الشابي يمشي ملكا في شوارع تونس: ثورتكم عظيمة لكنها مهددة!

الشابي يمشي ملكا في شوارع تونس: ثورتكم عظيمة لكنها مهددة!

[caption id="attachment_55241584" align="aligncenter" width="620"]تحيي تونس اليوم الذكرى الثانية لاولى ثورات الربيع العربي حيث يعتبر يوم 14يناير 2011 هو المتوج للثورة ضد النظام بفرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي تحيي تونس اليوم الذكرى الثانية لاولى ثورات الربيع العربي حيث يعتبر يوم 14يناير 2011 هو المتوج للثورة ضد النظام بفرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي [/caption]

بعد ثلاثة أرباع القرن، ها هو شاعر تونس الفذّ أبو القاسم الشابي قد عاد يمشي الهوينا في شوارع تونس ما بعد الثورة.. لقد عاد صاحب إرادة الحياة إلى الحياة ليسجل ملاحظاته على دفتر التاريخ عن ثورة نبيلة، عظيمة، لكنها ظلت مهددة ومستسلمة على مذبح الدغماء والدهماء!! هذا جزء مما دونه الشابي قبل عودته إلى هجعته الأبدية.

والآن.. وقد استجاب لك القدر، لا بدّ أنك تنفست الصعداء يا شعبي الذي دعوتك منذ قرن إلا نيفا، إلى صعود الجبال!. أعرف أنني سجنتك داخل ذلك البيت من الشعر..(إذا الشعب يوما أراد الحياة). والآن ها أنت انطلقت للحياة مع الريح.. فهنيئا لك بثورتك، وقد حققت إرادتك وهدمت هيكل الطاغية وصنعت طريقا للانعتاق.. لك ولأشقائك العرب في كل مكان.



الطعن من الخلف




حين كتبت ذلك، القصيد كنت مريضا وحزينا جدا ومتشائما من خمولك وكسلك ووهنك، لكن كنت على يقين بأنك لا بد أن تنتفض يوما ما ضد نفسك وضد طغاتك لكي تصنع الحياة.. لقد قالوا عني زنديقا وكافرا وملحدا ومارقا. طعنوني من الخلف كما طعنوا المصلح والأديب الطاهر حداد حين أخرج كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". وقد تساءلت بمرارة: ما بال عقل هذا الشعب جامد وحسّه بليد ونخبه مريضة ورجالاته متورطون مع الدناءة وفقهاؤه مرضى ومتملقون؟!. تصوروا، فالذي دعا الشعب إلى الحياة قالوا عنه "مجنون ومارق". أما الذي مدح السلطان وجعله في مصاف الجلالة فقد مدحوه ورفعوا من شأنه إلى أعالي السماوات.. لا شك أنكم تعرفون ذلك، البيت الشهير من الشعر الذي نطق به شاعر القيروان (ابن هانئ) في مدحه للسلطان:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار

إني أعرف أن قصيدي "إرادة الحياة" قد أصبح ضمن البرامج المدرسية، ثم بات شعارا للحياة من المحيط إلى الخليج العربي، وقد ضمّنه بعض الحكام في الأناشيد الرسمية، ولكن لو قدر لي العيش أيام الدولة العربية الحديثة، لكنت سجينا بسببه! إن الحاكم لا يتحمل وجود أي شاعر أو كاتب أو مثقف متمرد، إلا إذا مات وأصبح تحت التراب. فالذين يدعون إلى الحياة ويثيرون الخيال وينادون بالحرية ويعلنون ثقافة الوثبات العالية، إنما هم أعداء لكل حاكم متعطش للسلطة ومستغرق في استعباد الناس ومتفنن في تقطيع أوصالهم.



