معركة على تسجيل ملكية أكلات شعبية في المحافل الدولية

معركة على تسجيل ملكية أكلات شعبية في المحافل الدولية

[caption id="attachment_55255277" align="aligncenter" width="984"]	الشيف اللبناني رمزي شويري ومساعده يحملان كرات من الفلافل المقلية تمهيدا لأضافتها إلى أكبر صحن فلافل في العالم يزن نحو 174كيلو غرام وتسجيل رقم قياسي جديد يضاف الى موسوعة “غينيس” – بيروت – مايو 2010 الشيف اللبناني رمزي شويري ومساعده يحملان كرات من الفلافل المقلية تمهيدا لأضافتها إلى أكبر صحن فلافل في العالم يزن نحو 174كيلو غرام وتسجيل رقم قياسي جديد يضاف الى موسوعة “غينيس” – بيروت – مايو 2010[/caption]

العلاقة بين الطعام والهوية قديمة جديدة، فكتب التاريخ مليئة بذكر «الطعام الشعبي» لكل الأمم تقريبا، والطعام في كثير من الديانات إما جزء من طقوس دينية يمارسها أصحابها بوصفها «مقدسة»، أو موضوع أحكام تشريعية تحل وتحرم. وعلى امتداد التاريخ كانت الأمم - خاصة ذات التاريخ الحضاري العريق - تتفنن في إعداد الطعام بحيث يتجاوز دوره مجرد الإشباع وسد الرمق، ليصبح نوعا من «الفن»؛ فالأول يشار إليه بلفظ «فود»، والثاني يشار إليه بلفظ «الكويزين» (أي فن إعداد الطعام). وحتى ما يقرب من قرنين من الزمان كانت رموز الهويات الأخرى في معظم أنحاء العالم ضيفا مرحبا به غالبا، أيا كان مصدرها، وكان موضوعا للتندر وأحيانا الاحتفاء، لكن تحولات ثقافية وسياسية شهدها العالم جعلت الطبيعة المضيافة التي كانت غالبة على معظم شعوب العالم تتحول إلى حساسية متفاوتة الحدة تجاه كل رمز يشير إلى وجود الآخر، وضمن ذلك الطعام.

تعميق الهويات




من المفارقات التاريخية المدهشة أن انتشار وسائل الإعلام وقدرتها المتصاعدة على نقل الصورة من كل مكان في العالم كانت مرشحة لأن تخلق مشتركات عامة عالمية، فإذا بها تعمق الخصوصيات على نحو أثار استغراب غير قليل من المتخصصين في الإعلام، ويعزو البعض ذلك إلى حالة «تسييس» لكثير من مفردات الحياة انتشرت في كثير من أنحاء العالم. ومع ظهور دعوة العولمة، بدأت أمم كثيرة ترد عليها بالرفض العملي، من خلال الصراع على ملكية «رموز الهوية»، وكثير منها من الطبيعي أن يتشابه أو حتى يتطابق عبر الأمم والمجتمعات. وفي يوليو (تموز) 2008 نظمت كلية إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الأميركية بالتعاون مع وزارة السياحة اللبنانية، في حرم الجامعة في بيروت، ندوة بعنوان: «الطعام هوية».. تأكيدا لهوية الأطعمة اللبنانية، ولا سيما الفلافل والفول والحمص والتبولة وسواها.

وأخيرا، عرف العالم ربما للمرة الأولى حربا على تسجيل ملكية رموز في المحافل الدولية، وقبل سنوات، عد خبراء منظمة «يونيسكو» فن الطعام والوجبة الفرنسية بطقوسها وطريقة عرضها تفي بالشروط المطلوبة لإدراجها على القائمة الشهيرة لتراث الإنسانية الثقافي غير المادي. وكثير من الفرنسيين يعدون أن «فن الطبخ جزء من الثقافة»، وكان فن الطعام الفرنسي ضمن رموز فرنسية أخرى ضمنها «شغل الدنتيل». واللجنة التي ناقشت الطلبات الفرنسية ناقشت أيضا 51 طلبا بينها «صلبان حجرية في أرمينيا» و«الفلامنكو الإسباني» و«العلاج بالإبر الصينية»، و«فن صناعة السجاد في أذربيجان». وفي فرنسا أيضا، أصبح هناك لأول مرة «ماجستير العلوم في الهوية الغذائية»، يدرس المنتجات الغذائية المحلية والإقليمية والتقليدية، وكيفية تسويق المنتجات الغذائية التقليدية في السوق العالمية. وما هذه البادرة سوى ملمح واحد من ملامح ما يسميه بعض الباحثين «الهوية الغذائية»، حيث يجري استكشاف سمات مميزة لكل مطبخ وطني - وأحيانا لكل مجموعة مطابخ متشابهة - ليصبح الطعام ضمن الشارات المميزة للهوية، وهنا تصبح هناك «ثوابت»، ويحدث صراع على ملكية الرموز وتظهر تواريخ متناقضة (أو متشاجرة) حول أصل هذه الوجبة أو تلك.


