السعودية تساند مجتمعاتها الريفية الصغيرة

دعم المحاصيل النقدية الواعدة وإنعاش صغار المزارعين بالدعم العيني والتقني

مزارع سعودي داخل مزرعة بن في منطقة الداير، إحدى محافظات جازان، في المملكة العربية السعودية (غيتي)

السعودية تساند مجتمعاتها الريفية الصغيرة

جدة: حتى وقت قريب، كانت قطاعات النفط والصناعة والتعليم والتقنية السعودية، تستحوذ على حصة الأسد من الحراك التنموي السعودي، إلا أن خطوات التحول الاقتصادي السعودي بالعزوف عن الريعية نحو الإنتاج غير النفطي والضرائب الاستهلاكية والمبادرات الفردية والجماعية منذ إطلاق رؤية المملكة 2030، أضافت قطاعات جديدة على الحراك التنموي مثل السياحة والترفيه والفنون. كما شملت فئات اجتماعية أوسع مثل تعزيز حضور المرأة والاهتمام بالمجتمعات الريفية وصغار المنتجين الزراعيين.

صحيح أن السعودية ليست بلداً زراعياً بالمعنى التقليدي، فمعظم أراضيها ذات طابع صحراوي، لكنها تضم مناطق عرفت تاريخياً بوفرة مياه الأمطار والسدود والإنتاج الزراعي، تساهم في الأمن الغذائي السعودي بنسب متفاوتة، مثل منطقتي جازان وأبها في الجنوب الغربي ومنطقة الأحساء في الشرق والجوف في الشمال وغيرها. وتشتهر كل منطقة بأنواع محددة من الفواكه أو الخضار أو المنتجات الحيوانية مثل المانجو الجازاني والزيتون الجوفي والبن الخولاني في محافظة الدائر بجازان والرمان والورد في الطائف على سبيل المثال، لا الحصر.

وعلى مدار السنوات الماضية، خرجت إلى حيز الضوء مبادرات حكومية وأخرى بدافع المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) أو تجمعات أهلية وخيرية؛ للنهوض بالمجتمعات الريفية وصغار المزارعين من أجل تعزيز الجدوى الاقتصادية للحرف الزراعية. هذا ما قد تظهره عناوين مبادرات متنوعة مثل برنامج ريف، الذي أطلقته وزارة البيئة والمياه والزراعة، وكذلك مبادرة أرامكو لدعم زراعة البن في جبال جازان، إلى جانب برامج جمعيات أهلية وخيرية متنوعة لدعم المزارعين. لكن الولوج إلى أعماق تلك المبادرات والبرامج، يكشف عن أهداف أخرى وخطط بعيدة المدى ومساعٍ للتكامل مع قطاعات أخرى.

نحاول في السطور التالية تسليط الأضواء على بعض البرامج المهتمة بتعزيز سبل الحياة الريفية السعودية ودعم صغار المزارعين مع قراءة تحليلية للأهداف بعيدة المدى من وراء ذلك، آخذين بعين الاعتبار أن التنمية الريفية المستدامة هي أحد برامج رؤية المملكة 2030.

قطاع الورود الدمشقية لإنتاج ماء الورد والزيت، في مدينة الطائف غرب السعودية (أ.ف.ب)

برنامج ريف الحكومي

انطلق برنامج ريف أواخر عام 2020 بمبادرة من وزارة المياه والبيئة والزراعة بهدف تحسين القطاع الزراعي الريفي ورفع مستوى معيشة صغار المزارعين وزيادة الكفاءة الإنتاجية وتحسين أنماط الحياة عبر تقديم معونات نقدية مباشرة غير مستردة، مجدولة بشكل شهري، ويختلف حجمها بحسب القطاع المستهدف.

ويستهدف «ريف»8 قطاعات تشمل تطوير وإنتاج وتصنيع وتسويق وتجارة المحاصيل والمنتجات الزراعية والحيوانية التالية:

  • البن العربي
  • الورد
  • الفاكهة (المانجو والتين والرمان والعنب)
  • المحاصيل البعلية (التي تسقى بالأمطار) مثل الذرة الرفيعة والسمسم والدخن
  • تربية النحل وإنتاج العسل
  • صغار الصيادين ومستزرعي الأسماك
  • تربية الماشية
  • تطوير القيمة المضافة للحيازات الصغيرة والأنشطة الريفية

ووفقاً لأحدث إحصائيات البرنامج، وصل عدد الأسر المدعومة إلى 6234 أسرة ريفية مع وصول عدد المزارعين المستفيدين إلى 10342. وقد رصد للبرنامج 8.5 مليار ريال (2.27 مليار دولار) خلال 7 سنوات. كما يعمل «ريف»مع برنامج الغذاء العالمي وغيره لتعزيز الممارسات الزراعية في البيئة الريفية السعودية.

 

أرامكو تدعم مزارعي البن

قبل نحو 4 سنوات، انطلق برنامج أرامكو السعودية لدعم مزارعي البن في محافظة الداير بجازان، جنوب غربي المملكة، وهي منطقة ذات طبيعة جبلية قرب الحدود السعودية- اليمنية، وتشمل أكثر بقليل من 500 مزارع بن. ويقام البرنامج بالتعاون مع الجمعية الخيرية بالمحافظة وهيئة تطوير المناطق الجبلية بوزارة الداخلية. ويأتي في إطار برامج المسؤولية الاجتماعية التي تقوم بها الشركات السعودية الكبرى لصالح تنمية المجتمع.

