الإسلام السياسي بين النموذج التركي والنموذج المصري!

الإسلام السياسي بين النموذج التركي والنموذج المصري!

[caption id="attachment_55244252" align="aligncenter" width="620"]هل استطاعت تركيا أن تقدم لدول الربيع العربي أسرار نجاح تجربتها؟! هل استطاعت تركيا أن تقدم لدول الربيع العربي أسرار نجاح تجربتها؟![/caption]

بعد عامين من الانتفاضات التي أسقطت الأنظمة الأوتوقراطية في مصر و تونس يمكن القول بأن تركيا فشلت في تقديم وصفة النجاح السياسي للتيارات الإسلامية في البلدين، أو بالأصح فإن هذه التيارات لم تستوعب أبعاد النموذج التركي، أو أنها استوعبته و لكنها لا تريد تطبيقه. و لعل فكرة استنساخ النموذج التركي -على علاته- في العالم العربي كانت إحدى أدوات تسويق الإسلام السياسي في الأوساط الأكاديمية والسياسية الغربية، بل وحتى في أوساط قطاع عريض من الجماهير العربية بعد ثورات العام 2011. وخلال العامين اللذين أعقبا الثورات العربية، كانت هناك حالة من الهوس بالنموذج التركي من قبل تيارات الإسلام السياسي. تجلى هذا الهوس في الزيارات المتكررة من قبل رموز هذه التيارات في مصر و تونس إلى تركيا للاستفادة من تجارب حزب العدالة والتنمية البرلمانية، كما تجلى في استعارة مصطلحات تركية خالصة كمصطلح "الدولة العميقة" لتبرير سياسة "أخونة" الأجهزة البيروقراطية في مصر.



البحث عن النموذج التركي




في الواقع ليس ثمة تعريف معين لمصطلح النموذج التركي، فالباحث اليوناني وأستاذ العلوم السياسية في جامعة "ييل" الأمريكية "ستاذيس كاليفاس" يرى بأن النموذج التركي يمثل نوعًا محددًا من التفاعل بين سياسة ذات جذور دينية من جهة، وعملية "اللبرلة والدمقرطة" من جهة أخرى. و هو يرى بأن هذه ظاهرة ليست جديدة تمامًا، بل إن لها أصلاً في أوروبا من خلال تطور الأحزاب المسيحية خلال القرن التاسع عشر. بينما يحدد الباحث التركي الزائر لمؤسسة كارنيغي للسلام "سينان أولغن" خمسة عناصر تشكل معالم النموذج التركي، يأتي على رأس هذه العناصر المواءمة بين الإسلام السياسي ومبادئ العلمانية في ظل النظام السياسي التركي.
[caption id="attachment_55244260" align="alignleft" width="150"]شعار حزب العدالة والتنمية التركي شعار حزب العدالة والتنمية التركي[/caption]
في كل الأحوال هناك نوع من الاتفاق على أن الثابت في النموذج التركي هو أن ثمة تغييرًا وتغييرًا كبيرًا في شكل ومضمون الحركة الإسلامية في تركيا، وتعاطيها مع مفهوم وقيم الدولة بالتزامن مع تغيير تعامل الدولة ممثلة بالجيش والمحكمة الدستورية مع الأحزاب الإسلامية الجديدة كحزب العدالة والتنمية. ولعل أحد أبرز دلائل هذا التغيير هي التحولات التي طرأت على تجربة الأحزاب الإسلامية التركية بعد عقود من معاركها الخاسرة أمام المحكمة الدستورية تارة والجيش تارة أخرى. فالأحزاب الإسلامية التركية بنسخها الخمس، بداية من حزب النظام الوطني في السبعينات، إلى حزب الفضيلة في مطلع القرن الحادي والعشرين، ظلَّت خاضعة لاتجاه متشدِّد يقوده نجم الدين أربكان، الذي عادى النظام العلماني للدولة قبل أن تنفصل مجموعة من سياسي حزب الفضيلة لتؤسس حزب العدالة والتنمية في عام 2002 وتتبنى سياسة لا تعادي نظام وهوية الدولة، بل تقر بعلمانيتها، وتسعى في الوقت نفسه إلى إشراك القيم الدينية في الحياة العامة، وتحقيق المزيد من الحرية الاقتصادية.

