تداعيات الحضور الإيراني في القارة اللاتينية

العقوبات الأميركية على إيران وفنزويلا

تداعيات الحضور الإيراني في القارة اللاتينية


* لا يمكن فهم الحضور العسكري الإيراني في أميركا اللاتينية بمعزل عن حضورها الاقتصادي والثقافي هناك
* تدعم طهران علنًا نظام مادورو المحاصر من قبل واشنطن، وقد قامت خلال الفترة الأخيرة بتقديم المساعدات لفنزويلا، في صورة قطع غيار وآلات لإعادة تشغيل المصافي المتداعية
* منذ عام 2004، أقامت إيران شبكة واسعة من المنشآت العسكرية في فنزويلا، ووضعت عناصر من فيلق القدس في العديد من السفارات
* الوجود الإيراني في أميركا اللاتينية يواجه في الوقت الراهن تحديات مهمة، مع استمرار حملة الضغط القصوى التي تشنها واشنطن ضد إيران وحليفتها فنزويلا
* تستعد الإدارة الأميركية خلال الفترة المقبلة لفرض المزيد من العقوبات ضد النظامين الإيراني والفنزويلي مع قرب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية في شهر نوفمبر المقبل

في الحادي والعشرين من شهر سبتمبر (أيلول) 2020، أعلنت الإدارة الأميركية فرض عقوبات على وزارة الدفاع الإيرانية بالتزامن مع فرضها عقوبات على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بسبب ما وُصف بدوره في مساعدة برامج الأسلحة الإيرانية. وهو الأمر الذي أثار العديد من علامات الاستفهام حول أسباب قيام إدارة الرئيس دونالد ترامب باتخاذ هذه الخطوة، وتداعيات ذلك على الحضور الإيراني خاصة في شقه العسكري في أميركا اللاتينية.
 