[blockquote]
[caption id="attachment_55241585" align="alignleft" width="225"]أبو القاسم الشابي أبو القاسم الشابي[/caption]
نصيحتي أن لا تترك السلطة لدى الدغماء ولا لدى الدهماء. فآنذاك ستكون الثورة قليلة القدرة وسريعة الزوال.. إنكم تحتاجون إلى رقعة جديدة من الأفكار لتجاوز العداوات الغريزية المدمرة وإلى رافعة ثقافية تمتثل إلى العقل وإلى قدرة فائقة على الغفران والاعتراف المتبادل، وإلا فإنكم ذاهبون إلى بربرية جديدة في أضيق معانيها وأشدها كفرا.
[/blockquote]





زيارة.. بعد الموت




إننا نعيش لنصنع معنى لحياتنا. وقد نموت قبل أن نصنع أو دون أن نصنع ذلك المعنى. ولكن الموت كثيرا ما يصنع لنا ذلك المعنى حين نكون قد عشنا بصدق وحلقنا مع أجنحة الخيال إلى الحرية.. وإذ قررت اليوم أن أرى وألمس ذلك المعنى بيدي، فقد رأيت أن أقوم بزيارة للحاضرة تونس ما بعد الموت، لأقف على معنى الحياة التي عشتها في مفتح القرن العشرين.

كنت قد ودعت الحياة في عام 1934. بعد خمس سنوات من وداع والدي لها.. لم أعش طويلا.. لقد دكني المرض والوجع والإحساس بالغربة فخطفني الموت وأنا في عمر الشباب. كان عمري نحو 25 سنة، ولكن عقلي كان ناضجا، وذهني كان متوقدا، وقلبي كان متوهجا ومتقطعا، وخطواتي كانت سريعة بحيث كنت كما لو أنني قررت الفوز في سباق الموتى للتخلص من أعباء حياة لا تستحق الحياة..
ربما تعرف جيدا يا شعبي، أنني مت قبل ولادة الحزب الحر الدستوري بنحو 9 أشهر فقط. وإذ قررت أن أقوم بزيارتك الآن، وبعد نحو 78 عاما، فلأن الظروف لم تكن تسمح بذلك. فقد شاء القدر أن أموت قبل انبعاث حزب الطغاة، وأعود بعد مماته لأتفقد تونس الحبيبة التي رفعتني عاليا مرة أخرى في جميع شوارع العرب كقائد عام لإرادة الحياة.!! (الشعب يريد..)

ها أنني أمشي الهوينا في الشارع العريض الذي بات يعرف بشارع بورقيبة مرفوع الهامة ملكا يحلق من فوقي الحمام.. لقد مررت بالجامع العظيم فحزنت كثيرا إذ رأيت بابه قد تشقق وبهت لونه، وبدا كما لو أنه باب زريبة.. الحمام الكثير الذي كان يسكن في أروقة المدخل هاجر إلى أماكن أخرى. تقدمت قليلا عسى أن ألتقي بصديقي الأديب محمد البشروش لأذهب معه إلى مقهى تحت السور، فإذا بي أقف مشدوها أمام تمثال ابن خلدون.. رأيت في ذلك تقديرا عظيما لرجل علامة قد شق اسمه عناء السماء وخرائط الأرض.. كان مكانه ملائما إلى حدّ ما مع مكانته. فقد غرس ما بين الكنيسة والسفارة الفرنسية، ولكن قامة التمثال لم تكن تليق بقامة ذلك المؤرخ العظيم.. كنت كمن يبحث عن نفسه وسط ذلك الزحام المشحون بالأحاسيس المتوهجة.

تساءلت ما الذي جعل تونس "تتفرنج" بهذه السرعة وعلى هذه الدرجة، ثم تذكرت أن من الواجب أن أحتسب الفارق الزمني الذي يفصلني عن ذلك الشارع. لقد تركته مليئا بأناس آخرين، وكان أكثرنا جرأة واعتزازا بنفسه يتحاشى المرور به أو حتى الاقتراب منه. كان شبه مفصول عن المدينة القديمة.. بل كان بمثابة عالم آخر مستورد من الخارج بأناسه ومقاهيه ومحلاته وكنيسته قد جاء من البحر ليرتفع فوق البحر!
تماديت في المشي بتؤدة، وأنا أراقب الوجوه والألوان والعصافير. ثمة بنايات عالية جدا لم أتركها.. وثمة علامات لا تجعلني أخطأ في أنني عدت إلى تونس وليس إلى مكان آخر. ها هو التراموي لا يزال يعبر الشارع.