يصف أستاذ العلوم السياسية في جامعة (ليدز) "ذو الكف أيدن" التحولات في الحركة الإسلامية في تركيا بأنها اتجهت نحو الاقتصاد والخدمات وليس الهوية. وفي كتاب "العلمانية والديمقراطية المسلمة في تركيا"، يضع البروفيسور "هاكان يافوز" ثلاثة أسباب أسهمت في صياغة الشكل الحالي لحزب العدالة والتنمية وهي:
1-كبح الدولة تاريخيًّا ممثلة في الجيش والمحكمة الدستورية للأحزاب الإسلامية.
2- الضغط الخارجي ممثلاً في التزام تركيا بشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
3- العامل الاقتصادي ممثلاً في صعود طبقة أعمال جديدة تنتمي للأقاليم والأرياف التركية ظهرت نتيجة للسياسة النيوليبرالية الاقتصادية لرئيس الوزراء الراحل "تورغوت أوزال" والتي أدت لتحرير الاقتصاد التركي في الثمانينات الميلادية، ومثلت هذه الطبقة جزءًا كبيرًا من ثقل الحزب وشعبيته.
ولعلني هنا أضيف سببًا رابعًا ساهم في بلورة الشكل الحالي لحزب العدالة والتنمية، وهو الطبيعة الصوفية المتسامحة للمجتمع المسلم في تركيا، وخلو التاريخ التركي الحديث من حركات إسلامية مسلحة ذات ثقل كما هو الحال في العالم العربي.




[blockquote]

مقارنة بين فلسفة الإحزاب الإسلامية التركية تجاه عدد من القضايا الجدلية




turki[/blockquote]



الإسلام السياسي العربي




على العكس من التجربة التركية، فإن الملاحظ أنه لم يحدث -سواء قبل أو بعد ثورات العام 2011- تغيير حقيقي في فكر جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي وعلى رأسها جماعة الإخوان، وأقصد بالتغيير هنا التخلي عن أيديولجية "الدولة الدينية". فقبيل ثورة يناير في مصر، انتهى الصراع على قيادة جماعة الإخوان خلال انتخابات الجماعة في عام 2010 انتهى لمصلحة التيار المتشدد أو القطبي الذي يتبنى أدبيات الإخوان التقليدية على حساب التيار الإصلاحي، رغم أن هذه الانتخابات جاءت وسط أجواء تبشر بانفراج سياسي في العلاقة بين الجماعة والدولة، إذ كانت الجماعة وقتها تملك 88 عضوًا في مجلس الشعب.


[blockquote]لا يمكن للمعادلة السياسية بشكلها الحالي في مصر أن تقود إلى نهضة اقتصادية واستقرار سياسي، بل إنها على الأرجح ستؤدي إلى انهيار اقتصادي وانهيار للدولة. ونجاح الإسلاميين في الحكم سيتطلب تغييرًا في أفكارهم تجاه الدولة والمجتمع[/blockquote]


وعندما انشقت مجموعات معتدلة نسبيًا عن الجماعة بعد ثورة يناير عجزت هذه المجموعات -بقيادة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح- عن إنشاء كيانات سياسية موازية تستطيع منافسة جماعة الإخوان كما حدث في تركيا، وتجلى هذا الأمر في الهزيمة الكبيرة التي تلقاها الدكتور أبو الفتوح خلال الانتخابات الرئاسية العام الماضي. وقبل ثورة الخامس والعشرين من يناير بنحو أربعة أعوام قدمت الجماعة مسودة لحزبها السياسي، أو ما يمكن اعتباره مسودة "النموذج الإخواني".

ولقد جاءت تلك المسودة صادمة للمراقبين؛ إذ أخلّت بمبادئ المساواة في المواطنة، فحرمت المرأة وغير المسلمين من "الولاية العامة" كما أخلّت بمبادئ الدولة المدنية عندما دعت إلى إنشاء هيئة علماء فوق تشريعية يتوجب استشارتها من قبل السلطة التنفيذية والتشريعية. لاحقًا و عند تأسيس حزب الحرية والعدالة الواجهة السياسية للجماعة، تراجع الإخوان عن بعض الأفكار التي طرحتها المسودة، وإن كان البعض ينظر إلى هذا التراجع بشيء من الريبة. فإذا كان برنامج حزب الحرية والعدالة قد تجنّب الإشارة على الورق إلى هيئة علماء فوق تشريعية، فإن خيرت الشاطر -نائب مرشد الجماعة ومرشحها الأساسي في الانتخابات الرئاسية- صرح في الثالث من أبريل من العام 2012 بنيته في إنشاء هيئة للحل والعقد تعين البرلمان على تحقيق هدفه الأول وهو تطبيق الشريعة. وإذا كان الدستور المصري الجديد الذي صاغته أغلبية تنتمي لتيارات الإسلام السياسي قد أقرَّ بشكل عام مبدأ المساواة في الحقوق السياسية، إلا أنه احتوى على بعض المواد الملغومة كالمادة 219 والتي يمكن استغلالها لتسويغ قوانين فاشية، وهذا ما التقطه التيار السلفي بسرعة، وظهر من خلال الحديث الشهير والمسرب للقيادي السلفي ياسر برهامي.