أبرز مظاهر الحضور الإيراني في القارة اللاتينية
لا يمكن فهم الحضور العسكري الإيراني في أميركا اللاتينية بمعزل عن حضورها الاقتصادي والثقافي هناك. وتنوع مظاهر الحضور الإيراني وأبعاده، ومن أبرزها ما يلي:
1- الحضور السياسي: بعد الثورة الإسلامية عام 1979، طورت إيران علاقات وثيقة مع ما أطلق عليه مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون «مثلث الاستبداد» (كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا).
وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حققت إيران تقدمًا ملحوظًا في جميع أنحاء أميركا اللاتينية. واستفادت طهران من تراجع الاهتمام الأميركي بقضايا القارة اللاتينية، وموجة المشاعر المعادية للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، ورغبة بعض دولها في تعزيز استقلاليتها عن الولايات المتحدة، في تأكيد النفوذ الإيراني، وعلى الأخص في البلدان التي كانت فيها الحكومات ذات الميول اليسارية في السلطة، والتي كانت لديها رغبة مشتركة في تحدي الهيمنة الأميركية، انطلاقًا من دعواتها للتضامن بين دول الجنوب.
وقد تعمقت العلاقات بين الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد مع الحكومات في بوليفيا، والبرازيل، وكوبا، والإكوادور، ونيكاراغوا، وكذلك فنزويلا، حيث وقع خلال فترة وجوده في الحكم (20052013) ما يقرُب من 300 اتفاقية مع فنزويلا. وفي غضون 4 سنوات من انتخاب أحمدي نجاد، افتتحت إيران 6 سفارات جديدة في أميركا اللاتينية، بما في ذلك بوليفيا وشيلي وكولومبيا والإكوادور ونيكاراغوا وأوروغواي، بالإضافة إلى السفارات الخمس التي كانت لدى إيران بالفعل في المنطقة.
2- الحضور الاقتصادي: تدعم طهران علنًا نظام مادورو المحاصر من قبل واشنطن، وقد قامت خلال الفترة الأخيرة بتقديم المساعدات لفنزويلا، في صورة قطع غيار وآلات لإعادة تشغيل المصافي المتداعية، وقامت بشحن العديد من الناقلات المحملة بالبنزين للتخفيف من حدة أزمة نقص الوقود. ووفقًا لتقرير «بلومبرغ»، قامت إيران بالحصول على حوالي 500 مليون دولار من سبائك الذهب مقابل الخدمات المقدمة لفنزويلا.
وبينما تبدو هذه المساعدات كأنها استجابة لنداء استغاثة من حليف مقرب، إلا أنها بمثابة تذكير بدور إيران في الأميركتين، وكذلك بالدور المحوري الذي تأمل طهران في قيام كاراكاس بلعبه في إحياء النفوذ الإيراني في المنطقة. وفي هذا الإطار، كشف مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS عن أن فنزويلا «أصبحت رأس الحربة للتوسع الدبلوماسي والتجاري في أميركا اللاتينية».