وها هو المسرح لا يزال شامخا.. ثم ها هي إدارة الجندرمة الفرنسية لا تزال تحتل مكانها تحت مسمّى آخر.. لم أتوقف عن المشي لساعتين قبل أن أختار زاوية في مقهى على الرصيف اليساري للشارع.. حط عليّ الإحباط فجأة وحزنت كثيرا إذ لم أجد لا شارعا ولا مقهى باسم الشابي.. لا جدراية ولا مسرحا، لا تمثالا ولا لافتة باسم الشابي، الذي لطالما وضعته دولة الاستقلال كوردة على صدرها لتتزين بها في زمن القمع والاضطهاد!



خيال العرب




أذكر بعد تخرجي ببضعة أشهر من مدرسة الحقوق التابعة للزيتونة. وبعد عام من محاضرتي حول "الخيال الشعري عند العرب" كيف غصّت شوارع تونس بالرهبان الذين قدموا إليها من كل صوب، فبدت وكأنها جزء من حاضرة الفاتيكان. كانت المناسبة انعقاد ما عرف بالمؤتمر الأفخاريستي، في عام 1930 احتفالا بمرور قرن بكامله على احتلال الجزائر وجعلها ضفة ثالثة لفرنسا. كان قد مرّ آنذاك نصف قرن على احتلال تونس. وإذ أمعن الفرنسيون في الاحتفالات تفاخرا أمام الألمان وشماتة في الطليان، فقد أكدوا أنهم مازالوا قادة الحملة الصليبية بلا منازع، وجنودها الأكثر اندفاعا وحماسة.. امتلأت البلاد بغرباء يرتدون ملابس تشبه ملابس جنود الحملة الصليبية الثامنة، التي قادها الملك لويس التاسع (القدّيس لويس) والتي ردت على أعقابها عند هضبة قرطاج في عام 1270 حين ساعد وباء الطاعون الأهالي على دحر الملك الغازي شخصيا، ودحر جيوشه. كان أولئك الرهبان والقساوسة مدفوعين بشعور مفاده أنهم يواصلون السير على طريق "ملكهم القديس"، ورافعين للأعلام البيضاء التي كتب عليها بكل وقاحة: "الحملة التاسعة".. وهم يقتحمون الحارات والشوارع بكل صخب وغطرسة.


[caption id="attachment_55241586" align="alignright" width="256"]الطاهر الحداد الطاهر الحداد[/caption]

قبل ذلك المؤتمر الذي أشرف عليه البابا شخصيا امعانا في احتقار بلاد العرب والإسلام.. صادف أن رأيت البنائين وقد انهمكوا في بناء تمثال ضخم للكاردينال لافيجي، الذي عرف بأنه داعية تنصير شمال إفريقيا منذ إقامة الكنيسة الكبرى فوق هضبة قرطاج، الذي يفتح بابها باتجاه إفريقيا.. ذلك التمثال الذي أقيم عند مدخل المدينة العتيقة وعلى مقربة من جامع الزيتونة العامر، لشدّ ما أثار غضبي حتى إنني كدت أطير من الفرح، وأنا أرى في مكانه تقريبا اليوم تمثال العلامة ابن خلدون ابن بني الأحمر. كان الكاردينال لافيجي يمسك بالصليب وهو يكاد يضعه على أرض تونس.. وإذ رأيت في ذلك التمثال كما رأى آخرون من التونسيين النبلاء تمزيقا وتدنيسا لمقدساتهم، فها أنني الآن مرتاح البال، وأنا أرى في مكانه ابن خلدون وهو يمسك بكتاب التاريخ.

كانت الصحافة أنذاك هي المنبر المتاح الوحيد للأصوات الغاضبة. وكان الشعر هو الملاذ الوحيد لمن أصيب في كرامته وعروبته ودينه مثلي. كنت أرى ومن بعيد أن "السياسيين" ملطخون بداء الخلافات وممعنون في لعبة المساومات. أما الشعب فقد كان تقريبا يبحث عن نفسه تحت أقدام الغزاة والعابرين والراكضين إلى المجد.

