راشد القريشي.. فنان الفيوضات الروحانية

راشد القريشي.. فنان الفيوضات الروحانية

[caption id="attachment_55229109" align="aligncenter" width="620" caption="راشد القريشي"]راشد القريشي[/caption]


فاز راشد القريشي الذي وصفت أعماله بأنها «شغف مكتوب» بجائزة «جميل» للفن الإسلامي التي ترعاها مجموعة عبداللطيف جميل والتي تبلغ قيمتها 25 ألف جنيه إسترليني، عن عدد من اللوحات القماشية الكبيرة من سلسلة أعمال له بعنوان «السادة غير المرئيين» في احتفالية بمتحف «فيكتوريا أند ألبرت» بلندن.

كانت سلسلة «السادة غير المرئيين» تتواءم مع أهداف «جائزة جميل» من ناحية خصائص التصميم واعتماده على الحرف التقليدية. وقد أولت لجنة التحكيم تقديرا خاصا للكيفية التي جعل بها قريشي من أصوله الروحانية والثقافية أمرا متاحا للجميع عبر اللغة الفنية التي خلقها بالاعتماد على تراثه الفني.
يستخدم قريشي في أعماله فن الخط العربي بالإضافة إلى علامات ورموز عدد من اللغات والثقافات لاستكشاف حيوات وتراث 14 من كبار صوفيي الإسلام.

ويستهدف العمل إظهار أن العالم الإسلامي، فيه جانب تتجلى في الكتابات المتسامحة والرقيقة للمفكرين المسلمين والشعراء العظام، مثل الرومي وابن عربي، بخلاف التصور السائد حول ارتباطه بالأزمات والعنف.
لقد ترك هؤلاء الأعلام، الذين ذاع صيتهم في الغرب، آثارهم على أجيال متعاقبة وما زالت رسالتهم ملائمة اليوم كما كانت في زمانهم.





يعد اسم قريشي دليلا على انحداره من أحد أكثر الأسر الصوفية قدما في شمال أفريقيا والتي يمكن تتبع جذورها حتى القرن الثامن. وتحترم الشخصية الصوفية الإنسانية، الفضول المعرفي وتتسامح مع التنوع وحرية التعبير.
لأجيال عدة، كانت أسرة قريشي تمارس الدراسة المعمقة للرسالة القرآنية، وعلى الرغم من إجلاله لذلك التراث، لا يشعر قريشي، كفنان، بأنه مقيد به، بل إنه يجدد التقاليد الإسلامية ويحييها.

كان قريشي في طفولته المبكرة منبهرا بالخط العربي الذي كان يراه في الكتب القديمة بمنزله، والتي كانت صفحاتها المصورة مزينة بالزخارف العربية، وكانت تمثل نوعا من الغواية نظرا لأنه كان ممنوعا على الأطفال الاقتراب منها، وعندما أصبح في الثالثة من عمره، وقبل أن يلتحق بالمدرسة، كان يذهب إلى الزاوية لحفظ القرآن الكريم.

بدأت دراسة قريشي الرسمية للفنون بالجزائر بمدرسة «إيكول دي بو - آرت» قبل أن يسافر إلى باريس عام 1971، وهناك تنقل بين عدة معاهد بما فيها «إيكول دي آرت ديكوراتيف».
ونظرا لأنه عاش في باريس واحتك بالفنون العالمية، فقد كان توجهه معاصرا وعالميا عبر منظومة مبهرة من الوسائط. وهو ما تضمن فنون التركيب، وفنون الأداء بالإضافة إلى المعادن المختلفة والخزف والمنسوجات والسجاجيد والجداريات والرسوم والمطبوعات مثل الحفر والطباعة.

كما تعاون قريشي أيضا مع فنانين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومثقفين ومنفيين، معالجا الواقع السياسي القاسي في المنطقة، خاصة في الجزائر، حيث كان مشاركا بفعالية في النضال من أجل الديمقراطية وحرية التعبير، كما كان فاعلا أيضا في النضال من أجل الحرية في فلسطين، عندما استلهم من «قصيدة بيروت» لصديقه لشاعر الفلسطيني محمود درويش وقدم من خلالها عرضا بصريا، وعن ذلك قال قريشي: «أرى في عرض ذلك المشروع في مدينة رام الله خطوة جديدة في التضامن مع الفلسطينيين المحاصرين والضحايا»، لقد منح قريشي ذلك العمل الفني إلى مركز خليل السكاكيني الثقافي برام الله حيث عرض هناك.




