«لي.. مكان».. عدسة فؤاد خوري تلتقط المهمل والمنسي من زوايا بيروت

«لي.. مكان».. عدسة فؤاد خوري تلتقط المهمل والمنسي من زوايا بيروت

[caption id="attachment_55228601" align="aligncenter" width="620" caption="بيروت المسكونة بأشباح الماضي "]بيروت المسكونة بأشباح الماضي [/caption]

على الرغم من صغر مساحة بيروت نسبيا على أن تكون مركزا للفن، ومحليتها في بعض الأحيان، فقد اتسعت أخيرا لمساحات عرض كبيرة متعددة، وكانت أهم الإضافات للمشهد الفني الذي يعاني من ندرة التمويل هي المواقع التي لا تستهدف الربح مثل مركز بيروت للفن ومركز بيروت للمعارض، وقد ميز المكان الأخير ذاته عن الأول باسم أكثر خيالا.

عندما افتتح مركز بيروت للفن في عام 2009، كان من المتوقع أن يملأ جزءا من الفراغ الذي أصاب الفنون المرئية في البلاد منذ مدة بعيدة، بتكوينه ساحة متعددة المنصات يمكن أن تقدم فيها الثقافة الفنية والمرئية المعاصرة مع الامتداد نحو المستقبل، وقد أقام المركز حتى الآن في ظل مديرتيه ومؤسستيه، ساندرا داغر (مديرة المعارض السابقة)، ولمياء جورجي (فنانة)، سلسلة من المعارض الرائعة.

على الرغم من عرض أعمال لفنانين عالميين مثل منى حتوم وكارا ووكر في معارض منفردة ومعارض جماعية منذ افتتاح المركز، إلا أن «لي.. مكان»، المعرض الاستعادي الموسع للمصور الفوتوغرافي اللبناني فؤاد خوري كان أكثر المعارض تميزا.

[caption id="attachment_55228602" align="alignleft" width="178" caption="فؤاد خوري"]فؤاد خوري[/caption]

فعلى مدار أربعة عقود، قاد العمل الفني خوري إلى أقصى أنحاء العالم، كمصور لوكالات تصوير صحافية مثل سيغما ورافو، وكمصور مستقل يصوب عدسته نحو الاتجاهات النفسية الخفية، المهملة على الرغم من حضورها، في مراكز المدينة، وعلى الرغم من أنه تلقى تدريبه كفنان معماري، اشتغل الفنان الذي ولد في باريس بفن التصوير الفوتوغرافي قبل تخرجه من جمعية العمارة في لندن عام 1979.

بعد أن التقط صورا لبيروت في الفترة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، أثبت تميزه بنشر «بيروت ذهاب وعودة» (1984)، وهي مجموعة من عشرات الصور التي تسجل الأحداث اليومية للعاصمة التي دمرتها الحرب في ذلك الوقت، تعكس اللقطات الأولى للمدينة لحظات سريالية لصورة بيروت العاصمة مع إبرازها للخلفية المهتزة التي تدعم تلك الأوهام، لذلك اشتهرت صور خوري بشاعريته المرئية.

ركز خوري على مشاهد اجتماعية كثيرة، ولكن كان دائما ما يعود إلى موضوع بيروت، المدينة التي ضاعفت تناقضاتها الناتجة عن الصراع من حدة بصره، لتقدم له تدريبا مهما على كيفية تأثير المساحة، التي تظهر تحديدا في المناطق الحضرية، على طبيعة المجتمعات الموجودة وسط نيران المأزق السياسي. إنها تلك النظرة الوجودية على الصميم الاجتماعي للمدينة التي يستعيدها «لي.. مكان».

انقسم المعرض إلى أقسام عدة، يدور كل واحد منها حول سلسلة معينة، ويتميز بعرض كثير من الأعمال لأول مرة، بالإضافة إلى توضيح النطاق الهائل لأعمال المصور غزير الإنتاج، وجدير بالاهتمام تنوع الصور المعروضة ومدى الكشف عن عمل ومنهج خوري، ففي بعض الأحيان، تبدو صوره تعبيرا عن سيرة ذاتية، كما في مجموعة عام 2002 «في الطريق»، التي تضم مشاهد من رحلة في الطريق من اسطنبول إلى الريف التركي حيث التقطت على مدار عدة سنوات.