كانت الفلافل إحدى أكثر الأكلات المشرقية استفادة من العولمة حيث انتشرت (بعيدا عن ساحات الصراع حول رموز الهوية)، وأثبتت أنها وجبة قادرة على إرضاء أذواق شعوب مختلفة

وعندما أعلن الممثل الفرنسي المعروف جيرار ديبارديو الموصوف بأنه «غول أكل» وذواق وصاحب شغف كبير جدا بالمطبخ الفرنسي أن يهاجر إلى روسيا ويحصل على جنسيتها، كان من بين ما اهتمت الصحافة أن تستطلع رأيه فيه، الوضع العالمي في صراعات المطابخ الأكثر شهرة!
جيرار ديبارديو قال إن المطبخ الفرنسي معروف وذائع الصيت، منذ القرن الـ17، ونال اهتماما عالميا بطريقة التقديم والصحون التي يقدمها، لكنه الآن ليس في مكانه الأول، وهو الآن في المرتبة الـ20 أو الـ25 في قائمة المطبخ العالمي الأكثر شهرة، مضيفا أنه يعتقد أن المطبخ الياباني، يليه الإيطالي، في المطابخ الأكثر شهرة عالميا.
وفي هذا المناخ المتحفز دفاعا وهجوما حول رموز الهوية، أصبحت «الوجبة الشعبية» موضوع صراع لا يخلو من طرافة!

الفلافل.. الطعمية.. الباجية


الفلافل هذا الطعام الشائع في نطاق يشمل مصر والسودان (وفيهما تسمى الطعمية) والأردن وسوريا واليونان ولبنان والعراق والسعودية واليمن (وفيها تسمى الباجية) فعلت به العولمة الأفاعيل. والفلافل على الأرجح اخترعها الأقباط المصريون كأكلة تأخذ مكان اللحوم أيام الصيامات المسيحية، ووفقا لاجتهاد تفسيري لغوي، فإن الكلمة نفسها قبطية مكونة من ثلاثة أجزاء: «فا»، «لا»، و«فل»، وتعني: «ذات الفول الكثير». ووفقا لهذا الأصل التاريخي، انتشرت الفلافل من مصر إلى العالم. ومن البديهي أن تكون هذه الرواية التاريخية - معها هذا التأويل اللغوي - موضوع رفض أو حتى «توثيق مضاد» يرجع هذا القرص المثير للجدل إلى لبنان أو الأردن.. أو حتى دولة غير عربية.

[caption id="attachment_55249755" align="alignleft" width="267"]- رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك يأكل شطيرة الفلافل خلال زيارة سابقة لبلدة شمال كريات شمونة الاسرائيلية – (صورة أرشبفية - مايو/عام 2000) - رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك يأكل شطيرة الفلافل خلال زيارة سابقة لبلدة شمال كريات شمونة الاسرائيلية – (صورة أرشبفية - مايو/عام 2000)[/caption]

وفي مصر، تنتشر مطاعم الفلافل بشكل لا يضاهيها من حيث العدد نمط آخر من المطاعم على الإطلاق، فهي في الأحياء الشعبية وأحياء الطبقة الوسطى والأحياء الراقية وكثير من الفنادق والمولات. ومنذ الربع الثاني من القرن الـ20 عرفت القاهرة مطاعم كبيرة لا تنقصها الفخامة تقدم الفلافل طبقا رئيسا، وبالطبع فإن أكثرها شهرة على الإطلاق «التابعي الدمياطي» (تأسس عام 1926) وبقي حتى سنوات قليلة مضت دون فروع، لكنه الآن سلسلة متنامية، وهناك أيضا في وسط القاهرة مطاعم فلافل شهيرة أهمها: «فلفلة» و«آخر ساعة» وسلاسل مثل: «جاد» و«الشبراوي». وبعض هذه السلاسل امتد في دول خليجية ليقدم للمصريين العاملين فيها وجبات مصرية بمذاق مصري تشبع حنينهم إلى المطبخ الوطني المصري.
وبعد مصر، ربما يكون الأردن أكثر الدول العربية استهلاكا للفلافل، قياسا بعدد السكان. وأخيرا في 2013، نشرت خريطة للعالم على موقع «دوغهاوس » ترمز لكل دولة بما يميزها، وفيها جرت الإشارة إلى المملكة الأردنية بـ«قرص فلافل». وحسب دراسة إحصائية أدرنية يستهلك الأردنيون ثلاثة ملايين حبة فلافل و198 ألف صحن يوميا. وتعد وجبة الفلافل والحمص والفول الوجبة الرئيسة لفطور الأسر الأردنية.
ويبلغ استهلاك الأردنيين من الفلافل والحمص والفول (1174) مليون حبة وصحن سنويا، وفقا لأرقام دائرة الإحصاءات العامة. وبحسب هذه الدراسة يجري استهلاك 1.1 مليار حبة فلافل، و72.29 مليون صحن حمص وفول سنويا، بمعدل 90.57 مليون حبة في الشهر الواحد، بينما أظهرت الأرقام أن 198 ألف صحن حمص وفول يوميا توجد على موائد الأردنيين، وهو ما يعادل 5.09 مليون صحن شهريا. ويتجاوز عدد مطاعم الفلافل عشرة آلاف مطعم.