وفي اعتقادي فإن الحزب الحرّ الدستوري الذي جمع خيرة مفكري تونس، قد راح ينزلق إلى كواليس مسرحية الحماية.. بدا كما لو أنه توقف على النمو، بل بات من ملكية بعض العائلات الكبيرة والأعيان. أما الحزب الشيوعي فقد استكان للعبة المزدوجة والنقاشات البيزنطية فبات كناد للتعاون الدولي بين النخب المحلية ووكالات الاستعمار أو "كلفيف أجنبي". ولا أظن أن النقابات كانت على أفضل حال. فهي أيضا قد دخلت في مضاربات كبيرة أعقبها يأس كبير بسبب غياب قادة مثل محمد علي الحامي وإبعاد آخرين مثل الطاهر الحداد، أضف إلى ذلك أثقال وتبعات أزمة 29 التي صاحبتها خلافات داخل العائلة المالكة، وجفاف قاس ضرب الأشجار والأفكار على حدّ سواء..

في مثل تلك الظروف أعددت محاضرتي "الخيال الشعري عند العرب" وحين ألقيتها على مدارج جمعية قدماء الصادقية، بدا للبعض وكأني قد ألقيت قنبلة وسط تجمع من الراكدين والكسالى. ففي تلك المحاضرة قمت بتوبيخ الشعر العربي لجموده وترنحه وسط البكائيات والغزليات الركيكة، وكذلك لفقدانه للسمو والخيال وتمسكه بالقوالب الجامدة والعبارات الجوفاء.. طالبت بكتابة نص جديد ومتوتر يعبّر عن إيقاع العصر. وقد أصدرت حكمي في العرب، ورأيت أن فقدانهم للخيال في أدبهم وشعرهم هو دليل على فقدانهم للخيال وعجزهم على انتاج العلم. وإذ قال البعض أن هذا الشاب العبقري مسجون في مجتمع قديم، قال آخرون إن هذا الشاب قد أصيب بعطل في دماغه وأحاسيسه. والحقيقة أن رأي الأغلبية من النخبة في شقيها الكلاسيكي والحديث "أن الشابي يجب أن يدان لأنه أدان ديوان العرب!".

كان ذلك مؤلما جدا لمثقف شاب مثلي كان يريد أن يتنفس هواءا نظيفا.. ولم يكن نصيب الطاهر الحداد من السخرية قليلا. فقد تمنى لو أنه مات قبل أن يصدر كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". فقد وضع في صف الزنادقة والمارقين والحاقدين والملحدين، إلى حدّ كان عليه أن يهرب بجلده من مجتمع ذكوري متكالب. اختلفت الصحف في تقييم محاضرتي ثم في تقييم كتاب الحداد، فتحمست صحف لنا مثل "الزمان" و "العالم الأدبي"، وتهجمّت علينا صحف أخرى مثل "النهضة" و "مرشد الأمة".. ولكن ما كان واضحا لي أن إرادة جديدة للحياة قد بدأت تعبّر عن نفسها. أو لنقل كان هناك انشقاق قد بدأ يحدث بين جيلين وثقافتين، بيد أنه كان يصعب حتى ذلك الوقت، الكلام عن قطيعة معرفية، لأن وجود نخبة راديكالية كان لا يزال مبهما. ثم إن فكرة التخلي عن الماضي جذريا كانت فكرة غير مقبولة وليست جذابة أو ساحرة، لأن الجميع كان يفكر في إعادة إحياء ذلك الماضي المهان من قبل الاستعمار.. أضف إلى ذلك أن الجميع راح يؤسس لأفكاره على قاعدة التمسك بالهوية الوطنية.. وحتى الشبان العائدون من جامعات فرنسا كانوا حذرين من الانزلاق في خطأ التنكر للماضي، حتى انهم كثيرا ما ظهروا أقل جرأة من زملائهم الزيتونيين الجدد.. إن أفكار مثل تحرر المرأة وإنشاء نقابات مستقلة عن المركز الاستعماري (المونوبول) والدعوة إلى تساوي الإرث والتحريض على كتابة نص أدبي جديد، ومناقشة الأفكار الشيوعية لدى جماعة تحت السور لم تأت مع الشباب العائد من فرنسا، وإنما ولدت بالقرب من جامع الزيتونة. وعلى يدي شباب متخرج من الزيتونة، وتلك مفارقة تدعو إلى التريث قبل إطلاق أي حكم على النخبة في تونس.. وإن ما يغري فعلا في تونس أنها كانت دائما متصالحة مع تاريخها حتى وإن جنحت.. ونادرا ما تلجأ إلى التطرف أو السير على الحواف، لذلك ولهذا كله، فأنا مطمئن، رغم بعض المرارات والتوجسات أن تونس ستجد طريقها نحو الخلاص من بعد أن عبرت كل هذه الصحراء.



