الانتخابات الرئاسية في سنغافورة 2017... نحو ديمقراطية تمييزية

قراءة في مسار العملية السياسية ... ما بعد التعديلات الدستورية

الانتخابات الرئاسية في سنغافورة 2017... نحو ديمقراطية تمييزية

[caption id="attachment_55261539" align="aligncenter" width="1313"]عضو مجلس النواب السنغافوري ونائب الأمين العام المساعد لحزب النقابات وحليمة يعقوب الفائزة بكرسي الرئاسة (غيتي) عضو مجلس النواب السنغافوري ونائب الأمين العام المساعد لحزب النقابات وحليمة يعقوب الفائزة بكرسي الرئاسة (غيتي)[/caption]

في الثالث عشر من سبتمبر (أيلول) 2017 كانت سنغافورة على موعد مع استحقاق رئاسي جديد حظي باهتمام محلى وإقليمي ودولي واسع المدى رغم شرفية المنصب الرئاسي، إذ إن النظام السياسي في سنغافورة نظام برلماني يحظى رئيس الوزراء فيه بالصلاحيات كافة، في حين يظل منصب رئيس الدولة منصبا شرفيا، إذ يتمتع بصلاحيات محددة مثل الإنفاق الحكومي من الاحتياطيات المالية والتعيينات في الوظائف العامة الرئيسية.
ولكن، رغم محدودية الصلاحيات التي يمتلكها رئيس الدولة، فإن هذه الانتخابات اكتسبت أهميتها من عوامل ثلاثة: الأول، أنها الانتخابات الرئاسية الأولى التي جاءت عقب التعديلات الدستورية التي جرت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 وحظيت بأغلبية 77 صوتا مقابل 6 أصوات لحزب العمال المعارض، والتي نصت على الانتخاب الحر لرئاسة الدولة بعد إلغاء النظام الذي كان معمولا به منذ عام 1993 حيث كان يُختار رئيس الدولة من جانب البرلمان، كما نصت كذلك على حجز دورة رئاسية لمكون عرقي بعينه لم يؤهل للترشح أو لم يصل للرئاسة خلال آخر خمس دورات انتخابية أي خلال 30 عاما، حيث تم إقرار حجز الدورة الرئاسية لمرشح من عرقية المالايو.

الثاني، أنها المرة الأولى التي تتولى فيها امرأه، والثانية التي يتولى فيها مسلم من عرقية المالايو منصب رئيس الدولة بعد يوسف إسحاق أول رئيس لسنغافورة (1965 - 1970) وذلك في بلد آسيوي شديد التميز ومتعدد الأصول العرقية.
الثالث، أن محدودية الاختصاصات أو الصلاحيات لا تعني ضعف المركز السياسي لرئيس الدولة، بل ربما المحدودية في هذا الخصوص تعني محدودية في عدد الصلاحيات وليست محدودية في التأثير، فبالنظر المدقق لطبيعة هذه الاختصاصات نجد أنها ذات تأثير على تنفيذ كثير من السياسات التي تنتجها الحكومة، إذ إن الموافقة على الإنفاق الحكومي من الاحتياطيات المالية يظل مقيدا لأية خطط حكومية قد تتجاوز القدرات المالية للدولة في إطار خطتها وموازنتها العامة، وهو ما يتشابه مع السلطات التي يملكها الكونغرس الأميركي في بنية النظام السياسي حينما يحد من قدرة رئيس الدولة على الإنفاق خاصة في المجال الخارجي بما يمثل قيداً رئيسياً على حرية تحركه خارجياً. فضلا عن ذلك، تمثل موافقة الرئيس السنغافوري على التعيينات في الوظائف العامة الرئيسة مجالا آخر لمشاركة الحكومة في تنفيذ سياستها، إذ كما نعلم جيدا النجاح في تنفيذ أية سياسة مرهون بقدرات ورؤى الرؤساء والمديرين في الأجهزة والمؤسسات العامة.
وارتباطا بالنقطة الأولى، ازداد التخوف من أن تنتهج الرئيسة الجديدة سياسة إسناد رئاسة بعض الوظائف العامة الرئيسية إما لعرقية المالايو التي تنتمي إليها أو إلى أية عرقية أخرى بما قد يؤدي إلى سيطرة عرقية معينة أو عرقيات معينة على هذه الوظائف خلال فترة حكم الرئيسة الجديدة البالغة مدتها ست سنوات، وإن كان هذا التخوف مبالغاً فيه لأمرين: الأول، الخلفية السياسية للرئيسة المنتخبة إذ تولت سابقا منصب رئيسة البرلمان وتدرك جيدا حجم التوازنات المطلوبة في إدارة العملية السياسية.
الثاني، أن الصلاحيات التي تملكها الحكومة المنتمية للأغلبية سواء الشعبية أو البرلمانية تحد كثيرا من حرية حركة الرئيس في الإقدام على مثل هذه السياسات، إذ إنه لم يملك سوى حق الفيتو على مثل هذه القرارات وأن التوسع في استخدامه دون مبرر، يُدخل البلد في نفق مظلم من التعنت السياسي الذي قد يؤدي بها إلى الجمود السياسي بتداعياته السلبية على الاستقرار الداخلي، خصوصا في ظل ما تموج به المنطقة بل العالم أجمع من اضطرابات وصراعات عدة تنذر بتفكك كثير من البلدان كما هو الحال في منطقتنا العربية، فالخبرة السياسية والمهنية التي تتمتع بها الرئيسة الجديدة تنأى بنفسها عن الوقوع في مثل هذه المواقف خاصة مع إدراكها حجم الانتقادات التي صاحبت اختيارها.

