سارتر جمعني بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر

سارتر جمعني بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر

حينما نتخيل عصر الرئيس عبد الناصر لا شك أننا سننظر إليه كزعيم جماهيري، وأذكر أنني وأنا طالب في الجامعة في بداية الخمسينات جاء جمال عبد الناصر يزور جامعة الإسكندرية - كلية الحقوق وشعرت وقتها أن خطابه كان أقرب للغة المحاضر الذي يتكلم بهدوء.
وفى هذا العصر كانت علاقته وعلاقة زملائه بمجلس قيادة الثورة بالأميركان جيدة وبالذات مع السفير الأميركي بالقاهرة وقتها جيفرسون كافري، ولم يكن الشباب الجامعي وقتها يؤيد هذا التوجه وأتذكر جيدا هتافات الشباب بحماسهم «يسقط عبيد الأميركان»، ورد عبد الناصر بهدوء شديد واستطاع أن يسيطر على الموقف، ثم ذهب إلى مكتب عميد كلية الحقوق المرحوم المحترم حسن بغدادي واجتمع ببعض الطلاب، كنت من بينهم ونجح أن يكسب مودتنا جميعا.

ومع الوقت تغير أسلوب خطاب عبد الناصر، لا سيما يوم أن ذهب إلى الأزهر بعد العدوان الثلاثي، وكانت كلماته بصوت خطيب مفوه ومؤثر وسمعت الخطاب وأنا طالب بجامعة جرينوبل بفرنسا أعد دبلوم الدراسات العليا، وحولي عشرة طلاب مصريين في حالة سعادة وشعور بالفخر .
وانتهت هذه المرحلة بجلاء قوات الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإسرائيلي، ولن ننسى دور الرئيس الجنرال أيزنهاور الذي قام بدور هام ومشرف للضغط على دول العدوان الثلاثي فأجبرهم على إنهاء الاحتلال.
وكانت فرنسا وقتها تقوم بدور هام جدا لضرب مصر انتقاما من انحياز مصر الكامل لثوار الجزائر من أجل التحرير، وحينما استولت فرنسا على مركب مليئة بالأسلحة المقدمة لشعب الجزائر، قررت قيادة الجيش الفرنسي الذي كان وقتها مسيطرًا على المؤسسات السياسية الفرنسية بإعلان الحرب على مصر بالتحالف مع إسرائيل وإنجلترا.

وجاءت صدفة نادرة للتعرف على الرئيس عبد الناصر شخصيا من خلال زيارتي ومجموعة من الأصدقاء ، جان بول سارتر، وكان عبد الناصر حريصًا على التعرف على الكاتب والمفكر الفرنسي سارتر، الذي كان بمثابة المثل الأعلى لشباب حركات التحرير في العالم، وبعد انتهاء اللقاء ذهبت على أن أنفرد للقاء عبد الناصر الذي كان يعلم أنني «طالب مشاغب من 58 إلى 67 في فرنسا وقال لي: «لماذا المشاغبة ولماذا لا تختار التعاون» فقلت له إن رجالك في فرنسا لم يعرضوا علي التعاون، ولكن لن أكون «مخبرا» لحسابهم أعطيهم أخبار زملائي بالجامعة، وأضفت كدعابة «يحتمل كطموح منى أنني، أستطيع أن أعمل في حياتي شيئًا أحسن من أن أكون مخبرًا..!».

فابتسم عبد الناصر وختم اللقاء وهو يقول لي « لم يتشابه الغد مع الأمس».
وفى اليوم الثاني استدعاني وزير الإعلام محمد فايق ليبلغني، أن السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات أبلغه تعليمات عبد الناصر، أن أقوم بباريس بمسؤولية إدارة مكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط فضلا عن رئاسة منطقة غرب أوروبا للإذاعة والتلفزيون.. وبدأت رحلتي مع الإعلام المصري.
وحينما ننتقل إلى حرب 5 يونيو (حزيران) فإن الأمانة والصراحة تقتضيان أن نعترف أن الخطأ في الحسابات السياسية والعسكرية من جانب عبد الناصر، حينما قرر إغلاق المضايق بالبحر الأحمر كان السبب المباشر في الهجوم الإسرائيلي وأن نسمي هذه المعركة «بالنكسة».
ولكن قدم عبد الناصر بعد أن أعلن التنحي ثم عاد إلى مسؤولية الحكم، بناء على ضغط الجماهير إلى الشعب، تعويضا عن مسؤوليته عن النكسة، بأن قام بدور هائل بإعادة صياغة قيادة الجيش وأن يقود بكفاءة حرب الاستنزاف في معارك هزم فيها الجيش الإسرائيلي مثل معركة إيلات.

وظل عبد الناصر يكافح بجهد كلفه الكثير من صحته حتى لقي ربه وهو يشعر أنه أدى الأمانة.
وكان دور جيش مصر في حرب الاستنزاف دورا مشرفا جعله يكون مستعدا للنصر في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73.

* نعيد نشر مختارات من أهم مقالات المفكر الراحل الدكتور علي السمان التي كتبها لـ « المجلة».
font change