[blockquote]إن كل ثورة قد تتحول إلى فوضى أو بربرية أو فاشية بسبب إخفاق المبادئ التي قامت عليها وخيانة الذين صنعوها، حين يتحالفون مع الشر والدناءة.. أدعوكم بصدق إلى التفوق على الحياة بحب الحياة، وأن تكون بطولتكم الحقيقية هي التفوق على الذات الخادعة وعلى اللحظة الراهنة.
[/blockquote]


أعرف أن النخب تعيش تحت هيمنة الجماهير، والجماهير ليست دائما على حق. فهي أحيانا فظة وفاقدة للقدرة على الاختيار الحرّ والتمييز العقلاني والاحتكام للمعرفة.. وإني ألاحظ ذلك في وجوه العابسين والمتحسرين والمحبطين الذين ما زالوا يشكون في دواعي هذه الثورة وحتى في المتحمسين لها أو المدافعين عنها.. وقد لا حظت ذلك النزوع التشكيكي لدى التونسيين منذ أن خرجت بأول قصائدي. لم يكن ثمة من كان ينظر إليّ باعتزاز.. كانت الأغلبية منخرطة في حياة عمياء وهي تهاجم كل ما هو مختلف وجليل وفردي ونوعي ونخبوي.. ومن لم يكن يفكر كما يفكر الناس، يتعرض للإقصاء. وقد التقطت الأنظمة الشعبوية والشمولية تلك الفكرة، فأصبحت تعبّر عنها بامتياز في ممارساتها للسلطة وإدارتها لشؤون الحكم.. "فمن لا يفكر مثلي فهو عدوّي". و"من لا ينتمي إلى حزبي، فهو خائن".. و"من لا يوافق على ترهاتي وسفاهاتي فهو مجنون وخطير".



غياب العقل التاريخي




في الحقيقة، وبعد حياة وممات.. وبعد مكابدة ومعاناة.. وبعد مفاضلات ومقارنات، ها إنني أعترف وأنا أزور حدائق ربيعكم، الذي حلّ بالرغم من أنه حلّ متأخرا، بأنه لا يمكن بناء أي مستقبل أفضل في حال غياب العقل التاريخي.. ذلك العقل الذي ينصهر بداخله الفرد والجماعة، الزمن والمكان، الرمز والمعنى.. ذلك العقل المتآلف مع الدولة والثورة.. إن كل ثورة نبيلة من حيث المبدأ، ولكن العبث بها أو خيانتها أو تحويلها إلى عملية هدم للدولة، هو ما يجعلها مبتذلة ومكروهة.. إن الثورة وكما أفهمها منذ نعومة أظافري هي الاستعداد الدائم لغسل الروح من الآثام والأدران.. التعبئة الدائمة بالثقافة والفكر والإبداع. وهي يمكن أن تكون عبورا إلى تنظيم بشري جديد لا نظير له، كما يمكن أن تكون كارثة على مصير بشري بكامله، إذا ما استولى عليها السماسرة ومتعهدو الولائم السياسية والدهماء وذوو العاهات العقلية وأصحاب الأرواح الصغيرة.

إن نصيحتي أن لا تترك السلطة لدى الدغماء ولا لدى الدهماء. فآنذاك ستكون الثورة قليلة القدرة وسريعة الزوال. وإني لأعول على السلطة الروحية. إنكم تحتاجون إلى رقعة جديدة من الأفكار لتجاوز العداوات الغريزية المدمرة وإلى رافعة ثقافية تمتثل إلى العقل وإلى قدرة فائقة على الغفران والاعتراف المتبادل، وإلا فإنكم ذاهبون إلى بربرية جديدة في أضيق معانيها وأشدها كفرا.