وفي الخارطة المشار إليها سلفا لم ينفرد الأردن بالإشارة إليه برمز من المطبخ، فقد شاركته المملكة المغربية في الإشارة إليها بالأكلة الأكثر انتشارا فيها «الكسكس». وكان رمز تركيا «المشمش»، فيما كان رمز اليونان «زيت الزيتون».

حرب الفلافل




وقبل زيارة للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى إسرائيل في 2013، أعلن عن إعداد مأدبة من «الطعام اليهودي» للرئيس تتضمن «الفلافل»، فقامت الدنيا ولم تقعد في فصل جديد من معركة عمرها سنوات. وبعد أن أعد طاهٍ إسرائيلي في مدينة نيويورك ما وصفه بأكبر قرص فلافل في العالم، أعلنت لبنان في مايو 2010 استعدادها لصنع أكبر «عجينة فلافل» في العالم، وتبلغ الكمية 5 أطنان من عجينة الفلافل، تنتج ما يساوي 130 ألف قرص فلافل، بعد أن سجلت أكبر صحن حمّص في العالم، بزنة 10452 كيلوغراما، بما يوازي مساحة البلاد البالغة 10452 كيلومترا مربعا. ومع احتدام الصراع حول الفلافل لم تفلت بعض وسائل الإعلام العربية حديث دانيال شابيرو سفير أميركا لدى إسرائيل (اليهودي الإصلاحي) عن أنه يحب التجول مع زوجته وبناته الثلاث في شوارع تل أبيب، وهم يأكلون سندوتشات الفلافل، وفي امتداد للصراع في عواصم غربية يُشار إلى وجود شارع في باريس أغلب سكانه يهود، واسمه دي روز، تنتشر فيه مطاعم الفلافل، وهي مطاعم تقدم «أكلات يهودية».

عولمة الفلافل




على الجانب الآخر، كانت الفلافل إحدى أكثر الأكلات المشرقية استفادة من العولمة حيث انتشرت (بعيدا عن ساحات الصراع حول رموز الهوية)، وأثبتت أنها وجبة قادرة على إرضاء أذواق شعوب مختلفة؛ ففي أميركا مثلا، بدأت في المطاعم العربية بمدينة فيلادلفيا بهدف جذب المبتعثين العرب، بعد أن كانت معظم هذه المطاعم العربية تميل إلى الطابع الأميركي للوجبات السريعة، ولاحقا، ازداد الطلب على هذه الوجبات من العوائل الأميركية، والطلاب الآسيويين، الأمر الذي جعل المنافسة تشتد بين هذه المطاعم، مما حدا بها إلى استئجار أكشاك لبيع هذه الوجبات العربية عند الجامعات وعلى الطرقات الرئيسة والمهمة، وأصبح الإقبال عليها كبيرا من الجميع. وفي نيويورك يعتبر «مأمون» وهو من أصل سوري من أشهر منتجي الفلافل، وله مطعم معروف في مانهاتن. كما اشتهر سوري آخر بتقديم هذه الوجبة، وامتد مشروعه الناجح حتى بلغ كثيرا من الولايات، وتسمى مطاعمه «سلسلة كافييه داماس».


[inset_right]يستهلك الأردنيون ثلاثة ملايين حبة فلافل يوميا.. ويتجاوز عدد مطاعم الفلافل في عمّان إلى نحو عشرةآلاف مطعم[/inset_right]


ويروي الأستاذ الدكتور عصام سليمان الموسى قصة طريفة، وموحية أيضا، عن صلة «الفلافل» بصورة العرب في المجتمع الأميركي؛ انزعجت سيدة أميركية أثناء حملتها للانتخابات النيابية عندما اكتشفت أن بعض المدارس الأميركية تقدم الفلافل ضمن وجبة الطعام لطلبتها، فطالبت في أحد البرامج التلفزيونية بوقف تقديم الفلافل للطلبة.. لماذا؟ لأن الفلافل (كما قالت هي) ذات مذاق شهي يجعل الطلبة يحبونها، وهي تخشى إذا عرفوا أنها عربية الأصل أن تتحسن لديهم الصورة العربية السلبية!
وفي مرحلة تالية من «عولمة الفلافل»، دشنت سلسلة مطاعم «جست فلافل» Just Falafel)) أول فرع لها في أبوظبي عام 2007، وكان منفذ الوجبات السريعة يقدم ثلاثة أنواع من سندوتشات الفلافل؛ تقليديا، وعلى الطريقتين اليونانية والهندية. وبعد سنوات أصبحت الشركة تقدم عشرة أنواع بأساليب عالمية مختلفة، ضمنها «الأسلوب الياباني» الذي يستخدم خبز البيتا، وهي لاحقا امتدت إلى كوفنت غاردن بلندن آملة أن تفتتح ما يقرب من 20 فرعا في جميع أنحاء المملكة وآيرلندا، وضمن ذلك مدينتا كمبردج وإيكستر.


font change