عبد الفتاح كيليطو الحداثيّ المسكون بالتراث

فوزه بجائزة الملك فيصل العالمية تتويج لرحلة إبداعية حافلة

الروائي والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو

عبد الفتاح كيليطو الحداثيّ المسكون بالتراث

جاء تتويج الروائي والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو بجائزة الملك فيصل العالمية في دورة 2023، ضمن فرع اللغة العربية والأدب، التي كان موضوعها لهذه السنة "السرد العربي القديم والنظرية الحديثة"، تتويجا لجهوده في هذا المجال الذي حقّق منجزا أدبيّا لافتا فيه. هنا نظرة على عالم كيليطو ومؤلفاته.

يضخّ عبد الفتاح كيليطو (مواليد الرباط 1945) روحا معاصرة في التراث، يستلهم منه الحكايات والعبر، يقتحم غماره بجرأة، ولا يخشى نزع التقديس عن بعض شخصياته أو أحداثه، يتعامل معه بمنطق المفكّر الباحث عن الجديد في القديم، وهو المتبحّر في التراث العربي، والمؤكد أن الفكر والأدب والثقافة حلقات متسلسلة توصل بين الأزمنة والأمكنة ولا يمكن فصلها عن سياقاتها، وقادرة على ربط الماضي بالحاضر بالمستقبل في وحدات متجدّدة تكتسب ديمومة بالبحث والتنقيب والقراءة والاستلهام.

كيليطو المحلّق في اللغتين، لم تبقه ازدواجية اللغة نزيل قواقع بعينها بل حرّرته، وهو الذي يعترف أنه سعى طوال سنوات الدراسة إلى تعلم اللغة الفرنسية، ثم درَّس أدبها لمدة تفوق أربعين سنة، لم ينطق خلالها بكلمة عربية أو باسم مؤلف عربي أمام الطلاب. ويلفت إلى أنه لم يحتفظ بما ألقى من دروس، فما إن كانت الحصة تنتهي حتى يمزّق أوراق التحضير، ولم يَبق أي أثر لسنوات من الكلام الأكاديمي. كما أنه لم يعن له إلا نادرا أن ينشر دراسة عن الأدب الفرنسي، لأنّه يعلم أنّه لن يضيف شيئا يذكر لما يكتبه الفرنسيون. فضلا عن ذلك، هم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون منه أن يكتب عن أدبهم. أدبُهم لا يحتاج إليه. على العكس من ذلك لم يفارقه شعور، يصفه بأنه ساذج، أن الأدب العربي يحتاجه بقدر حاجته الشخصية إليه. كان ذلك اعتقادا ثابتا لديه، ولولاه لما كتب على الإطلاق، بحسب تعبيره.

يضخّ كيليطو روحا معاصرة في التراث، يستلهم منه الحكايات والعبر، يقتحم غماره بجرأة، ولا يخشى نزع التقديس عن بعض شخصياته أو أحداثه

شخصيات مؤسطرة

كيف نظر كيليطو إلى التراث العربي الذي يشتمل على كثير من الكنوز الأدبية والشعرية؟ كيف رأى الشخصيات الأدبية التي حقّقت حضورا لافتا في أزمنتها وخلّفت إرثا يستضاء به؟ إلى أيّ  حدّ استعان بأدواته الحداثية المعاصرة لطرق أبواب التراث والبحث في ثناياه؟ هل سكن كيليطو التراث أم استدرجه إلى زمنه وتعامل معه بمنطق مختلف؟

لم يبقَ  كيليطو أسير التراث بل استلهمه وأضفى عليه تجديدا وحداثة ومعاصرة، منحه عمرا جديدا من خلال إبراز جمالياته المخبوءة. كما أنه اقتفى آثار شخصيات تاريخية كعنترة بن شداد والمعري والجاحظ وعمر الخيام وابن رشد والجرجاني والهمذاني وابن خلدون وغيرهم الكثير ممّن يشكّلون علامات فارقة في عالمه الأدبي، منقّبا عن آليات الخطاب في تفاصيل حياتهم وإبداعاتهم وما أثير حولهم وكيف أنّهم لا يزالون يحتفظون بجدّتهم وألقهم على الرغم من تقادم الزمن. وهنا يكون التقدير للمنجز الفكري والأدبي والشعري العربي، بوضعه كركيزة للبناء عليه وإظهار مدى معاصرته وتجدّده.

يقرّ كيليطو بتأثّره بالجاحظ، وبخاصة في فنّ الانتقال من موضوع إلى آخر، والاستطراد في الكتابة. يذكر أنه خلصه من شعوره بالنقص يوم أدرك أنه لم يكن يستطيع، أو على الأصح لم يكن يرغب في إنجاز كتاب بمعنى استيفاء موضوع ما والمثابرة عليه والسير فيه قدما دون الالتفات يمينا أو يسارا. ويقول معلّقا على ذلك في كتابه "في جوّ من الندم الفكري" إنه يعلل الأمر بتخوفه من أن يملّ القارئ. الواقع أنه هو أيضا كان يشعر بالملل ويسعى إلى التغلب عليه، وهذا سر استطراداته المتتالية. ويضيف: لا أشك أنه كان يقرأ أيضا بهذه الطريقة. الكتابة بالقفز والوثب… أفهم اليوم لماذا قضيتُ سنوات في دراسة المقامات، ذلك أن مؤلفيها، المتشبعين بفكر الجاحظ، نهجوا الأسلوب نفسه. وقد أكون تأثرت بهم، فكتبي تتكون من فصول قائمة بذاتها، إنها استطرادات، مجالس، أو إذا فضلنا مقامات، بكل معاني الكلمة.