جدير بالذكر أن تجارة إيران غير النفطية مع أميركا اللاتينية تجاوزت 800 مليون دولار في السنة المالية 2018- 2019، حيث تداولت إيران 1.1 مليون طن من السلع غير النفطية مع دول المنطقة. وكانت البرازيل والأرجنتين وأوروغواي أكبر الشركاء التجاريين لإيران في أميركا اللاتينية.
3- الحضور العسكري: «إنها ليست فكرة سيئة»، هكذا قال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، قبل عدة أسابيع، حول احتمال شراء صواريخ إيرانية، وحينها تصدّر مادورو عناوين الصحف من خلال استحضار صورة الصواريخ الباليستية الإيرانية في نصف الكرة الغربي، الأمر الذي أثار انزعاج العديد من جيران فنزويلا والولايات المتحدة على حدٍ سواء.
منذ عام 2004، أقامت إيران شبكة واسعة من المنشآت العسكرية في فنزويلا، وأقامت عناصر من فيلق القدس في العديد من السفارات، حيث تعمل مكاتب الملحقين العسكريين ككيانات منفصلة داخل هذه السفارات الأجنبية، كما يقوم النظام الإيراني بتدريب أجهزة المخابرات في الدول البوليفارية، وخاصة فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، وتقدم رحلات تدريبية لمسؤولي الدول الأعضاء وكوادر الشباب في سن التجنيد إلى إيران للتدريب على العمليات الإرهابية والحرب غير التقليدية. هذا إلى جانب استضافة إحدى الجزر الفنزويلية معسكر تدريب لإرهابيي حزب الله. وتُشير بعض التقارير الصادرة عن وزارة الدفاع الأميركية إلى أنه من المرجح أن يتخذه الحزب مركزًا لتخطيط عملياته الإرهابية وجمع المعلومات الاستخباراتية ومراقبة الأنشطة الأميركية في المنطقة.
4- الحضور الثقافي: في منطقة تفتقر إلى مجتمع مسلم كبير، تربط إيران بين الشعبوية اليسارية والأفكار الثورية للجمهورية الإسلامية في رسائلها الموجهة إلى شعوب أميركا اللاتينية. ومن خلال شبكة من المراكز الثقافية والمساجد، تتمتع إيران بنفوذ في المجتمعات الشيعية داخل أميركا اللاتينية. وفي حين أن هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى تحول قطاعات من الأميركيين اللاتينيين إلى الإسلام الشيعي، فقد أقامت إيران علاقات مع السكان المسلمين وقادة المجتمع الرئيسيين للمساعدة في إضفاء الشرعية على سياساتها وتوصيل رسائلها الدعائية إلى المجتمعات اللاتينية.
وفي هذا السياق، قامت إيران بإنشاء أكثر من 100 مركز ثقافي يعمل في أميركا اللاتينية، بالإضافة إلى إطلاق قناة «هيسبان تي في» (HispanTV) باللغة الإسبانية في عام 2012. ويمتد المتابعون لهذه القناة في المنطقة من تشيلي والأرجنتين إلى المكسيك. وتسعى طهران إلى الوصول إلى الجماهير اللاتينية التي تشعر بخيبة أمل متزايدة من السياسات الأميركية في المنطقة. وقد تراجعت التوجهات الإيجابية تجاه الولايات المتحدة في سبعة بلدان لاتينية في المتوسط إلى 47 في المائة عام 2017، انخفاضًا من 66 في المائة في عام 2015.
 
