إصلاح الممكن بعد "فشل" نماذج تغيير الكلّ

إصلاح الممكن بعد "فشل" نماذج تغيير الكلّ

[caption id="attachment_55235096" align="aligncenter" width="620" caption="مجلس التعاون الخليجي.. تحديات كبيرة"]مجلس التعاون الخليجي.. تحديات كبيرة [/caption]

لا أريد أن اناقش المدخل الأول لأنه خارج التحليل العلمي او شبه العلمي فهو عاطفي وانبطاعي، اما المدخل الثاني فإنه صحيح و لكن ليس في مجمله، فقد تأثر العرب بعضهم ببعض في الصيرورة التاريخية من جهة، وفي الاحداث التي مرت عليهم طوال نصف القرن الماضي من جهة اخرى، و كان التأثير و التأثر في بعض الاحداث كبيرا وفي بعضها محدودا.

المثال الذي يمكن تناوله في هذا الصدد هو "الثورات العسكرية" التي تأثرت بها دول عربية انطلاقا من ارهاصات أولية في سوريا و العراق، ولكن كان لمصر الثقل الأكبر في يوليو 1952 ثم انداحت فكرة الانقلابات الى كل من سوريا والعراق واليمن و ليبيا، ولم تتأثر اي من الدول الملكية في دول الخليج بمثل ما تأثرت اليمن او العراق او السودان، الا ان التأثير المعنوي كان ملحوظا، فقد سادت الافكار "الثورية" الى حد ما في دول الخليج، بل كانت هناك محاولات للحاق بالركب في المغرب (محاولة انقلاب اوفقير) او بعض "المحاولات الجنينية" في بلاد اخرى مثل الاردن.

ما اريد أن اصل إليه هو ان فكرة التأثر ممكنة و لكن ان تكون متطابقة (اي طبق الاصل مما حدث في الدول العربية) فأمر مستبعد. بالتأكيد لن يحدث ما حدث بحذافيره وإن لا استبعد بعض ارهاصاته التي تتخذ اشكالا موائمة للتطور السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي.

قراءتي للموضوع نابعة من شواهد و افكار متداولة، فعلى سبيل المثال هناك نخبة من ابناء الخليج يجتمعون سنويا على مدى الثلاثة والثلاثين عاما المنصرمة لتدارس القضايا التي يعتقدون انها ذات أولوية في مجتمعاتهم (مجتمعات دول الخليج الست، او مجلس التعاون) وآخر اجتماعاتهم كان في الأيام الأولى لشهر مارس 2012 في الدوحة، وقد كان موضوعه "تأثير الربيع العربي على دول الخليج".

أكثر المطالب المطروحة في النقاش هو (الإصلاح) وليس التغيير الجذري (رحيل النظام) بالمعنى الذي أخذه التوجه الغالب في ربيع العرب. حتى في موضوع البحرين فإن الورقة التي قدمت كان جوهرها المطالبة بـ (إصلاح) وليس تغيير للنظام!
جل المداخلات اتخذت موقف (المطالب بالاصلاح) بدلا من المطالب بالتغيير الشامل والكلي. أولى تلك المداخلات ركزت على الاستجابة التي واجهت بها دول الخليج تحدي (الربيع) الحقيقي او المفترض. لقد كان هناك اختلاف جوهري بين الأنظمة العربية التي طالها التغيير الكلي في بلاد العرب، وبين انظمة الخليج، ففي الاخيرة، السلطة ليست منقطعة نهائيا عن النسيج الاجتماعي، كما انها لم تتبن معادلة (القمع والخوف)، بل محاولة الاقناع والتدرج. مثال ذلك ما وصلت إليه الاحداث في المملكة العربية السعودية من نشاط مسلح من بعض ابنائها (حتى قبل الربيع).

لم تستخدم المملكة، استجابة للتحدي، القوة المعقولة فحسب ، بل الاقناع ايضا، من خلال ما عرف بالاصلاح والمناصحة، وهو برنامج كان جديدا ومبتكرا في التخفيف من الاحتقان وعودة البعض عن الغلو.



في البحرين، اخذت المطالبات بعد الربيع العربي شكلا - مع الأسف - طائفيا، ولو انه حاول في المفردات تطبيق ما حدث في بلاد ربيع العرب حرفيا! الا ان الحُكم هناك اخذ أيضا بعدد من الاجراءات التي كان في قمتها الطلب من لجنة قانونية دولية و محايدة، النظر في الاحداث (لجنة بسيوني) التي قبلت المعارضة توصياتها كما قبلها النظام، وبقراءة تقرير لجنة بسيوني نتعرف على المرونة الشديدة التي قابل بها النظام تيارا معارضا له حقوق، ولكن ليس مجردا في بعضه عن رغبات سياسية خارجية.

في عُمان ايضا كانت الاستجابة سريعة من النظام وحاسمة في الوقت نفسه، فقللت من مخاطر (الانفلات) غير المحسوب.
في الكويت وبسبب وجود دستور متوافق عليه سياسيا بشكل واسع، كان تفعيل آليات الدستور كفيلا بأن يقلل من مخاطر (الربيع) حتى المعنوية.
كل هذا تم في الخليج، بجانب بعد اجتماعي ربما لا يستطيع بيانه الا من عايشه، وهو سهولة الوصول من جانب افراد المجتمع الى متخذ القرار السياسي، كبر في المركز او صغر.. ففي غالب دول الخليج، لازال هناك الاتصال الاجتماعي التاريخي، على سبيل المثال، قائما ومطبقا، فالقليل يعرف ان الامير سلمان بن عبد العزيز (وزير الدفاع حاليا في السعودية)، على سبيل المثال لا الحصر، يخصص بعضا من وقته في ما بعد الظهر لزيارة المرضى في مستشفيات الرياض ومنذ سنوات طوال، منذ ان كان يشغل منصب أمير اداري لها.

زيارة المرضى او غيرهم معمول بها في دول الخليج، فأمير دولة الكويت يقضي ليالي رمضان في زيارات (للدواوين) الكويتية، عدى ان كثيرا من المسؤولين في السلط الخليجية يتعاملون مع الناس (وجها لوجه) في مجالات مفتوحة للجميع، وهناك ايضا سقف معقول في نقد (سلوكيات) السلطة او اشخاصها من دون خوف، غير مبرّر، مما يجعل الحاكم في الخليج في الغالب قريبا الى نبض شعبه.
باختصار، كانت الاستجابة السياسية من دول الخليج، المرنة والفعالة، كفيلة بأن تقلل المخاطر، ولكن من دون اختفاء المطالبة بالاصلاح لدى النخب، حيث لازالت فاعلة وإن لم تصل الى شعارات او مطالب الآخرين بالتغيير الجذري.

font change