يؤسطر عبد الفتاح كيليطو الشخصيات التاريخية التي يدرسها ويكتب عنها ويبحث في آثارها، يحوّلها إلى حكايات، يسبغ عليها رؤيته لها بحيث يضفي عليها معاصرة وتجدّدا. تراه يشير في معرض تقديمه لكتابه "أبو العلاء المعري أو متاهات القول" إلى أنّه عندما نشر كتابه "الكتابة والتناسخ" الذي خصّصه جزئيا للجاحظ الذي صرّح بأنه نسب نصوصا من إنشائه لبعض المتقدمين، بعث إليه أستاذ فرنسي رسالة يسأله فيها هل مؤلف "البخلاء" عاش فعلا أم هو كائن من ابتكاره ونسج خياله. كما يشير إلى أنه بعد سنوات من تلك الرسالة زار روائي ألماني المغرب، ونظم أحد المعاهد مائدة مستديرة على شرفه، ساهم فيها بعرض عن أبي العلاء المعري. ويقول إنه عندما انفضّ الجمع، اقترب الروائي منه وسأله بشيء من التردّد إن كان المؤلف الذي تحدّث عنه عاش فعلا أم أنه... ولم يكمل سؤاله ونظر إليه كالمستغيث.

يشدّد مبدع "الكتابة والتناسخ" على أن المادة اللغوية، كما هو معلوم، في متناول الجميع، ولكن قلائل هم أولئك الذين يتمتعون بالقدرة على تحويل المعدن إلى نقود، وضرب السكّة التي تصلح للتبادل الثقافي. ويقول في فصل بعنوان "المتربّصة" في كتابه البديع "أتكلّم جميع اللغات، لكن بالعربية": "لن يحكم عليك أو لك بسبب اللغة التي اخترتها، وإنّما بسبب استعمالك إياها، والطابع الشخصي الذي وسمتها به، فاحرص على أن تلفّها في حجاب خفيف رقيق يجعلها تبدو  لغة جديدة".

Getty images
الجاحِظ، أديبٌ عربيٌّ من أئمةِ الأدبِ في العصرِ العباسي، له آثار جليلةٌ تُعدُّ من المُكوِّناتِ الرئيسيةِ للثقافةِ العربية، وتعتزُّ بها المَكتباتُ العربيةُ.

عاشق "ألف ليلة وليلة"

لا يكاد كتاب من كتب كيليطو يخلو من إشارة أو حديث عن "ألف ليلة وليلة"، تراه يصف ""الليالي" في كتابه "العين والإبرة" بالكتاب المتشظّي الذي يعتبر متنا يضمّ عددا لا يحصى من المخطوطات والطبعات والترجمات والإضافات والشروح والكتابات المعادة. وسيظلّ هناك أبدا نصّ آخر من "الليالي" قابلا للكشف والقراءة.

يثير كيليطو في مقارباته "ألف ليلة وليلة" كثيرا من التساؤلات التي تشكّل مفاتيح للغوص في القراءة والتأويل، ومنها: من القادر على تمرير الحكاية من سجل الشفهي إلى سجلّ الكتابي؟ ماذا يمكن القول عن مفهوم الراوي ومفهوم المؤلف؟

يفتح كيليطو "خزانة شهرزاد"، يقول إنها تملك ورقة رابحة على درجة كبيرة من الأهمية وهي: فنّ الحكي. لا تكفي معرفة الحكايات بل يجب، إضافة إلى ذلك، معرفة طريقة روايتها، وأيضا التمكن من إغراء المستمع بالإنصات إليها. يلفت إلى أن الكتب كانت راقدة ثمّ أقدمت شهرزاد على إيقاظها بفتحها على الخارج، بإخراجها من انطوائها. أصبحت الكتب عبر صوتها مبدأ من مبادئ الحياة. من المفارقات أن شهرزاد بدأت تحيا وتضمن حياة الآخرين منذ اللحظة التي ذهبت فيها لمواجهة الموت. خرجت من بيتها، غادرت البيت الأبوي، وعندئذ انتقلت معها خزانة بكاملها.

يركز كيليطو في روايته "أنبئوني بالرؤيا" على دور الملاحظات والهوامش في البحث عن الحقيقة الروائية، بين الرؤية البصريّة والرؤيا القلبية، تلك التي تكون محتجبة بدورها في بطون التاريخ، دون أن يعتمد النقل فقط في التلقي والإخبار، بل يعطل النقل لحساب إعمال العقل، ويخرج الرواية من بحر الحكاية والإخبار والإمتاع إلى عالم البحث والنبش والسؤال.

