يوسف القرضاوي.. وجوه متعددة لنتيجة واحدة

يوسف القرضاوي.. وجوه متعددة لنتيجة واحدة

[caption id="attachment_55248704" align="aligncenter" width="620"]الدكتور يوسف القرضاوي الدكتور يوسف القرضاوي[/caption]

حين بلغ الشيخ يوسف القرضاوي السبعين من عمره قرر الدكتور علي المحمدي عميد كلية الشريعة بجامعة قطر سابقا أن يكرم الشيخ القرضاوي، فكان ذلك عبر إعداد كتاب ضخم بعنوان «يوسف القرضاوي.. كلمات في تكريمه وبحوث في فكره وفقهه»، جمع الكتاب بحوث ودراسات مجموعة كبيرة من قيادات الحركة الإسلامية في العالم، وفيه قدم القرضاوي كنموذج للتيسير والاعتدال الموجه للحركة الإسلامية، المستقل الذي لا ينتمي لأي تيار أو تنظيم، وإنما يعمل لصالح الأمة كلها.
الكتاب الذي صدر في 2003 يقع في 1068 صفحة، حوى مقالات ودراسات لأبو الحسن الندوي، ومحمد الغزالي، وحسن الترابي، ومصطفى الزرقا، وعبد الفتاح أبو غدة، كلها حول القرضاوي، ووصفه المستشار السعودي عبد الله العقيل، في مقالة له عنوانها «القرضاوي، فقيه العصر.. رجل المرحلة»، وفيها يقول: «الشيخ القرضاوي عالم مجتهد، وداعية مصلح، وخطيب مفوه، وشاعر مفلق، بل هو مجدد العصر ونابغته، وله الفضل بعد الله في هذا البعث الإسلامي والصحوة الإسلامية الوسطية والتيار الإسلامي الذي يعم العالم خيره».

تمثل هذه الحقبة العصر الذهبي الذي استطاع من خلاله القرضاوي التمدد والتوسع، وصنع اسم كبير لشعبيته التي امتدت على مستوى العالم الإسلامي، إلى درجة أصبح يوصف معها في كل تعريف به بأنه «أحد أبرز علماء السنة في العصر الحديث» تسانده في ذلك العدد الكبير من المؤلفات التي أصدرها، حيث يلحظ بوضوح أنها تتدخل في مواضيع كثيرة، ما بين الفقه، والوعظ، والتوجيه الاجتماعي، وترشيد الصحوة الإسلامية، وفقه الأقليات المسلمة، بل والشعر والأدب والتاريخ، في صورة تتعمد رسم الوجوه المتعددة للقرضاوي التي تسعى إلى تأكيد مرجعيته الشاملة في شتى المجالات.




«الوسطية» كأداة للتسويق





لا يغفل كثيرون الدور الكبير الذي لعبته قناة الجزيرة، وبرنامج «الشريعة والحياة» في تقديم هذه الشخصية التي اعتمدت على مزج خليط من الفقه المعتدل، والتنظير الديني للقضايا السياسية، والصوت الممتد للتحاور مع الطوائف الأخرى.
أصبح كتاب القرضاوي «الحلال والحرام في الإسلام» الذي صدر عام 1959 دستورا معتمدا للفقه التيسيري، بل وأكثر من ذلك يصرح القرضاوي في أكثر من محفل بأنه يخفي كثيرا من مواقفه وفتاواه المعتدلة خوفا من أن يسبب ذلك تشويشا على عامة المسلمين.


[inset_left]
- انتمى القرضاوي لجماعة الإخوان المسلمين في سن مبكرة.. عرض عليه منصب المرشد العام لكنه رفض مفضلا أن يكون ممثلا للإخوان في قطر[/inset_left]


استمرت الحملة التسويقية تعمل على كل الأصعدة، تحركها وتغذيها مكينة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين التي تقدمه كرمز عام للمسلمين، وهو يظهر في العلن كشخص مستقل لا يمانع بين الفينة والأخرى في أن يقدم انتقادات وملاحظات على منهج «الإخوان» حتى يضفي على منهجه مسحة الاستقلال.
أجدت الحملة التسويقية نفعا، وأصبح اسما لا يغيب بحضوره أو بقضيته عن كل المحافل والمؤتمرات الإسلامية، الفقيه الناطق باسم «أهل السنة» وربما الممثل الأبرز لهم، وتتويجا لذلك جاء تأسيس «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» الذي يترأسه، كتنظيم مقنن لهذا الحضور، الذي يسعى إلى أن يوازي به المرجعيات الدينية، سواء داخل الدائرة الإسلامية كالمرجعيات الشيعية، أو كمرجعية الفاتيكان وشخصية البابا في المسيحية.

