا من النفقات الإجبارية بلغة واشنطن، أصبح الآن على طاولة المفاوضات وفقا للرئيس أوباما، الذي كان يشارك في مناقشات مع أغلبية الجمهوريين في الكونغرس لإيجاد سبل لإصلاح الجوانب المالية للقوة العظمى.
وبعد جدال واسع اتفق أوباما والجمهوريين على توفير تريليوني دولار في العشر سنوات المقبلة عن طريق خفض الإنفاق وإيجاد موارد جديدة للعائدات الحكومية، وذلك من خلال إنهاء التخفيضات الضريبية التي كان يحصل عليها أصحاب الطائرات الخاصة ومديرو صناديق التحوط بنهاية العام الحالي. وفي إطار ذلك الاتفاق النادر بين الحزبين، قال أوباما إن على واشنطن إعداد خطة لتوفير 4 تريليونات دولار بدلا من تريليونين.
ووصف وزير الخزانة الأميركي، تيموثي غايتنر، اتفاق رفع سقف الدين بأنه كان عمليات بشعة من حيث المفاوضات، ولكنها أتت في النهاية بنتائج طيبة. وقال إن خفض الإنفاق سيشمل خفض برامج الأمن ونفقات أخرى.
وقال إن هنالك لجنة من الكونغرس ستقوم بالصياغة النهائية لمقترح حزمة الإصلاح طويلة الأجل، التي سيتم بموجبها خفض 1.5 تريليون دولار من العجز خلال 10 سنوات.
وعلى الرغم من أن أوباما وقع على القانون الجديد، فقد انتقده. وتعهد بمواصلة الجهود لفرض ضرائب أعلى على الأميركيين الأثرياء والشركات الكبرى. وكان هذا من مطالب الحزب الديمقراطي، لكنه استسلم في النهاية للجمهوريين.
وقال أوباما بعد التوقيع: «لا يمكننا تحقيق التوازن في الميزانية على أكتاف أناس يتحملون وطأة الركود»، وأضاف: «الجميع سوف يضطرون إلى المشاركة في التضحية. هذه رسالة فقط عادلة».
وقال مراقبون في واشنطن إن المعركة المقبلة سوف تكون حول تخفيض ميزانية الضمان الاجتماعي ووزارة الدفاع. وبادر الجمهوريون وأعلنوا أنهم لن يسمحوا بتخفيضات عسكرية.
حسب الاتفاق، سيتم تخفيض أكثر من ترليوني دولار من دين الحكومة الذي يبلغ خمسة عشر تريليون دولار. وسيتم التخفيض خلال عشر سنوات، بمعدل أكثر من مائتي بليون دولار كل سنة.
ومن جهة أخرى، تتضمن الخطط المالية الجديدة لأميركا توفير الأموال المنفقة على الحروب في أفغانستان والعراق، حيث من المقرر استكمال انسحاب القوات الأميركية من العراق بنهاية هذا العام. أما عن أفغانستان، فيمكن أن تبقى القوات الأميركية لفترة أطول، ولكن من المؤكد أنها ستنسحب منها قبل حلول عام 2013.
ووفقا لمكتب الميزانية بالكونغرس: «منذ سبتمبر (أيلول) 2011، خصص المشرعون ما يقرب من 1.3 تريليون دولار من ميزانية السلطة للعمليات في أفغانستان والعراق والأنشطة ذات الصلة». وذلك حيث قال المكتب في تقريره في يناير (كانون الثاني) لعام 2011 إن الاعتمادات المخصصة لهذه الأغراض كانت تقدر بنحو 100 مليار دولار سنويا في الفترة من عام 2003 حتى عام 2006، وأنها ارتفعت لتصل إلى 171 مليار دولار في عام 2007 و187 مليار دولار في عام 2008، ثم انخفضت لتصبح نحو 160 مليار دولار في عامي 2009 و2010.
ومع ذلك هناك جدل حول الأرقام الرسمية لتكلفة الحروب في أفغانستان والعراق. فقد قدرت دراسة لمعهد واتسون في جامعة براون، التكلفة بنحو 4 تريليونات دولار. وأشارت إلى أنه إذا ما استمرت العمليات العسكرية بنفس المعدل في العقد المقبل، سيكون على واشنطن أن تنفق نحو تريليوني دولار آخرين في هذين الحربين.
[caption id="attachment_2653" align="alignleft" width="300" caption="40 في المائة خفض في الانفاق لتحقيق التوازن في الموازنة الأميريكة"]40 في المائة خفض في الانفاق لتحقيق التوازن في الموازنة الأميريكة[/caption]

ولكن مكتب الميزانية بالكونغرس طرح فرضية أخرى ألا وهي أنه سيتم «خفض عدد أفراد الجيش المنتشرين لأغراض تتعلق بالحرب على مدى خمس سنوات ليصبح العدد نحو 180 ألفا في عام 2011، و130 ألفا بحلول عام 2012، و100 ألف في عام 2013، و65 ألفا في عام 2014، و4500 في عام 2015 وهكذا». ووفقا لهذا السيناريو، يستطيع مكتب الميزانية بالكونغرس خفض التكلفة العسكرية خلال الفترة من 2012 - 2021 لأقل من 1.1 تريليون دولار». وأضاف المكتب أن «تكلفة خدمة الدين سوف تجعل إجمالي المدخرات يقترب من نقطة الأساس حيث يصل إلى 1.4 تريليون دولار خلال العقد المقبل».
مما لا شك فيه أن الرئيس أوباما والزعماء الجمهوريين يدركون تماما سيناريو مكتب الميزانية بالكونغرس وبرامج الادخار العسكري الأخرى، تلك التي تحدد لأميركا حاليا خط سير عملياتها العسكرية حول العالم. فيبدو أن المثل القائل «ضع بنسا فوق بنس، وسوف تتكفل الأيام بالثروة» سوف يصبح نهج واشنطن الجديد. فحتى تعود أميركا لفائض الميزانية وعصر الازدهار، ستصبح الأمم المتحدة إمبراطورية تتصرف في حدود إمكانيتها.
 
حسين عبد الحسين
font change