تعد أعمال قريشي أبجدية شخصية، آيديولوجية وجمالية في الوقت نفسه، حيث تتحول الرموز فيها إلى علامات وإشارات. ويستوحي قريشي الرموز والصور الرمزية من الثقافات القديمة بعضها متخيل وبعضها واقعي، أشكال الرموز الصينية واليابانية، على سبيل المثال، أو أبجدية الأمازيغ والطوارق ومربعاتهم السحرية. وتجسد الوسائط التي يستخدمها قريشي، مثل الحرير المزين بخيوط الذهب وتماثيل الصلب الأسود، الكلمة، لتصبح خطه المقدس.

ويعكس معرض قريشي «فيض النشوة» الذي قدمه في شهر أكتوبر (تشرين الأول) في لندن عام 2010، مسعاه لتجسيد رؤية روحانية، من خلال تعبيره عن العناصر الصوفية للإسلام عن طريق سلسلة أعمال تحتوي قدرا عاليا من الدقة والخيال، ولكن هذه المرة باستخدام الورق.

وينحدر عنوان المعرض من الأصل العربي «فيض»، في إشارة للطاقة الإيجابية المنبعثة إلى الخارج. كما يصف حركة الإنسان المسكون بالإحساس المبهج، ووصوله إلى الحدود غير التقليدية للوعي الإنساني.

يعد جلال الدين الرومي أحد أقطاب الصوفية الأربعة عشر الذين قدمهم قريشي في معرضه والذي يشترك معه قريشي في رؤيته الصوفية للحب، والرومي شاعر القرن الثالث عشر، رحالة ومؤسس نظام الدراويش المولوية. وفي سلسلة فنية أخرى، استخدم قريشي حركات الراقصين الدائرية ورسخها في تماثيل صلب انسيابية تعبر عن التأمل الراقص.



كما شارك معرض قريشي «حمام الورود» في بينالي فينسيا مرتين، كما تم عرضه في أنقرة والمغرب، بالإضافة إلى «معرض أكتوبر» والمتحف البريطاني. وقد احتفظ المتحف بجزء من المعرض وهو يتكون من عناصر مختلفة ومتنوعة تتضمن منسوجات الحرير المزينة وتماثيل الصلب والآنية الخزفية المزينة بزهور متداخلة مع نصوص للرومي.

يهتم معرض «حمام الورود» بالمفهوم الإسلامي للترحال، حيث تتبع رحلات الرومي إلى البلاد التي تسمى أفغانستان في الوقت الراهن، وكيفية تأسيس نظام الدراويش في تركيا والالتقاء بقطب صوفي آخر هو ابن عربي الذي تم تصويره كذلك في معرض «فيض النشوة».
وفي معرض آخر بعنوان «ذاكرة السلف» قدم الفنان 49 تمثالا برونزيا صغيرا براقا، ومنسوجات تقليدية مزينة بالعلامات والإشارات، والأقوال الصوفية المأثورة، ومن المثير للاهتمام أن الرقم 49 أو حاصل ضرب 7 × 7 يحمل دلالات عميقة، ليس فقط في الفكر الصوفي، ولكن في التقاليد الأخرى مثل التقاليد الإسلامية والبوذية والطاوية واليهودية والمسيحية حيث يمثل «الكمال» و«التمام».

وفي سبع ظلال زرقاء، احتفى قريشي باللون الأزرق الذي يعتقد أنه يعكس ما وصفه جلال الدين الرومي بأنه «باب الفردوس». وتأتي رايات قريشي دائما مزينة بشبكات من الخيوط الذهبية المجدولة ولكنه يتجنب باستمرار استخدام الألوان ويلجأ إلى التناقض الدرامي بين الأسود والأبيض ويستخدم الصلصال بلون الأرض، وطلاسم مخطوطة على مادة الصلب الأسود البراق، وفي تصميماته، يلعب قريشي دائما على التقاطع بين ظلال تلك التماثيل المعدنية الصغيرة التي يعكس صغرها الصفة الزائلة للحياة، في الوقت الذي يمزج بين أسطحها المصقولة التي تلتمع تحت الضوء وظلالها الراقصة الشفافة والمسكونة بالأبدية.

في أعمال قريشي، كما في فيوضات جلال الدين الرومي، لا يمكن الفصل بين الجمال والميتافيزيقا، وفي النهاية، لا مناص من الاعتراف بأن الفن يسعى للإمساك بكل ما هو زائل.
font change