هذه الحملة المتواصلة من صناعة وتسويق رمز متكامل.. أثمرت، حصل على الكثير من الجوائز، من بينها جائزة العطاء العلمي المتميز من رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لعام 1996، وجائزة السلطان بروناي في الفقه الإسلامي لعام 1997، وجائزة سلطان العويس في الإنجاز الثقافي والعلمي لسنة 1999، وجائزة دبي للقرآن الكريم فرع شخصية العام الإسلامية، بالإضافة إلى جائزة الدولة التقديرية للدراسات الإسلامية من دولة قطر لعام 2008.
وفي ذات العام، احتل القرضاوي المرتبة الثالثة بعد المفكر التركي فتح الله كولن، والعالم البنغالي بمجال الاقتصاد، محمد يونس ضمن أبرز المفكرين على مستوى العالم في قائمة عشرين شخصية أكثر تأثيرا على مستوى العالم لعام 2008، في استطلاع دولي أجرته مجلتا «فورين بولسي» الأميركية، و«بروسبكت» البريطانية على التوالي.



ثمن لحظة الربيع العربي





وحين جاءت لحظة الربيع العربي، تلك اللحظة المناسبة لتحقيق نتائج هذه الصناعة المتواصلة، كانت المرحلة المرتبكة المضطربة الفاصلة في حياة القرضاوي، التي شهدت على مدى ثلاث سنوات صعودا كبيرا، وانتكاسة أكبر، فحين عاد إلى القاهرة التي هرب منها منفيا مستوطنا قطر، وقام يخطب في ميدان التحرير 2011 محييا الثوار، ومهللا بالانتصار، بدأ مؤشر الخطاب يكشف عن صراحته، ويتخلى عن أوهام استقلاله، فقال إن «جماعة الإخوان المسلمين هي أفضل الجماعات الإسلامية الموجودة اليوم»، وحين تقدم مرشح «الإخوان» الدكتور محمد مرسي للرئاسة أفتى القرضاوي بأن التصويت له واجب، واستمر بصراحة حان وقت قطافها بعد سنين من التحضير والإعداد قائلا وموجها حديثه ضد الذين تمردوا على محمد مرسي واصفا إياهم بأنهم «خوارج»، وأثار ضجة كبيرة حين وصف مفتي جمهورية مصر علي جمعة بأنه «عبد للسلطة والعسكر»، لأنه انحاز لصف من انقلبوا على «الرئيس الشرعي» وباعوا دينهم من أجل أرضاء السيسي، حسب قوله.
ويختتم المشهد فصوله سريعا، فبحكم «الإخوان» الذي لم يدم سوى عام واحد، انقلب حال القرضاوي، من خطيب تهتف باسمه الجموع في ميدان التحرير، يؤم المصلين والثوار، إلى رجل ممنوع اليوم من دخول مصر، مطلوب للاعتقال، وفقا لأمر النائب العام الذي وضعه على لوائح «ترقب الوصول» على خلفية بلاغات تتهمه بالتحريض على قتل متظاهرين في أحداث مختلفة.



[blockquote]المتتبع لمسيرة القرضاوي يجد أنه يفقد عن طوره، ويغضب ويحتد حين يتعلق الأمر بجماعة الإخوان المسلمين على الرغم من أنه يؤكد انتهاء علاقته التنظيمية بها، فمن أحداث خلية «الإخوان» في الإمارات التي هاجم فيها القرضاوي حكام الإمارات لموقفها القانوني الحازم منهم، إلى ما جرى أخيرا ومهاجمته لكل من وقف أو ساند الثورة ضد الرئيس المعزول محمد مرسي، في مشهد تخلى فيه القرضاوي عن كل أبجديات المناورة السياسية التي كان يستخدمها، فارتدت لهبها عليه فأحرقت تاريخه وعزلته في خانة بات فيها مذموما مكروها ليس من السلطة ولا النظام، بل من جموع شعب كانوا يستمعون لخطبه ومواعظه وتفاجأوا به اليوم اكتفى أن يكون سيفا مصلتا من أجل جماعة صغيرة انتهى دورها وسقطت في الفشل.[/blockquote]



يختصر الصورة الممثل المصري حسن يوسف الذي صرح لصحيفة «الوفد»، وقال «إن القرضاوي الذي أعرفه قد توفاه الله من زمان، فهو ليس القرضاوي الذي أشاهده اليوم وهو يتهجم على الجيش المصري».