إن كل ثورة قد تتحول إلى فوضى أو بربرية أو فاشية بسبب إخفاق المبادئ التي قامت عليها وخيانة الذين صنعوها، حين يتحالفون مع الشر والدناءة. لا تنظروا إليّ على أنني حكيم أو شيخ متصوف وعائد من دار الزهد والصفاء، ولكني أدعوكم بصدق إلى التفوق على الحياة بحب الحياة، وأن تكون بطولتكم الحقيقية هي التفوق على الذات الخادعة وعلى اللحظة الراهنة.

بعدما أمضيت ثلاثة أيام وأنا أتجول في شوارع تونس الحاضرة. رأيت أن أقوم بزيارة إلى ضريحي في مسقط رأسي "توزر" العزيزة.. كان الطقس لا يزال دافئا. وقد هزني الحماس إلى توزر بعدما عرفت أن الدولة قد أقامت لي ضريحا لائقا لشاعر لم يكن يوما لا موظفا لديها ولا عضوا في اتحاد كتابها أو ناشطا في حزبها الحاكم.
يا سبحان الله.. لو لم أمت ماذا كانت ستفعل بي؟!
فهنا في توزر التي تركتها قرية جميلة بعيدة عن ضوضاء التقدم، رأيت أن أكتب رسالة إلى صديقي ومعلمي أحمد زكي أبو شادي رئيس تحرير مجلة "أبولو" التي أطلقتني إلى عالم الأدب، دونت فيها كل ملاحظاتي عن ربيع تونس، قبل أن أعود من حيث أتيت.. وهذا جزء منها..



سلال فارغة




قلت بعد السلام والتحية: إذا الروح يوما أزاحت التراب، فلا بد أن يستجيب الجسد. ولا بدّ للقبر أن ينفتح، ولا بدّ للتوأم أن يتحد..
إن روحي وجسدي قد اتحدا وأزاحا التراب، من أجل أن أعرف حقيقة ما يحدث. إن القوة التي منحتني إياها الثورة التي يدعونها هنا وهناك في مصر الكنانة "بثورة الشباب" قد أعادتني شابا.. إنني مازلت أعتقد بأن الشباب هو طاقة العطاء والإبداع. فأنا قد كتبت أجمل قصائدي وأجمل نصوصي وأنا لم أبلغ بعد الثالثة والعشرين.. وإذا كنت قد كتبت "الخيال الشعري عند العرب". وأنا في العشرين من عمري، فها أنا سأحدثك الآن عن الخيال الثوري عند العرب..

فبعدما أتيحت لي زيارات إلى اتحاد الكتاب وإلى الهيئة العليا لحماية الثورة وساحة القصبة. وجلست إلى مناضلين ومثقفين وشعراء كثيرين، تأكدت مرة أخرى. وليعذرني أصدقائي أن العرب لا يملكون خيالا ثوريا.. فها هم يقومون بثورات كثيرة في ربيع واحد، فيما سلالهم في زمن الحصاد لا تزال فارغة!.. لقد تساءلت كيف يسلم هؤلاء الشباب أصحاب الثورة، ثورتهم إلى مذبح الطغيان!.. تلك سذاجة لن يغفرها التاريخ لأصحابها. بل سيدفع ثمنها أبناؤهم وأحفادهم، كما دفعنا نحن ثمن تقاعس وسذاجة أبائنا وأجدادنا.. لم أر شيئا جادا يجعلني مطمئنا لمستقبل هذا الشعب.. رأيت شبابا متحمسا ومتسلحا بشعارات مجنحة.. ومقاهي تغص بالنقاشات والهواجس والاتهامات وبعض الشعراء الذين انضموا إلى قافلة الثورة توا.. ونساء متوجسات من الذين يسعون إلى سدّ طريق المستقبل ومناضلين يساريين متعددي الخطابات وإسلاميين ملتحين يزرعون الخوف ويدعون إلى السلف الصالح وحتى رجال أمن نادمين وملتفين حول أنفسهم.. وكم أحزنني أنني لم أعثر خلال الأيام الثلاثة على "صديقي" الذي لا أعرفه محمد أبو القاسم كرّو لأشكره على اهتمامه بشعري وكتبي وسيرتي.. لا بل كم كنت حزينا، لأنني لم أتمكن حتى هذه المرة من زيارة أرض الكنانة لأتعرف على ثورتكم وثواركم..!




