"كورونا": تقييم المخاطر وتصحيح المسار

"كورونا": تقييم المخاطر وتصحيح المسار

[caption id="attachment_55245972" align="aligncenter" width="620"]السعودية في في عين العاصفة محليًّا وعالميًّا بعد تفشي فيروس كورونا المتسبب بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية السعودية في في عين العاصفة محليًّا وعالميًّا بعد تفشي فيروس كورونا المتسبب بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية[/caption]

لم يكن يعلم مساعد الغامدي -يرحمه الله- بأنه سيعلق الجرس بجسده وروحه لاستنفار عالمي لمجابهة الفيروس الغامض الذي بدأ بمساعد من بيشة وما زال يحصد الحالات والوفيات من بعد وفاته قبل تسعة أشهر حتى اليوم. تساؤلات عدة تدور حول هذا الفيروس الغامض وخاصة بأن الفيروسات تبدو للناس كالموضة الموسمية التي سرعان ما يخفت لمعانها، وما بين نجم فيروسي وآخر تظهر فجوات علمية وإدارية واتصالية تساهم في تشكيل وعي الرأي العام، وتفاعله مع الأوبئة المتفشية.



السعودية في عين العاصفة




ما زالت المملكة تتصدر قائمة الدول بعدد الحالات والوفيات الناتجة عن فيروس كورونا المتسبب بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية بنسبة تزيد عن ٧٥٪ من إجمالي الحالات والوفيات عالميًّا منذ أن سلم مساعد الغامدي روحه في جدة بعد أن قدم من بيشة طلبًا لعلاج مرضه الذي عجز عنه الأطباء هناك، ولم يعلم حينها أن مصدر مرضه سيظل مجهولاً حتى بعد تسعة أشهر من وفاته.

بدأت الحالات بالظهور بشكل متقطع في المملكة وخارجها منذ سبتمبر ٢٠١٢، ولكن نقطة التحول كانت من الأحساء في أبريل ٢٠١٣ والذي بدأ بسبع حالات وخمس وفيات لتظهر بعده عدة بؤر وحالات في المنطقة الشرقية والقصيم وحفر الباطن ووادي الدواسر والطائف، ليصل إجمالي حالات التفشي لما يزيد عن ٣٥ حالة وأكثر من ٢٠ وفاة خلال ثلاثة أشهر، وهو ما استنفر المجتمع الدولي لمحاولة حل هذا اللغز واحتوائه قبل أن يتسبب بوباء عالمي كما حصل في ٢٠٠٩ مع أنفلونزا الخنازير وسارس في ٢٠٠٣ خاصة وأن الفيروسات ليست بحاجة لتأشيرة للانتقال من دولة إلى أخرى، فكيف بفيروس تمتد فترة حضانته لأسبوعين؟!



الجمهور .. ومشكلة الاتصال




يعد التواصل مع الجمهور خلال الفاشيات حجر الزاوية في التحكم بها والحد من آثارها. برزت على السطح عدة مشكلات اتصالية بين وزارة الصحة ومقدمي الخدمات الصحية والجمهور منذ بدء التفشي في الأحساء، لأغلبها علاقة وثيقة بأداء الوزارة الاتصالي أثناء وباء أنفلونزا الخنازير في العام ٢٠٠٩ – ٢٠١٠ وأيضًا أداءها الحالي مع الفاشيات والبؤر لبعض الأمراض المعدية المستوطنة كحمى الضنك.