يولي كيليطو في كتابته الروائية عناية خاصة بالافتراضات التي تقرب الرواية من البحث، وتمزج بين الحقيقة والتخيل بحثا عن صيغ وإجابات، محرضا القارئ على السعي للاكتشاف، وعدم الارتكان للمقروء أو المسموع، نافيا التسليم عن أي حكاية، مثيرا السجال حول الأصل المفترض، والمتن المنشور بأكثر من صيغة وطريقة. ويكتب المؤلف الضمني، الراوي المفترض، بحثا بعنوان "النوم في ألف ليلة وليلة"، وبفضله يُدعى إلى الولايات المتحدة في منحة دراسية لمدة شهرين، وهناك يعيد اكتشاف الأساطير المسرودة والمكتوبة عن "ألف ليلة وليلة"، ويستطرد في تخيلاته وافتراضاته عنها، بحثا عن المؤلف المحتجب خلف غلالة التاريخ وسطوة الأسماء وسحر الحكايات.

يشدّد مبدع "الكتابة والتناسخ" على أن المادة اللغوية، في متناول الجميع، لكن قلائل هم أولئك الذين يتمتعون بالقدرة على تحويل المعدن إلى نقود

 

هذا كتابكم

يؤكد في روايته فكرة أن الكتاب الذي يُعتزّ به لم يصر عربيا إلا لأن الأوروبيين قرروا ذلك. ويقول في روايته: "لقد صنعوا كتاب العرب، قالوا لكم: "هذا كتابكم"، فتبنيتموه. وها قد وقعتم في شباك حكاياته، لن تستطيعوا أبدا الإفلات منه. سيجثم عليكم حتى فَناء القرون". ويتألم أن الكنز التاريخي الدفين يكتسب قيمته حين يحتفي به الآخرون، في حين أنه يظل بعيدا عن الاهتمام لزمن طويل.

كثيرة هي المواضيع والقضايا الأدبية والفكرية التي شغلت كيليطو ودفعته لإثراء المكتبة العربية بأطروحاته ورؤاه، منها مثلا الأدب والغرابة، وهو الموضوع الذي تناوله في أكثر من كتاب له. ففي كتابه "الحكاية والتأويل" ينوّه كيليطو بأنّ الغرابة لا تعني الشيء الذي لم تره العيون ولم تسمعه الآذان؛ إنها على العكس متعلّقة بشيء معروف ومألوف، إلّا أنه منسيّ ومدفون في أعماق النفس، ووظيفة الشعر هي نثر هذا المطوي وإبراز هذا المخفيّ. إنّ المناطق العذراء والمجهولة التي يكشفها الشعر هي في الحقيقة مناطق سبق للمرء أن جال فيها وطاف في أرجائها. وعلى هذا الأساس فإنّ ما يحدث هو إماطة اللثام عن وجه معروف بصفة حميمية صميمية.

أما في كتابه "الأدب والغرابة" فيقول إن الشعور بالغرابة يتأكد عندما يتعلق الأمر بمؤلفات قديمة تحدّها عتبة زمنية ليس من الهين اجتيازها. ما أكثر القراء الذين لا يبصرون العتبة فيتجولون في الماضي كما يتجوّلون في الحاضر، وما أكثر القراء الذين يقفون عند العتبة ولا يجرؤون على اجتيازها (أو لا يبالون)، وما أكثر القراء الذين يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى! على أي حال كلنا يعلم أن تحديد المستقبل مرهون بتحديد الماضي وتحديد الماضي مرهون بتحديد الغرابة.

يضخّ عبد الفتاح كيليطو (مواليد الرباط 1945) روحا معاصرة في التراث

يشدّد كيليطو في أعماله على أنّ النصّ  الأدبي لا يعرف الاستقرار والجمود، ذلك أنه يخضع لمنطق خاص هو "منطق السؤال والجواب". ويقول إن النصّ يجيب عن سؤال يضعه المخاطب، وبتعدّد المخاطبين والأزمنة تتعدّد الأسئلة والأجوبة. في المقابل يطرح النص بدوره أسئلة، وعلى المتلقي هذه المرّة أن يجيب. يظهر هذا عندما يتعارض النصّ مع التصورات المألوفة لدى المخاطبين. وقد يؤدي إلى إبراز تصورات جديدة.

كما يقول إن منطق السؤال والجواب يفرض علينا ألا نغفل "علاقة التوتر" الموجودة بيننا وبين النصّ الكلاسيكي. وإن مؤلفات الماضي لا تقترب منّا إلا إذا بدأنا بإبعادها عنّا. وهنا علاقة التوتّر المفترضة تكون منتجة ومثمرة، كما يكون في إبعاد مؤلفات الماضي إيغال في متونها وتفكيك لتفاصيلها. يعني بذلك مزيدا من الاقتراب الذي تكشفه المسافة التي تفسح المجال لرؤية أوضح، وهذا ما مارسه كيليطو نفسه كحداثيّ مسكون بالتراث يؤثّث به ملامح عالمه الأدبيّ والإبداعيّ الثريّ.

font change