الكندي جوستان ترودو يرى في الاختلاف عنوانَ حبٍّ وائتلاف

الكندي جوستان ترودو يرى في الاختلاف عنوانَ حبٍّ وائتلاف

رئيسُ وزراء ابنُ رئيس وزراء





رسم: علي المندلاوي
نصّ: منصف الْمِزْغَنِّي


1- جوستان ترودو الوزير الأول الكندي الأربعيني (مواليد ١٩٧٥) هو الابن البكر للوزير الأول الكندي الأسبق بيير ترودو (1921 - 2000) وكان الوالد والولد مرشحيْن من الحزب الليبرالي العريق لهذا المنصب الرفيع.

ما هي الأسرار الكامنة وراء هذا الصعود الصاروخي لهذا الشاب السياسي الاستثنائي الذي صار في مواقع سياسية متقدمة وفي وقت قياسي، فقبل الانتخابات بأيام خاض مباراة. في الملاكمة! وإنّ مثل هذه التفاصيل لا توحي بأن الرجل جادٌّ في الترشح لمنصب هامّ ومسؤول، بل إنه بدا للناظر السطحي مجرد لاعبٍ لا يرى أنّ اللعبَ يُذْهِبُ الوقار والاحترام، ولكنه كان يرى في مثل هذا اللعب عينَ الصواب والجدية، ويؤكد، في عيون الملاحظين، أن جوستان ثعلب سياسي، وله شهية مفتوحة على الكرسي الواقع في «أوتاوا» حيث مقرّ الحكومة الفيدرالية الكندية؟

2- وأما علاقة الولد جوستان بوالده بيير. فقد عبرت عنها كلمته التأبينية لأبيه وهي بليغة ومؤثرة، ولفتت الأنظار إليه، فهذا والده، قد ترك صدى طيّباً، وذِكْراً حسناً، وبات التقدير لشخصه يلاحقه بعد القبر، من ذلك أن مطار مونتريال الدولي صار اسمه مطار بيير إيليوت ترودو مونتريال الدولي.
ولأنّ التعويل على تركة الوالد محدود. فقد انكبّ الولد جوستان على نحت شخصيته السياسية بعيداً عن الأب بيير، ووغم أنّ جوستان لم يقرأ الشعر العربي، ولكنه تمثّل هذا البيت الشهير: «ليس الفتى من قال كان أبي / إنّ الفتى من قال ها أنا ذا».

3 – ما هو السرّ في صعود جوستان ترودو إلى السلطة؟
هل إنّ موجة الشباب باتت تستهوي جمهور الشباب الناخب، فصار لهذا الشباب ممثلوه المنذورون، ليس لتعاطي الرياضات والرقص والتعويل على طاقات الجسد وحسب، ولكن ليمارس الشباب مهمة التفكير والحلم والارتقاء إلى شجرة الحكم؟
فهل هو زمن الشباب الذي يتقدم واثق الخطوة، نحو المناصب العليا، ليقول إن العالم قد شاب ويريد ان يتشبّب؟
أم إن وسامة المترشح باتت شرطاً سرّيّاً وغير معلن في الانتخابات، والحال أن السياسة عملٌ ميداني، مُضنٍ ويوميّ، ولا علاقة له بعامل الوسامة والحُسن والسلامة الجسدية، كما هو الأمر مع ملكات الجمال ونجوم السينما أو أبطال الرياضة؟

4- لقد برهنت انتخابات 2015 الكندية على أن الوزير الأول شابُّ ذو عزيمة شعبية لم يعرفها أي من مرشحي الحزب الليبرالي، وهو مأخوذ بفكرة كندا التي لا تعريف لها خارج دستور روحي ووضعي أساسه تعايش الناس مع اختلاف الأجناس، ففي هذا البلد هناك الهنود الحمر السكان الأصليون، ولكنْ هناك شعوب كثيرة، وجنسيات تزيد على المائة والثمانين، ولا مناص لهذه الشعوب من أن تتعايش بالحقوق والواجبات وبالقلوب.