هناك قاعدة تنص على أن الجمهور لا يتفاعل مع خطورة لم يستشعرها، ولعل أشهر مثال لذلك هو فاشيات السعال الديكي والنكاف التي تحصل في الولايات المتحدة من فترة لأخرى، والتي يعود سببها الرئيس لرفض الوالدين إعطاء أطفالهم اللقاح مما يقلل من مناعة الأطفال ضد هذه الأمراض التي لها القدرة على أن تكون مميتة. وعند محاولة فهم سبب رفضهم فإن الإجابة غالبًا ما تكون بأنهم لا يعتقدون أن هذه الأمراض خطيرة؛ لأنهم لا يرونها حولهم ولا يرون آثارها، ولعل مقولة بول أوفيت رئيس قسم الأمراض المعدية في مستشفى الأطفال بفيلادلفيا لصحيفة (يو اس اي توداي) في العام ٢٠١١ تلخص النقاش حول هذه القاعدة: "نحن لم نقض على الأمراض باللقاحات فحسب، وإنما قضينا على ذكرى هذه الأمراض أيضًا".
wallpapers-virus-viruses-artistic-1920x1080-240x300
[blockquote]قفز الناس إلى خلاصة مفادها أن الفيروس الجديد الغامض هو حيلة جديدة من حيل شركات الأدوية لإنتاج لقاح وبيعه من دون الحاجة إليه، وهم لا يلامون؛ لعدم معرفتهم بحقيقة الصعوبة الشديدة لإنتاج لقاح لأي فيروس تاجي[/blockquote]
بالتالي فلا يمكن أن تروج للقاح جديد ضد فيروس يتسبب بوباء من ناحية وتقلل من شأنه وتأثيره من ناحية أخرى، وهو ما قامت به وزارة الصحة أثناء وباء أنفلونزا الخنازير، فهي فشلت في حملة التطعيمات للحد من انتشار وباء الخنازير في العام ٢٠٠٩ لأنها لم تستطع التفريق بين عدم إثارة الفزع وبين اطلاع الجمهور على تقييم المخاطر الحقيقي، وبالتالي فإن الاعتقاد السائد كان أن هذا المرض هو احتيال من شركات الأدوية مما نتج عنه معدلات تطعيم تعد الأقل عالميًّا. هذا الخلل في إيصال تقييم المخاطر الحقيقي للجمهور وغياب الإحصائيات والتكتيم الإعلامي حينها أدى لكارثة ٢٠١٠ عندما اعتقد الجمهور والطواقم الصحية أن لا وجود لوباء أنفلونزا الخنازير ليفاجأوا بتفشي موسمي في خريف وشتاء ذلك العام؛ مما أدى لتأخر في تشخيص العديد من الحالات وإعلان حالة الطوارئ داخليًا في عدد من العنايات المركزة في المستشفيات حول المملكة، والعديد من الوفيات، مع العلم بأن منظمة الصحة العالمية عندما أعلنت انتقال العالم لمرحلة ما بعد الوباء في أغسطس ٢٠١٠ شددت على أن هذا الفيروس سيظل متواجدًا لعدة سنوات، وسينهج منهج الأنفلونزا الموسمية بحدتها وتسببها بأوبئة موسمية.

نهج الوزارة الاتصالي أثناء وباء أنفلونزا الخنازير كأحد الأمثلة كان أحد العوامل الرئيسة لجعل المملكة في عين العاصفة محليًّا وعالميًّا من تفشي فيروس كورونا المتسبب بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، ولذلك شواهد عديدة، منها قفز الناس إلى خلاصة مفادها أن الفيروس الجديد الغامض هو حيلة جديدة من حيل شركات الأدوية لإنتاج لقاح وبيعه من دون الحاجة إليه، وهم لا يلامون؛ لعدة أسباب: أولها عدم التواصل مع الجمهور وإطلاعهم على حقيقة الصعوبة الشديدة لإنتاج لقاح لأي فيروس تاجي، وأن جميع التجارب السابقة لمحاولة إنتاجه مخبريًّا لم تتجاوز مرحلة الاختبارات الحيوانية لتسبب اللقاح بفشل كلوي لفئران التجارب، وثانيًا ضعف التواصل مع الجمهور عن طبيعة الحالات وطول فترة تنويمها في العنايات المركزة، وعوامل الخطورة المشتركة بين الحالات ونسبة الإماتة العالية للفيروس والتي وصلت لـ ٦٠٪ من الحالات منذ بدء التفشي في أبريل ٢٠١٣.
أحد الشواهد الأخرى لمشكلات الوزارة الاتصالية هو التطمين السابق لأوانه والذي وقعت فيه الوزارة عدة مرات، والذي يعد خرقًا لأصول التواصل مع الجمهور أثناء الفاشيات، فعلى سبيل المثال، قامت الوزارة بإصدار بيان في بداية شهر مايو٢٠١٣ تعلن فيه عن قيامها بالحد من ظهور حالات جديدة لفيروس كورونا بمحافظة الأحساء فقط لتعود وتعلن بعد ثلاثة أيام من البيان عن رصد حالة جديدة ليقفز العدد من ١٠ حالات آنذاك لأكثر من ٣٥ حالة خلال شهرين.