الانتخابات الرئاسية ما بعد التعديلات الدستورية




في ضوء ما قررته التعديلات الدستورية الجديدة، اتخذت الحكومة السنغافورية برئاسة «لي هسيين لونج» في28 أغسطس (آب) 2017 حزمة من القرارات تضمنت اشتراطات محددة وصارمة للترشح للانتخابات تحددها وتشرف عليها لجنة الانتخابات الرئاسية والتي تصدر بدورها شهادة صلاحية للترشح، حيث أعلن أن لجنة الانتخابات الرئاسية قررت في 13 سبتمبر (أيلول) تحديد موعد لحسم مدى صلاحية المرشحين للمشاركة في العملية الانتخابية المزمع إجراؤها في 23 سبتمبر من الشهر ذاته في حالة إذا ما تم إقرار صلاحية أكثر من مرشح، أما إذا لم يحظ إلا مرشح واحد بصلاحية الترشح للمنصب، تعلنه اللجنة رئيسا للبلاد في ذات اليوم (13 سبتمبر 2017) وهو ما حدث بالفعل؛ إذ تقدم للترشح للمنصب الرئاسي وفق ضوابط اللجنة ثلاثة مرشحين قدموا أوراقهم فعليا وهم:
- حليمة يعقوب (62 عاما)، المسؤولة النقابية لما يزيد على ثلاثين عاما، والرئيسة السابقة للبرلمان (2013 – 2017).
- فريد خان (61 عاما) رئيس إحدى شركات الخدمات البحرية.
- محمد صالح ماريكان (67 عاما) الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات العقارية.
ولكن لم تحظ إلا مرشحة واحدة بموافقة اللجنة الرئاسية لتصبح رئيسة للبلاد دون الحاجة إلا إجراء الانتخابات كما ينص على ذلك القانون، أخذا في الاعتبار أن حسم المعركة لصالح حليمة يعقوب لم يكن مفاجئا للجميع رغم بعض الاعتراضات التي لم توجه لشخصها وإنما للعملية الانتخابية برمتها، حيث دلت المؤشرات كافة على حسمها للمنصب كونها أقوى هؤلاء المرشحين سواء نظرا لموقفها القوى كممثلة عن النساء وأيضًا كممثلة لأقليتها العرقية، فضلا عن تميزها وخبرتها المهنية والسياسية الطويلة وخدماتها الوطنية، إضافة إلى توافر الشروط الدستورية فيمن يتولى هذا المنصب، أهمها أن يكون المرشح من القطاع الحكومي أو العام قد شغل مناصب عامة لمدة ثلاث سنوات على الأقل وهو ما يتوافر في حليمة يعقوب، في حين تطلب الدستور فيمن يترشح ممن ينتمون للقطاع الخاص أن يتولى رئاسة شركة لا تقل قيمتها عن 500 مليون دولار سنغافوري (372 مليون دولار أميركي) من حقوق ملكية حملة الأسهم لمدة ثلاث سنوات وهو ما لم يتوافر في المرشحين الآخرين، فكانت النتيجة محسومة مسبقا.