يتضمن البرنامج زرع مئات آلاف شتلات وتأهيل المزارعين واستصلاح الأراضي، إلى جانب تركيب نقاط ري حديثة لتوفير أكبر قدر من المياه والحد من الهدر مع توفير التسهيلات اللوجستية والمعرفية والفنية للنهوض بهذه الزراعة التخصصية ذات المستقبل المضمون بحكم عشق السعوديين لاستهلاك البن، الذي يمثل محصولاً نقدياً واعداً.  

يبلغ إنتاج السعودية من البن أقل من 10 في المائة من مجمل الاستهلاك السنوي الذي يتجاوز 80 ألف طن. وأظهرت إحصائية حكومية حديثة في أواخر يونيو (حزيران) الماضي أن مجمل عدد أشجار البن يبلغ حالياً 400 ألف شجرة، فيما تخطط السعودية لمضاعفة هذا العدد والوصول إلى مليون شجرة بحلول عام 2025.

إن دخول عملاق النفط السعودي على خط دعم المزارعين، يوحي بأهمية انخراط القطاع الخاص في تحقيق أهداف التنمية الريفية المستدامة، وهو من مستهدفات رؤية المملكة 2030.

إن وجود نواة لزراعة البن جنوب المملكة هو نقطة البداية نحو استنهاض تراث زراعة البن السعودي وتمهيد الطريق نحو تأسيس بنية تحتية لصناعة البن وتحويلها مستقبلاً إلى أحد روافد الاقتصاد الزراعي السعودي. إنها قفزة في الاتجاه الصحيح، فالمزارع يحتاج إلى الدعم ليكمل مسيرته، فيما تحتاج المملكة إلى استنفار طاقاتها الكامنة في شتى المجلات.

صورة أقمار صناعية لدوائر المحاصيل في صحراء حوض وادي السرحان، شمال المملكة العربية السعودية (غيتي)

مآرب دعم مجتمعات الريف

تتجاوز أهداف دعم المجتمعات الريفية تقديم دعم عيني أو تقني لتحقيق الجدوى من العمل الزراعي، الذي يحتاج إلى الإنتاج الجماهيري لدر الأرباح، وهو ما لا يكون متوفراً- في الغالب- لأصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة وصغار المزارعين. إن تثبيت المجتمعات الريفية في الأرض وإبطاء الزحف نحو المدن، حيث الحياة الحضرية وفرص العمل، يعد من أهم أهداف برامج الدعم. ولعل توفير مقومات الحياة الريفية المتوازنة وربطها بالتنمية الريفية الشاملة مع حضور الخدمات وتعزيز البنية التحتية، هو ما يجعل المدينة أقل جاذبية للهجرات الداخلية، وربما حدوث هجرات معاكسة، وهو أمر ليس شائعاً حالياً، من أجل إعادة الألق إلى الريف السعودي وإدخاله في دورة التنمية الوطنية وسلاسل إمداد الغذاء.

ولعل نجاح تجربة تعزيز الإنتاج المحلي سيخفف بالتدريج فاتورة استيراد الغذاء السعودية، التي تتراوح بين 25-30 مليار دولار سنوياً.

كما يفيد تثبيت المجتمعات الريفية في الأرض الأصلية في نشوء نشاطات سياحية تكاملية متنوعة، مما يجعل الريف مقصداً سياحياً. أما التكامل المقصود فهو أن تتكامل الزراعة والسياحة في الريف. فحتى لو كانت الحيازة الزراعية صغيرة، فإنه يمكن تزويدها بمنشآت الإيواء السياحي مثل الفنادق أو الاستراحات الريفية، وبذلك يتعزز دخل صغار المزارعين، ليس من بيع الثمار فقط، بل من الباحثين عن بساطة العيش والهدوء الريفي من السياح الهاربين من صخب المدينة. وبالفعل، ومع توسع دخول التقنية، نشأت تطبيقات على الهواتف الذكية، تتيح لأصحاب البيوت أو الاستراحات الريفية إمكانية عرضها وتأجيرها. وربما يغري ذلك بعض المستثمرين السياحيين أو السلاسل الفندقية- كما حصل مؤخراً في غير منطقة سعودية مثل وادي حنيفة في نجد.

 

نظرة نحو المستقبل

إن تكثيف الدعم للمناطق الريفية عبر إدخال قيمة مضافة على المنتجات الزراعية من خلال إنشاء معامل ريفية لصناعة المربيات أو المخللات أو حتى توسيع مشاريع التعليب والحفظ وتصنيف المنتجات، يساهم في خلق المزيد من فرص العمل، وبخاصة للمرأة السعودية الريفية، التي يعول عليها كثيراً في عملية تنمية واستدامة الريف.

ويمكن أيضاً تأسيس المدارس الزراعية التي تهتم بتثقيف أبناء الريف وتزويدهم بالمعارف الزراعية اللازمة وتأهيلهم للعمل في المشاريع الريفية، مما يساهم في انتعاش الصناعة الريفية وجعل الريف مكاناً لتوليد فرص العمل.

تشهد السعودية ثورة تقنية هائلة، تمتد إلى مختلف مشارب الحياة. ومما لا شك فيه أن إدخال الزراعة المعتمدة على التقنية، سيساهم كثيراً في تسهيل إدارة الحيازات الزراعية من حيث الري واكتشاف الآفات ومعرفة أوقات الحصاد بدقة. ولم لا يكون الريف رافداً جديداً غير نفطي للحياة الاقتصادية السعودية؟!  

font change