5 - إنّ رئيس الوزراء جوستان ترودو الكاثوليكي الديانة لا يسعى إلى الوقوف على نفس المسافة من جميع الديانات، على أرض كندا، بل يعمل على أن يقف في قلب كل الديانات والشرائح والفئات، الأغلبية منها والأقلية، ودون تقييم اختياراتها الغريبة أحياناً، مع تأكيد واضح على الدستور الأكبر الأخلاقي والمعنوي والقانوني المنادي بالسلام وبنبذ العنف.
فالوزير الأول يلتقي مع اليهود في أعيادهم وشعائرهم الدينية، ومشكلاتهم، ولا يتدخل في سياسة إسرائيل.
ويُشاهَدُ هذا الوزير مع المسلمين متوجهاً إليهم في أحيائهم، يحكي معهم كيف أن كندا للجميع وهي لا تتدخل في لباسهم، وترفض أن يتدخلوا في شؤون الغير عند ممارسة شعائرهم، ويهنئهم بحلول رمضان، وبالعيد، ويتناول الطعام معهم، ويقدم الهدايا بحركات تبدو عفوية من فرط ما هي مدروسة، ويقول لهم بالعربي الفصيح: «عيدكم مبارك».
وهذه أفعال وأقوال ذات صدى بالغ الأهمية في الجماهير. وهي في القاموس السياسي تعني دلالات كثيرة، وتساهم في نزع فتيل الفتنة الأهلية والاقتتال الطائفي والحقد الطبقي، والشعور بالدونية.

6 - ومثلما استقبل ترودو المهاجرين القادمين من سوريا، ورحب بهم، وفتح لهم البلاد الكندية وشعروا بأنهم محترمون في عاداتهم وشعائرهم، وآمنون على حياتهم وصحتهم، كان لا يتدخل في طبيعة لباس المسلمين وغيرهم.
وينزل معالي الوزير الأول ضيفاً على كثير من القوميات الموجودة في كندا، ويبدع في التعاطف مع الجميع، فيَلبِس أحياناً ما يلبسون، ويأكل مما يأكلون، ويرقص على موسيقاهم، ويصغي إلى مشكلات جميع الفئات، ويعتبر أن قوة كندا تنبع في الأساس من هذا التنوع الثقافي الاستثنائي.

7- يبدو طموح جوستان ترودو أوسع من كندا، ويرغب في أن يعطي درساً غير مباشر لأكثر من بلد في عالم متحارب لأسباب التنوع العرقي والديني والطائفي والقومي. ويسعى خطاب الوزير الأول الكندي إلى تحويل هذه التنوعات المتشعبة إلى مصدر إثراء وقوة وسلام، لا مصدر فتنة واستنزاف وحروب.
كان يقول للكنديين: «نحن حالمون، ومجدّدون، وبُناة، وعلينا أن نستفيد من عناصر القوة لدينا ومن بينها ثروة التنوع الثقافي اللامتناهية».
إنه أدرك أن كندا تحتوي على شعوب مهددة بالتلاشي إذا اقتتلتْ.

8- لقد عبّر جوستان عن رغبته في إعادة بناء الحزب الليبرالي الوسطيّ، وسبق له أن صرّح سنة 2012: «إنّي فهمتُ أنه علينا، كي نلفتَ انتباه المسافرين، أنْ نبني القطار وهو يسير، دون أن نغفل عن وضع السكة».
فقد فاز الحزب الليبرالي بأغلبية مطلقة من مقاعد «النواب»، وفي السياسة (فنّ الممكن) تبقى التقلبات دوماً واردة. ويبقى جوستان ترودو ظاهرة حبّ كندية، ويختار الشباب قمصانا طبعتْ عليها صور فنانين ومطربين، وسياسي واحد هو: جوستان ترودو الذي يبقى محبوباً إلى حين الوفاء بوعوده الانتخابية.

 
font change