حليمة يعقوب... لمحة تعريفية عن الرئيسة الجديدة



تنتمي حليمة يعقوب البالغة من العمر (62 عاما) إلى اقلية المالايو، إذ إنها من أب هندي وأم مالاوية، متزوجة من رجل الأعمال اليمني محمد علي الحبشي، منذ عام 1980 وأم لخمسة أبناء. تخرجت من كلية الحقوق جامعة سنغافورة عام 1978، وعملت بالشأن العام على مدار 40 عاما. ومن أهم المناصب السياسية التي شغلتها: عام 2001 كانت نائبة لدائرة التمثيل الجماعي جورونج، ثم عينت كوزيرة للتنمية المجتمعية والشباب والرياضة. كما شغلت منصب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرية عام 2012 لتختتم عملها كرئيسة للبرلمان السنغافوري خلال الفترة (2013 - 2017) أي قبل استقالتها للترشح لرئاسة الدولة.

من غير مبالغة القول إن التعديلات الدستورية رغم إقرارها بالأغلبية، فإن هذا لم يكن موقف الأطراف كافة، إذ قوبلت هذه التعديلات وخصوصا المتعلقة بحجز دورة رئاسية لأقلية عرقية، بمعارضة شديدة من قبل البعض الذي لجأ للطعن عليها أمام القضاء السنغافوري، إذ يذكر أن قام «تان شينج بوك» برفع دعوى قضائية أمام المحكمة العليا في مايو (أيار) 2017 للاحتجاج على قرار الحكومة ومعاييرها الجديدة، وتم رفض الدعوى في 7 يوليو (تموز) واستأنف دعواه في 31 من الشهر ذاته، إلا أن المحكمة بقضاتها الخمسة رفضت الاستئناف في أغسطس 2017 وأيدت قرارات الحكومة. ولكن يظل التساؤل المطروح إلى أي مدى تصب هذه التعديلات الخاصة بانتخاب رئيس الدولة في المسار الديمقراطي الذي تنتهجه سنغافورة؟ ومن الجدير بالذكر قبل الإجابة على هذا التساؤل الإشارة إلى ما حققته سنغافورة من نجاحات متعددة، إذ تعد رابع أكبر مركز مالي في العالم، حيث زاد ناتجها القومي عام 2016 عن 500 مليار. كما يذكر أنها من أغلى مدن العالم من حيث تكاليف المعيشة، إذ جاءت في الترتيب الأول لعامين متتاليين (2014، 2015) وذلك وفقا للتقرير الذي تصدر وحدة المعلومات التابعة لمجلة «الإيكونوميست» في تقريرها السنوي متفوقة على المدن الأوروبية كباريس وأوسلو وسيدني، وهو ما يعني أن التراجع على المستوى الديمقراطي قد يكون له مردود سلبي على الإنجازات الاقتصادية التي حققتها الدولة، ويعد ذلك أهم التحديات التي تواجه الرئيسة الجديدة في كيفية ضمان استمرار الدولة في تحقيق معدلات نمو مرتفعة تحافظ بها على ما تحقق سابقا. صحيح أن المنصب لا يملك إلا صلاحيات شرفية في كثير من سلطاته كما سبق الإشارة، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن هذا المنصب لم يدر بشأنه كثير من الجدل والمناقشات كما جرى أخيرا مع التعديلات الدستورية التي أعادت النظر في كيفية اختيار من يشغله وما إذا كانت هذه التعديلات تصب في مسار العملية الديمقراطية أم تعد انتكاسة على الطريق، وهو أمر يتوقف على تحليل هذه التعديلات بصورة أكثر دقة من جانبين:
الأول، من الأهمية بمكان عدم النظر إلى التعديلات في إطارها الكلي وإنما يجب أن يُنظر إليها من زاويتين: الأولى تتعلق بطريقة الاختيار التي تحولت من الاختيار غير المباشر إلى الاختيار الحر المباشر أي من الديمقراطية غير المباشرة عن طريق البرلمان إلى ديمقراطية مباشرة عن طريق المواطنين، وهو ما يعني عمليا توسيع مساحة المشاركة السياسية للمواطنين ليس فقط لمرة واحدة عند اختيار نواب البرلمان وإنما لمرة أخرى عند اختيار رئيس الدولة، هذا من ناحية،