من يقود العربة؟




في كتاب الديمقراطية -الإسلام والعلمانية في تركيا- يشبِّه "ستاذيس كاليفاس" الجذور الدينية لحزب العدالة والتنمية بالعربة التي استقلتها مجموعة من العصاميين ورجال الأعمال في قرى وأقاليم الأناضول لتحقيق أدوار سياسية واقتصادية أكبر. في الحالة المصرية يمكن القول بأن العربة قد استقلتها مجموعة من رجال الدين المتشددين لتحقيق أهداف سياسية ودينية متشددة. ولا أدل على ذلك أكثر من تراجع شعبية الأحزاب الدينية مؤخرًا، وانحصار التأييد لهذه الأحزاب في فئة معينة، وهذا الأمر يمكن ملاحظته من خلال المظاهرات التي تدعو إليها الأحزاب الدينية، والتي تكتسي بطابع ديني واضح عكس مظاهرات المعارضة والتي تشارك فيها جميع الأطياف.
[caption id="attachment_55244258" align="alignleft" width="150"]القيادي الإسلامي التركي نجم الدين أربكان القيادي الإسلامي التركي نجم الدين أربكان[/caption]
بعد عامين من الانتفاضات العربية، يبدو الحديث عن استنساخ النموذج التركي في دول الثورات العربية -وتحديدًا مصر- ضربًا من الخيال. فالمقومات التي صاغت الشكل الجديد والمعتدل للإسلام السياسي في تركيا لم تتوفر في مصر. فقبول الدولة والمجتمع بالإضافة إلى المجتمع الدولي للظهور الرسمي للأحزاب الإسلامية في مصر لم يقابله تغيير حقيقي في فكر هذه الأحزاب. فجماعة الإخوان ترى بأن وصولها إلى الحكم هو انتصار نهائي لأيديولوجيتها على "الهوية المصرية" وهو ما أشار إليه القيادي في حزب الحرية والعدالة عبد الموجود الدرديري في كلمة له رصدها الكاتب الأمريكي "إيريك تراجر"، وذلك أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي عندما تحدث عن أن الثورة المصرية استغرقت 213 عامًا في إشارة ضمنية إلى أنها ثورة على الهوية عرفتها مصر طيلة قرنين من الزمان. أما من الناحية الاقتصادية فإن الكتلة الانتخابية للإسلاميين تتركز في الأوساط الأكثر فقرًا و أميَّة كما ظهر في انتخابات الرئاسة، وفي الاستفتاء على الدستور، حيث صوَّتت المحافظات الأشد فقرًا والأعلى في نسبة الأمية (المنيا، أسيوط، سوهاج، قنا، بني سويف) لصالح الرئيس محمد مرسي في الجولتين الانتخابيتين، ولصالح الدستور الجديد. وهذه الكتلة من المؤيدين تختلف عن مؤيدي العدالة والتنمية في تركيا بأنها غير قادرة على الضغط من أجل تحقيق نهضة اقتصادية كما حصل في تركيا.


[blockquote]بعد عامين من الانتفاضات العربية، يبدو الحديث عن استنساخ النموذج التركي في دول الثورات العربية -وتحديدًا مصر- ضربًا من الخيال. فالمقومات التي صاغت الشكل الجديد والمعتدل للإسلام السياسي في تركيا لم تتوفر في مصر[/blockquote]


بالتأكيد لا يمكن حذف الإسلام السياسي من المعادلة السياسية في مصر والعالم العربي، ولكن لا يمكن للمعادلة السياسية بشكلها الحالي في مصر أن تقود إلى نهضة اقتصادية واستقرار سياسي، بل إنها على الأرجح ستؤدي إلى انهيار اقتصادي وانهيار للدولة. نجاح الإسلاميين في الحكم سيتطلب تغييرًا في أفكارهم تجاه الدولة والمجتمع، وهذا التغيير بدوره سيحتاج إلى قوى ضبط وتوازن خارج الإطار التقليدي لكي يحدث. وربما تكون المؤسسة العسكرية هي الأقدر على تحقيق هذا التوازن إذا ما قررت العودة إلى السياسة لإعادة تقويم المسار. المواقف الأخيرة للجيش المصري ممثلة في الإصرار على هدم أنفاق التهريب على الحدود مع غزة رغم وساطات أطراف محسوبة على الرئاسة المصرية، ورفض وزير الدفاع -عبد الفتاح السيسي- لمطالب الرئيس محمد مرسي بفرض إجراءات استثنائية ضد المعارضة والإعلام بعد أحداث المقطم- تشير إلى أن الجيش بدأ فعلاً بممارسة نوع من عملية الضبط والتوازن مع الرئاسة وجماعة الإخوان. هذه العملية قد تتطور لاحقًا في حال استمرار أخطاء الإخوان إلى ما يشبه عملية الثامن والعشرين من فبراير من العام 1997 والتي أطاح من خلالها الجيش التركي بحكومة نجم الدين أربكان. أما إذا تدهورت الأوضاع المصرية إلى ما يشبه الحرب الأهلية، فإن استنساخ نموذج انقلاب 1980 التركي قد يكون هو الأقرب.
font change