تسعى الوزارة غالبًا لتحسين صورة تعاملها مع الفاشيات عن طريق الإعلان عن الثناء الذي تحصل عليه من المنظمات والمؤسسات الدولية على ما تقوم به مع أن هذا النهج لا يصلح مع الانفتاح الإعلامي الذي نعيشه بأنواعه التقليدي والجديد، فحتى لو امتدحت تلك المؤسسات أداء الوزارة الذي لا يتوافق مع الواقع فإن الواقع غالبًا ما ينتصر ويكون هو المحرك للجمهور في التعامل مع التفشي وفي استجابتهم للوزارة والطواقم الصحية. المصادقة على الأداء لا بد أن تأتي من الجمهور والطواقم الصحية المحلية الذي لا يمكن تحصيله ما لم تكن الوزارة شفافة فيما تقوم به من إجراءات، فالإعلان عن أعداد الحالات والوفيات وأعداد الفحوصات لا يعني شيئًا للفرد كمستهلك للخدمات الصحية أو مقدم لها.

أحد أهم الشواهد على المشكلات الاتصالية هي الإغداق على وسائل الإعلام الأجنبية بالتصريحات والمقابلات من قبل تنفيذيي وزارة الصحة وشحها في وسائل الإعلام المحلية مما أعطى الانطباع لدى الجمهور المحلي بأن الوزارة تعتقد أنهم ليسوا بالقدر الكافي من الوعي لإطلاعهم على الوضع الراهن للتفشي، وأن المجتمع الدولي أهم منهم وهذه ثغرة حساسة وخطرة في التواصل مع الجمهور أثناء الفاشيات، فحينما تستيقظ الوزارة وتعي أنها بحاجة لأفراد المجتمع لمساعدتها في الحد من وباء محتمل عن طريق التزام تعليماتها، أو عدم السفر أو ما إلى ذلك فإنهم على الأغلب لن يستجيبوا لها؛ لأنها لم تقدم لهم بدءًا توعية وثقة، وهذا سيصعب من مهامها، إن لم يجعلها شبه مستحيلة حينها.



القلق من وباء مجهول





أثنت منظمة الصحة العالمية في بيانها المشترك مع وزارة الصحة السعودية على جهود الأخيرة في مكافحة العدوى في بؤر المستشفيات في منطقتي الأحساء والمنطقة الشرقية، وذكرت أيضا أن المعلومات ما زالت مطلوبة لمحاولة معرفة مصدر هذا الفيروس المجهول وطرق انتقاله. وفي نفس اليوم أصدرت منظمة الصحة العالمية مسودة إرشاداتها التوجيهية لمجابهة فاشيات (أوبئة) الأنفلونزا الموسمية -بما فيها فيروس كورونا المتسبب بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية- مبكرًا قبل الانتهاء من صيغتها النهائية بناء على طلب الدول الأعضاء. هذا التزامن بين التصريح والإصدار دلالة على قلق المجتمع الدولي من هذا الوباء المحتمل خاصة وأن مركز التحكم بالأمراض الأمريكي قد سبق مسودة منظمة الصحة العالمية أعلاه بإعلانه حالة التأهب لوباء محتمل. الآن تعد اللحظة الحرجة التي ستشكل علاقة وزارة الصحة مع الجمهور المحلي والطواقم الصحية والمجتمع الدولي، وقد تكون مراجعة خطتها الاتصالية نقطة البداية لأن تقود العالم في مجابهة هذا الفيروس بدلاً من قيادته نحو وباء مجهول.
font change