[caption id="attachment_55261540" align="alignright" width="200"]شاب يحمل لافتة خلال احتجاج ضد انصار حليمة ياكوب اعتراضا على ترشحها لرئاسة سنغافورة ضمن مسيرة ضمت مئات من السنغافوريين الغاضبين من انتصار أول امرأة بكرسي الرئاسة (غيتي) شاب يحمل لافتة خلال احتجاج ضد انصار حليمة ياكوب اعتراضا على ترشحها لرئاسة سنغافورة ضمن مسيرة ضمت مئات من السنغافوريين الغاضبين من انتصار أول امرأة بكرسي الرئاسة (غيتي)[/caption]


ومن ناحية أخرى تمنح التعديلات الدستورية لرئيس الدولة مساحة أكثر لممارسة صلاحياته المحددة والمتمركزة في الرقابة على الحكومة سواء في الإنفاق العام أو التعيينات في المناصب العامة، إذ إنه من الصعوبة بمكان على أي رئيس أن يستخدم سلطة حق الفيتو على قرارات الحكومة المسيطرة على الأغلبية البرلمانية والتي تملك بدورها حق اختياره كرئيس للبرلمان، في حين أن التعديلات الأخيرة حررت الرئيس من قبضة البرلمان والأغلبية المسيطرة عليه، إذ أصبح اختياره مباشرا من المواطن السنغافوري بما يمنحه مزيدا من الثقة والاستقلالية في مواجهة الحكومة، وهو ما يعني تعميقا أكثر للممارسة الديمقراطية بشقيها: الاختيار الحر المباشر من جانب المواطن السنغافوري لمن يتولى منصب رئيس الدولة، وفي الوقت ذاته منح الرئيس حرية الحركة بعيدا عن سيطرة السلطة التنفيذية المهيمنة بدورها على السلطة التشريعية كونها صاحبة الأغلبية البرلمانية. أما الزاوية الثانية في النظر إلى هذه التعديلات، فتتعلق بحجز دورة رئاسية لعرقية معينة لم تصل للرئاسة خلال خمس دورات أي خلال 30 عاما، ورغم ما قد يبدو في هذا التعديل أنه تراجع عن مسار العملية الديمقراطية كونه يضع قيدا على الممارسة الحرة للمواطنين في اختيار من يرونه ملائما لهذا المنصب دون الالتزام بأية قيود وبعيدا عن أية محاصصة لبعض الأقليات، فإن هذا الرأي يفتقر إلى منطقيته، إذ إنه من الصحيح أن الممارسة الديمقراطية يجب أن تكفل المساواة بين الجميع، إلا أن سيطرة الأغلبية على مقاليد الحكم لمدد زمنية طويلة تعني تهميشا للأقليات ولحقوقهم السياسية، فنصبح إزاء ديكتاتورية الأغلبية على حساب الأقلية، ومن ثم تأتي مثل هذه التعديلات لتفسح المجال لضمان وصول الفئات الأقل قدرة على المنافسة وهو ما يسمى في القانون «التمييز الإيجابي» وهو تمييز لصالح الفئات الأكثر عوزا والأضعف كما هو الحال فيما يجري داخل بعض المجتمعات لصالح فئات غير قادرة على المنافسة في الانتخابات كالمرأة وذوي الاحتياجات الخاصة.

مما سبق، نخلص إلى القول إن التجربة السنغافورية في مجال التحول الديمقراطي ليست الأولى من نوعها، إذ سبقتها تجارب دول أخرى حرصت على كفالة حق المشاركة الفعالة لكافة مواطنيها بما يتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم. ولكن يظل التميز الذي يجب أن تقدمه سنغافورة أن لا يؤدي هذا التمييز الإيجابي الذي أقرته التعديلات الدستورية إلى نتائج وخيمة على الاستقرار السياسي الذي ينعكس بدوره على مسيرة التنمية الاقتصادية التي حققتها الدولة، وهو أمر مرهون بالرؤية التي تحملها الرئيسة الجديدة في كيفية إدارتها للمنصب من ناحية، وبمدى تقبل الأغلبية الصينية لدوران المناصب مع الأقليات العرقية التي تشاركها في بناء وطن واحد من ناحية أخرى.

* باحث زائر بمركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة جمهورية أذربيجان. مدير مركز الحوار للدراسات السياسية والإعلامية بالقاهرة.
font change