[blockquote]
أعرف أن النخب تعيش تحت هيمنة الجماهير، والجماهير ليست دائما على حق. فهي أحيانا فظة وفاقدة للقدرة على الاختيار الحرّ والتمييز العقلاني والاحتكام للمعرفة.. وإني ألاحظ ذلك في وجوه العابسين والمتحسرين والمحبطين الذين ما زالوا يشكون في دواعي هذه الثورة وحتى في المتحمسين لها أو المدافعين عنها.[/blockquote]



أنت تعرف يا صديقي ومعلمي، أنني أحب القاهرة التي درس فيها أبي.. القاهرة التي أعطتني من إشعاعها الكثير، القاهرة التي سارت على درب تونس في ثورتها المباركة.. فنحن هنا في تونس نعتقد عن جدارة بأن النيل إذا اشتكى من الفيضان، بكى له نخيل بلاد الجريد في تونس.. وإذا ما دعا الأزهر الشريف إلى الجهاد، استجاب له أخوة من تونس أو القيروان.. لقد التحم أهلي وأهلك منذ القديم.. منذ فجر الفتح الإسلامي ثم خلال رحلة الهلاليين ثم مع توسع الفاطميين. وكم سررت حين عرفت أن نشيد بلادي ينقسم إلى مقطعين الأول مأخوذ عن قصيدتي "إرادة الحياة"، والثاني عن مصطفى مجيد الرافعي ومطلعه:

حماة الحمى يا حماة الحمى
هلموا هلموا لمجد الزمن

إن مثل هذا الالتحام في التاريخ والدين والجغرافيا لا بدّ أن يجعلنا نفرح ونتألم بكيفية واحدة، وعلى إيقاع واحد.. وكما لو أنني موجود إلى جانبكم في قاهرة المعز، فإني أحس بأن ما يحدث في تونس، هو تقريبا ما يحدث في مصر.. إن هذه الثورة قد ولدت بعد قرن من المخاضات، ومع ذلك فهي تبدو لي أنها تفتقد إلى الخيال. ومتى خلت الثورة من الخيال فرغت من الحلم واستسلمت إلى الدغماء أصحاب الخطابات المملة والجوفاء، والدهماء أصحاب النوايا السيئة والإشباعات الحيوانية.

مررت بمكتبات، وهي قليلة في بلادنا، وأطلعت على صحف كثيرة، ولم أقرأ شيئا جيدا عن هذه الثورة.. إن بؤس الفكر في هذه اللحظة رهيب، وينبئ بانتكاسة مرعبة قد تدفع هذا الشعب الطيب إلى الإحباط والاستقالة من الحياة.
أخيرا أقول لك يا صديقي ومعلمي، إنني كتبت قصيدة إرادة الحياة في ليلة القدر على ما أذكر.. وإذ أشكر الآن كل الذين جعلوا مني شيطانا وزنديقا، ولم يفهموا حينها أن شيطان الشعر ينطق بحقائق المستقبل، فإنني أحنو على أولئك الذين لم يدركوا بعد أن شياطين كل شعب هم شعراؤه. ومع أن المرارات التي طاردتني إلى القبر، منذ نحو ثمانية عقود ما زالت تهيمن على تونس في أشكال النميمة والحسد والتملق، وعبادة الأصنام، فإنني ما زلت أحمل روحا كبيرة بحجم روح هذا الشعب.. وباختصار أقول: إن الشعراء لا يموتون.. فهم عند شعبهم أحياء يرزقون.. وسلامي إلى أهل أرض الكنانة، راجيا أن يجعلوا من ربيعهم أكثر دفئا وإغراء..!!

المخلص أبو القاسم الشابي
font change