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو (إلى اليسار) يلتقي بالمرشد الأعلى لإيران علي خامنئي خلال زيارته في طهران، إيران يوم 22 أكتوبر 2016 (غيتي)

الدوافع الإيرانية لتعزيز حضورها في القارة اللاتينية
تتعدد العوامل التي تدفع إيران إلى تعزيز تواجدها في أميركا اللاتينية، ومن أبرز هذه العوامل:
1- منافسة الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية: من خلال تطوير علاقاتها مع الأنظمة الشعبوية في فنزويلا ونيكاراغوا وكوبا، والتباهي بذلك، تعمل إيران على ترسيخ صورتها باعتبارها منافسًا قويًا للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية باعتبارها الحديقة الخلفية لواشنطن. وفي هذا السياق، فإن قيام طهران بإرسال ناقلات النفط، تتحدى حملة الضغط الأقصى الأميركية للإطاحة بنظام مادورو واستعادة الديمقراطية في فنزويلا.
وبالنظر إلى سعيها إلى ترسيخ صورتها كطليعة محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط، فإنه من خلال تعزيز علاقاتها مع فنزويلا، فإن طهران تحاول تكرار هذا المحور في نصف الكرة الغربي. ومن الواضح أن إيران تتطلع إلى تجنب العزلة الدولية المفروضة عليها، حيث تريد أن تقدم نفسها باعتبارها دولة لا تقف منفردة أمام الضغوط المفروضة عليها، بل تريد أن تظهر أمام العالم وكأن هناك دولا أخرى متحالفة معها. وفي الوقت نفسه، تسعى إيران إلى الإشارة إلى دول أميركا اللاتينية باعتبارها جزءًا من محور المقاومة الذي تعمل على إنشائه. وفي الوقت نفسه، قد تميل إيران إلى استغلال فرصة حضورها المتزايد في القارة اللاتينية لمواجهة ما تعتبره تطويقًا استراتيجيًا من قبل واشنطن وشركائها في منطقة الخليج العربي.
2- الالتفاف على العقوبات الأميركية: تسعى طهران إلى العثور على حلفاء لمساعدتها على التحايل على العقوبات الأميركية. وتوفر المشاركة الإيرانية المتزايدة في أميركا اللاتينية مكاسب اقتصادية لطهران، حيث تعمل على تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول المنطقة. وهذا من شأنه أن يساعدها على التهرب من الضغوط الدولية، كما أن الحضور الإيراني في المنطقة يساعدها في توليد مصادر تمويل بديلة لأنشطتها الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، مستغلة في ذلك، الأوضاع الأمنية الهشة في بعض مناطق ودول أميركا اللاتينية.
وفي هذا الإطار، عمل حزب الله على تكثيف حضوره في المثلث الحدودي بين البرازيل، وفنزويلا، وباراغواي، والذي تمّ استخدامه كملاذ آمن ومصدر تمويل للإرهابيين المرتبطين بحزب الله، وذلك من خلال التحالف مع عصابات الجريمة المنظمة في بعض الدول، من أجل الحصول منها على التمويل، في مقابل ضمانه سلامة مرور قوافل الكوكايين التابعة للعصابات إلى دول الشرق الأوسط. وتكشف التقارير الاستخباراتية الأميركية عن تورط حزب الله وأنصاره والمتعاطفين معه في أنشطة غير مشروعة في أميركا اللاتينية، مثل تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة، وغسل الأموال، وأشكال أخرى من الجرائم العابرة للحدود.
3- دعم البرنامج النووي الإيراني: في 11 يونيو (حزيران) 2019، كشف مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، عن امتلاك فنزويلا ثاني أكبر احتياطي من اليورانيوم في العالم، بعد كندا، وربط بولتون بين هذه الاحتياطيات الضخمة من اليورانيوم والرغبة الإيرانية في إيجاد موطئ قدم لها في فنزويلا، باعتبار أن ذلك وثيق الصلة بالرغبة الإيرانية في امتلاك السلاح النووي وتطويره.
وفي هذا الصدد، تمّ الاتفاق على تسيير رحلات جوية مباشرة بين طهران وكاراكاس من خلال شركة «ماهان اير»، وهي شركة طيران إيرانية خاصة، سبق أن فرضت واشنطن عقوبات عليها  عام 2011، بسبب تقديمها الدعم المالي للحرس الثوري الإيراني. ويخشى المسؤولون الأميركيون من أن الرحلات الجوية الإيرانية إلى فنزويلا قد تُستخدم في نقل أفراد ومعدات عسكرية إيرانية إلى فنزويلا.
 