ربما تكون هذه الأيام هي الأشد على القرضاوي في بلده التي باتت لا ترحب به، وتتبرم منه في صفحات إعلامها، حتى اشتكت قناة «الجزيرة» وكتبت عبر موقعها خبرا «حملة متواصلة ضد القرضاوي في الإعلام المصري.. واتهامات متواصلة بالخيانة العظمى، والتحريض على قتل المتظاهرين».
هكذا كان المشهد بسيطا رغم تعقيداته في الماضي، فالفشل الذريع لجماعة الإخوان المسلمين عصف بالقرضاوي أيضا، واتضح ببساطة أنه رغم كل القصص التي تروى عن عالميته واستقلاله قد أصبح أداة صغيرة في ماكينة «الإخوان»، تلك الماكينة التي صنعت ونفخت من هالته، واستطعت أن ترسم صورته ووجوهه المتعددة، ولذلك لم يستطع أن يخرج منها حتى وهو تعصف به وتمزق تاريخه وإرثه وسمعته.
ويبدو أن السامر بدأ ينفض من حوله، حيث نأى أخيرا الشيخ الموريتاني عبد الله بن بيه عن موقعه كنائب لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بعد أن اصطبغ الاتحاد بشخصية القرضاوي وانغمس في الصراعات السياسية الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين.



الشيخ والحركة.. وسر العلاقة





الشيخ الأزهري يوسف مصطفى القرضاوي (ابن القرية والكتاب) كما يصف نفسه في كتابه الذي حوى مذكراته وسيرته ولد في قرية صفت تراب مركز المحلة الكبرى، محافظة الغربية، في سبتمبر (أيلول) 1926. ومن كلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1953 حصل على العالية، ووضع العمامة الأزهرية.
في شبابه المبكر انتمى القرضاوي إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان أحد أهم وأبرز الوجوه بها، تعرض للسجن عدة مرات، فسجن لأول مرة عام 1949 خلال العهد الملكي بمصر، كما جرى اعتقاله ثلاث مرات خلال عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لنفس السبب، قبل أن يجد طريقة فيهرب إلى دولة قطر مطلع الستينات، وهناك بدأت مرحلة أخرى من حياته، حصل معها على الجنسية القطرية، وبدأ في تأسيس الوجود الإخواني في الخليج الذي أصبح له موردا وموجها وقائدا.
تروي بعض المصادر القريبة من القرضاوي، أن «منصب المرشد العام للجماعة قد عرض عليه ولأكثر من مرة، لكنه رفض، لكونه يعتبر نفسه ملكا للمسلمين جميعا، ولا يريد أن يقصر نفسه على حزب أو جماعة، كما أنه لا يحب تقلد المناصب، واستمر يحضر لقاءات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين كممثل لفرع الجماعة في قطر، إلى أن طلب إعفاءه من العمل التنظيمي في الجماعة».


[inset_right]
- سعى القرضاوي إلى تقديم نفسه في صورة مرجعية شاملة للإسلام السني على غرار المرجعيات الشيعية[/inset_right]


ورغم كل الادعاء بأن القرضاوي قد تخلى عن العمل التنظيمي في جماعة الإخوان المسلمين، فإن الباحث المصري حسام تمام في دراسة له بعنوان «القرضاوي والإخوان.. قراءة في جدلية الشيخ والحركة» عام 2008، يقول في مطلعها: «القرضاوي هو ابن خالص لحركة الإخوان المسلمين، فلم يعرف عنه انتماء حركي أو فكري لغير جماعة الإخوان ومدرستها، كما لم يعرف له خروج صريح منها أو عنها. وقد عرف القرضاوي بحركة الإخوان ربما بالقدر الذي عرفت به، وارتبطا معا في كل مراحل العمر كأنك تقرأ تاريخها حين تقرأ مذكراته التي صدرت في ثلاثة أجزاء؛ وكأنه يكتب عن نفسه حين يؤرخ للجماعة في كتابه (الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية). يقترب عمر القرضاوي من عمر الإخوان، وتاريخه يكاد يتطابق مع الفترة الأبرز في تاريخ الإخوان».




font change