هذا النوع من السرد، الذي يقف فيه المشاهد وكأنه بين يوميات مرئية، يحمل التأثير ذاته مثل مجموعات الحرب التي صورها خوري، حيث صور فيها فراغ الطرق المفتوحة والشوارع شبه المهجورة بمنظور عابر.

رتبت مجموعة منتقاة من الصور في عرض شرائح تحت عنوان «أتلانتيس»، تدور جميعها حول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقت هروبه من بيروت بحرا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، بعد دعوته لركوب باخرة مبعوث يوناني من قبل المكتب الصحافي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التقط خوري صورا عن قرب للزعيم الفلسطيني وهو مجتمع مع كبار الشخصيات وموظفيه ومقربيه.

ويبدو عرفات، الذي نادرا ما يظهر دون حاشية من حوله، مسترخيا في رحلته البحرية الغريبة وتظهر من ورائه خلفيات البحر التي التقطها له خوري، وتظهر السعة الزرقاء للبحر المتوسط كتذكرة بارزة للدولة الصغيرة التي تركها، والتي أصبحت ميدانا عنيفا لسماسرة قوة دوليين كان من الواضح أن عرفات ليس على صلة كبيرة بهم، حيث ينقل التقارب الذي تم به التقاط هذه الصور أهمية تاريخية، ولكن أيضا تثير قلقا متعمدا.

وفي تناقض مع «حضارة، وهم = حقيقة» (2004 - 2006) - الصور التي تطرح تساؤلات حول تطور دبي كمركز إقليمي في الوقت الذي بدأت فيه تنافس بشدة على النفوذ الدولي – تأتي الأعمال التي تبرز أفضل حالات خوري، حيث ترتبط بين العديد من الموضوعات والمناطق التي يشملها «لي.. مكان».

[caption id="attachment_55228603" align="alignright" width="300" caption="بيروت.. المظلم والمضيء"]بيروت.. المظلم والمضيء[/caption]

حملت لقطات من مجموعة «آثار الحرب» (1994 - 1997)، وأخرى من بيروت سيتي سنتر (1991)، التي صورت بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب الأهلية، لمحات مذهلة من السخرية والتحرر من الهم والجمال (إن كان ممكنا) التي يشتهر بها، وتنقل لقطات خوري أيضا عنصر التلقائية، حيث يترك المشهد ليتخيل اللحظة التي رصد فيها مدى إمكانية قوة اللقطة، كأن يمر كلب ضال بالقرب من فاصل إسمنتي يحمل كلمة بيروت خلال «أرض الفناء» في المدينة في سوليدير (1995)، بينما في «ساحة النجمة» (1991) تحول بوابة حديدية لمتجر به آثار طلقات نارية في مركز وسط المدينة دون رؤية الفنان للمباني الخالية، لتشكل مجموعة تغلب فيها سماء الليل الشوارع المهجورة.

على الرغم من أن هذا النوع من الفن الفوتوغرافي من المفترض أن يتوارى أمام فن مفاهيمي يخلط بين النص ونماذج حديثة وقديمة من ملفات الفنان، فإن «لي.. مكان» ما زال متماشيا مع العصر، إذ أن خوري وعلى مدار أعوام، اشتهر في الأساس عن طريق مجموعة من الدراسات والكتالوجات وأخبار المعارض المنفردة في الخارج، ولكن يبدو أن عمله يجد صدى في لبنان والعالم العربي، ليحافظ على وجود ملموس حتى في إعادة إنتاجه في صورة بطاقات بريدية، في حين عقد خوري أخيرا معارض منفردة في بيروت ودبي وكان ممثلا عن لبنان في بينالي البندقية عام 2007.

«لي.. مكان» كان أول فرصة حقيقية ليشاهد الجمهور اللبناني حجم أعمال خوري، على خلفية المدينة التي ما زالت مسكونة بأشباح الماضي.

ميمنة فرحات
font change