وزير الخارجية الفنزويلي خورخي أريزا (يسار) ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، يزوران مقر الأمم المتحدة في مانهاتن، خلال الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة (غيتي)

الدور الإيراني وحدود فعاليته
تنظر الإدارة الأميركية والعديد من حكومات أميركا اللاتينية إلى المحاولات الإيرانية المتواصلة لتعزيز حضورها هناك باعتباره يُمثل تهديدًا لأمنها ومصالحها القومية، وقد كان لزيادة الوجود الإيراني في القارة اللاتينية تداعيات عدة، وإن كانت هناك العديد من القيود التي تحول دون ترجمة هذا الحضور إلى نفوذ حقيقي، وذلك كما يتضح فيما ما يلي:
1- استهداف المصالح الأميركية: تسعى طهران من خلال تعزيز حضورها العسكري في أميركا اللاتينية إلى تهديد الأمن القومي الأميركي واستهداف مصالح واشنطن في المنطقة. كما أنها تعمل على تدشين منصة لتنفيذ هجمات غير متكافئة ضد الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية. وفي هذا الإطار، كشف مسؤولون أميركيون النقاب عن أن عملاء إيرانيين حاولوا تجنيد أعضاء في عصابة الاتجار بالمخدرات المكسيكية «زيتاس» لاغتيال السفير السعودي في واشنطن في أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
وبالرغم من محاولات إيران تهديد الأمن القومي الأميركي في نصف الكرة الغربي، فإن حسابات طهران لاستخدام القوة العسكرية على بعد 450 كيلومترًا من الحدود الأميركية تختلف بشكل صارخ عن تلك التي تدفعها إلى استفزاز واشنطن في الخليج العربي. لذا فإنه من المحتمل أن لا تستهدف طهران الأراضي الأميركية بشكل مباشر، انطلاقًا من أميركا اللاتينية. وبدلاً من ذلك، فإن إيران تستفيد من علاقتها مع فنزويلا في إضفاء الشرعية على محور المقاومة المناهض للولايات المتحدة. كما يُسهم دعم طهران المتزايد لكاراكاس في تذكير واشنطن بأنها لا تتحدى المصالح الأميركية في الشرق الأوسط فحسب، بل تتحداها أيضًا في «فنائها الخلفي».
2- تهديد الأمن الإقليمي اللاتيني: تستغل إيران دول أميركا اللاتينية في إرسال مقاتلين (على وجه التحديد من حزب الله) وإنشاء خلايا إرهابية وتدريب الميليشيات المسلحة في القارة اللاتينية، وهو ما مكنها من تهديد أمن واستقرار بعض دولها، وكان في مقدمتها الأرجنتين التي شهدت أكبر عمليتين إرهابيتين في تاريخها المعاصر خلال تسعينات القرن العشرين، وذلك عندما استهدف تفجير إرهابي، السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس، مما أسفر عن مقتل 29 شخصًا وإصابة 242 آخرين وذلك في 17 مارس (آذار) 1992.
بالإضافة إلى وقوع تفجير إرهابي ثان في 18 يوليو (تموز) 1994، استهدف مبنى جمعية الصداقة اليهودية- الأرجنتينية في بوينس آيرس. وعقب سنوات من التحقيقات، تمَّ توجيه الاتهام للحكومة الإيرانية وحزب الله بالمسؤولية عن تنفيذ التفجيرين.
3- دعم النظم التسلطية: تقوم إيران من خلال تقديمها المساعدات لبعض النظم الاشتراكية في أميركا اللاتينية وفي مقدمتها فنزويلا، بتوفير شريان حياة لتلك النظم التي تعاني من الضغوط والعقوبات الأميركية. وتُمثِّل شحنات البنزين الإيرانية الأخيرة إلى فنزويلا التزامًا متجددًا بين البلدين، وكلاهما يُعاني من عزلة مالية ودبلوماسية متزايدة. ومع ذلك، فإن هذه العلاقة ليست جديدة، وقد أصبحت تكتيكية أكثر منها استراتيجية.
لذلك لا ينبغي أن يُنظر إلى المساعدات الإيرانية لفنزويلا على أنه تُمثِّل تهديدًا لحملة الولايات المتحدة ضد مادورو. ولا تزال إيران وفنزويلا يتعاونان أقل بكثير مما كانا عليه خلال سنوات حكم الرئيس الفنزويلي السابق هوغو شافيز. علاوة على ذلك، فإن شحنات البنزين الإيرانية محدودة للغاية لتلبية طلب فنزويلا المتزايد، كما أن إيران غير قادرة مؤسسياً وتجارياً على أن تحل محل شركة روسنفت الروسية بصفتها شريان الحياة لنظام مادورو، وذلك عقب فرض واشنطن عقوبات على الشركة الروسية بسبب علاقاتها مع شركة النفط الفنزويلية الحكومية، الأمر الذي دفع روسنفت إلى إنهاء عملياتها في فنزويلا، وبيع الأصول المرتبطة بأنشطتها إلى شركة مملوكة للحكومة الروسية.
 
وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف (الثاني إلى اليسار) يلتقي بوزير الخارجية الفنزويلي خورخي أريزا (يمين) في مقر وزارة الخارجية في العاصمة طهران، 20 يناير 2020 (غيتي)

أبرز الجهود الأميركية للتصدي للحضور الإيراني
بذلت الحكومات الأميركية المتلاحقة، وفي مقدمتها حكومة الرئيس ترامب، جهودًا حثيثة لمحاصرة حضور إيران في أميركا اللاتينية، ومن أبرز هذه الجهود ما يلي:
1- استهداف حزب الله: عملت الإدارة الأميركية على ترجمة القلق الأميركي المتنامي من تزايد نفوذ حزب الله السياسي والعسكري في أميركا اللاتينية إلى بعض الخطوات العملية. وفي هذا السياق، صنفت وزارة العدل الأميركية في أكتوبر 2018، حزب الله باعتباره من أكبر خمس منظمات إجرامية عبر وطنية في أميركا اللاتينية.
2- حشد الدعم اللاتيني: عملت الولايات المتحدة من خلال عقد الاجتماعات الثنائية ومتعددة الأطراف مع بعض دول القارة اللاتينية على تنسيق جهود تلك الدول من أجل التصدي بشكل جماعي لأنشطة حزب الله الإرهابية وغير المشروعة في نصف الكرة الغربي. ومنذ منتصف عام 2019، اتخذت أربع دول لاتينية خطوات لدعم أجندة الضغط القصوى لترامب من خلال تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية. وفي يوليو 2019، كانت الأرجنتين أول من فعل ذلك، تلتها باراغواي في الشهر التالي. وفي أوائل عام 2020، اتخذت هندوراس وكولومبيا الخطوة نفسها. ويعتقد بعض الخبراء أن بوليفيا والبرازيل وغواتيمالا ستصنف حزب الله ككيان إرهابي قريبًا، كوسيلة لتأمين علاقة أقوى مع الرئيس ترامب.
3- العقوبات الأميركية الأخيرة: تركز الإدارة الأميركية الحالية كافة جهودها على قطع علاقات فنزويلا مع إيران. وتؤكد تهديدات إدارة ترامب الأخيرة باستخدام القوة العسكرية لمنع ناقلات النفط الإيرانية من الوصول إلى فنزويلا، إلى أي مدى ينظر البيت الأبيض إلى نمو العلاقات الإيرانية الفنزويلية على أنه تهديد خطير بالنسبة لها.
وقد اتهم مايكل كوزاك، القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية لمكتب شؤون نصف الكرة الغربي بوزارة الخارجية الأميركية، كاراكاس باستيراد «البنزين الإرهابي» الإيراني. لذلك فقد صادرت إدارة ترامب في وقت سابق من شهر سبتمبر (أيلول) 2020، شحنات وقود على متن أربع ناقلات كانت متجهة إلى فنزويلا، وفرضت عقوبات على شركة صينية كانت تساعد شركة «ماهان» الإيرانية للطيران، التي نقلت معدات لإعادة بناء مصفاة تكرير نفط في فنزويلا.
وفي الإطار ذاته، أعلنت الإدارة الأميركية مؤخرًا أنها ستعاقب وزارة الدفاع الإيرانية والرئيس الفنزويلي لدوره في مساعدة برامج الأسلحة الإيرانية، كما قررت فرض عقوبات جديدة على 27 كياناً وفرداً إيرانياً في قطاعات الأسلحة النووية والصاروخية والتقليدية. وتتضمن العقوبات أمراً تنفيذياً وقعه ترامب يستهدف الجهات التي تشتري أو تبيع أسلحة تقليدية لإيران.
وجاء تحرك إدارة الرئيس دونالد ترامب ضد طهران في هذا التوقيت بالتحديد بسبب الانتهاء الوشيك لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على إيران، إضافة إلى سعي ترامب إلى إرسال رسالة إلى مختلف الأطراف الدولية مفادها أنه إذا قامت بشراء أو بيع أسلحة لإيران، فسوف تواجه عقوبات أميركية.
 
وزارة الدفاع الإيرانية تعرض صاروخ "الشهيد أبو مهدي" في مكان مجهول يوم 20 أغسطس (أسوشييتد برس)

مستقبل الحضور الإيراني في القارة اللاتينية
في ضوء العقوبات الأميركية المفروضة على إيران والرئيس الفنزويلي، يمكن القول إن مستقبل التواجد الإيراني في أميركا اللاتينية سوف يتحدد بناءً على عدة عوامل ومتغيرات، من أهمها:
1- استمرار نظام مادورو: من المرجح أن تجد إيران صعوبة كبيرة في إنجاح خططها إذا انهار النظام الحاكم في فنزويلا، سواء بسبب الضغوط الخارجية أو الداخلية. وإذا انهار نظام مادورو، يمكن أن تكون كوبا ونيكاراغوا هي التالية، وبذلك ينهار شركاء إيران الباقون في نصف الكرة الغربي.
لذا، يأتي التركيز الإيراني على مساعدة صناعة النفط الفنزويلية، التي توفر 90 في المائة من دخل البلاد. وتُظهر الشحنات الأخيرة من النفط الإيراني إلى فنزويلا، ونقل الذهب الفنزويلي إلى طهران عبر الطائرات الإيرانية التزام طهران الشديد تجاه شريكتها على الرغم من العقوبات الأميركية والمسافة الجغرافية البعيدة.
وبالتزامن مع الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها فنزويلا، فإنها تعاني من أزمة إنسانية طاحنة مع تعطل شبكة الكهرباء، وتعثر توزيع الغذاء، وانتشار الفقر والجوع، وتردي النظام الصحي. ومع تراجع الإيرادات الحكومية، في ظل ضعف قدرتها على استخراج وتصدير النفط، فقد لا تتمكن في المستقبل من شراء المواد الغذائية والأدوية، التي تستورد معظمها في الوقت الحالي. وقد تكون روسيا والصين على استعداد لتقاسم بعض العبء مع إيران لحماية بصمتهما الجيوسياسية في أميركا اللاتينية.
2- القدرة على مواجهة الضغوط الأميركية: يتحدد جانب أساسي من قدرة إيران على الاستمرار في الانخراط في أميركا اللاتينية على مدى نجاحها في الاستجابة المرنة للضغوط الأميركية، ومدى وجود دعم ومساندة دولية للعقوبات الأخيرة المفروضة على إيران والرئيس الفنزويلي.
وبالفعل، تسببت العقوبات الأميركية على فنزويلا وإيران في خفض عائداتهما من صادرات النفط، مما أدى إلى خسارة أكثر من ثلثي قيمة الريال الإيراني وارتفاع حجم العجز المالي في طهران، كما فقدت 150 مليار دولار من إيراداتها بسبب العقوبات الأميركية وفقًا لتصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني. وفي الوقت نفسه، أدت العقوبات الأميركية إلى خفض صادرات فنزويلا من النفط إلى أقل من 400 ألف برميل يوميًا، وهو الأدنى منذ حوالي 80 عامًا. مما أدى إلى معاناة فنزويلا من أكبر انكماش اقتصادي في تاريخها الحديث، وارتفاع معدل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة.
وفي هذا الإطار، يمكن أن تؤدي حملات الضغط القصوى الأميركية المشددة ضد كلا البلدين إلى تقليص التعاون العسكري بينهما ومنع وصول الصواريخ الإيرانية إلى نصف الكرة الغربي. ومع ذلك، فإن انتهاء حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على إيران في أكتوبر قد يؤدي إلى إزالة عقبة رئيسية أمام خطط البلاد لتصدير صواريخ إلى فنزويلا.
3- فوز ترامب في الانتخابات الأميركية: إذا كان ترامب سيحصل على فترة ولاية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فمن المحتمل أن تواصل إدارته جهودها للإطاحة بحكومة مادورو مما قد يؤدي إلى طلب كاراكاس المساعدة العسكرية من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث يمكن نقل تكنولوجيا الصواريخ الإيرانية إلى فنزويلا من أجل تعزيز دفاعات الدولة الأميركية الجنوبية في المستقبل. ومن خلال إقامة علاقات أقوى مع حكومة مادورو، من المرجح أن يتمكن الإيرانيون من تعزيز قدرتهم على إجبار الولايات المتحدة على التعامل مع رد فعل غير متوقع في نصف الكرة الغربي في حالة استمرار «الضغط الأقصى» على طهران في منطقة الشرق الأوسط.
4- التحول نحو اليسار: بالرغم من الضغوط التي تمارس على إيران وفنزويلا وغيرهما من الدول المتحالفة مع طهران، والتي يمكن أن تتسبب في إضعاف العلاقات بينها، إلا أن العلاقات العسكرية والمالية والصناعية المشتركة، ستظل كافية لزيادة الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها في القارة اللاتينية، خاصة إذا تحولت دول القارة مرة أخرى إلى اليسار الراديكالي، وذلك في ظل استعداد بعضها لإجراء انتخابات رئاسية خلال العامين المقبلين، ومنها: بوليفيا، وشيلي، والإكوادور، وهندوراس، ونيكاراغوا، وبيرو، والبرازيل، وكولومبيا.
ويرتبط تحول دول أميركا اللاتينية من اليمين إلى اليسار، بقدرة الحكومات اليمينية الموجودة حاليًا في السلطة على مواجهة الأزمات المتلاحقة التي تواجهها بلدانهم، والتي تفاقمت بفعل التأثيرات السلبية لأزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19).
ومن جملة ما سبق يمكن القول إن الوجود الإيراني في أميركا اللاتينية يواجه في الوقت الراهن تحديات مهمة، مع استمرار حملة الضغط القصوى التي تشنها واشنطن ضد إيران وحليفتها فنزويلا، وتتأكد هذه التحديات مع استعداد الإدارة الأميركية خلال الفترة المقبلة لفرض المزيد من العقوبات ضد النظامين الإيراني والفنزويلي مع قرب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية في شهر نوفمبر المقبل.
* باحثة متخصصة في شؤون أميركا اللاتينية
 

 
font change