الانقلاب الذي أطاح الامبراطورية العثمانية

جيمي ويغنال
جيمي ويغنال

الانقلاب الذي أطاح الامبراطورية العثمانية

قبل 110 سنين، في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني 1913، هزّ انقلابٌ عاصمة الأمبراطورية العثمانية إسطنبول، وكان ثاني انقلابَين وقعا خلال خمس سنوات فقط؛ الأول في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في يوليو/تموز 1908، بينما جرى الثاني في عهد أخيه وخليفته السلطان محمد الخامس في يناير/كانون الثاني 1913.

ونجح الانقلابان كلاهما، وكانا مصدر إلهام لضباط آخرين من العالم الثالث الذين انتابهم طموح للقيام بانقلابات شبيهة في بلدانهم، بدءا من رضا شاه في إيران في عام 1921، مرورا ببكر صدقي في العراق عام 1936، وأخيرا حسني الزعيم في سوريا عام 1949.

وقد قضى الضباط الذي دبروا الانقلابَين في اسطنبول جميعهم قتلا في نهاية المطاف، واحدا تلو الآخر. وكذا كانت الحال مع بكر صدقي وحسني الزعيم. لا مبالغة في القول إنه لولا الانقلابات العثمانية، لما حدثت مغامرات الضباط الآخرين – ولما انتهى مستقبل الأمبراطورية العثمانية هذه النهاية المهينة في عام 1918.

"جمعية الاتحاد والترقي" في مقابل "حزب الحرية والائتلاف"

كان مهندسو انقلاب 1913 ضباطا من "جمعية الاتحاد والترقّي"، وهي ائتلاف قومي متطرف من الطلاب والمثقفين والجنود العثمانيين الذين انتفضوا ضد السلطان عبد الحميد الثاني وتمكنوا من إطاحته في أبريل/نيسان 1909. ولكن سرعان ما اتخذ ضباط "الاتحاد والترقي" لبوس الاستبداد، فقمعوا الحريات واعتقلوا المعارضين واضطهدوا الأقليات العرقية، على الرغم من الاحتفاء بهم بداية، باعتبارهم من الرجال الإصلاحيين والتقدميين.

بعد عامين من خلع السلطان عبد الحميد الثاني، ظهر حزب معارض لحكم "جمعية الاتحاد والترقي"، هو "حزب الحرية والائتلاف"، بقيادة الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) كامل باشا، وهو رجل دولة مخضرم من أصول قبرصية. تأسّس الحزب رسميا في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1911، ولم يكن قد فات على تأسيس الحزب سوى شهر واحد حين خاض الانتخابات العثمانية الفرعية بنجاح هائل، مما أثار مخاوف في صفوف "جمعية الاتحاد والترقي" من أن يكتسح أعضاء الحزب الجديد الانتخابات العامة المقبلة لعام 1912.

وحين أجريت الانتخابات في أبريل/نيسان 1912، وقعت أحداث تعرّض فيها الناخبون المناهضون لـ"جمعية الاتحاد والترقّي" للضرب بالعصي (مما جعل هذه الانتخابات تحصل بجدارة على لقب انتخابات الهراوات)، ورُصدت عمليات تزوير كبيرة في مراكز الاقتراع في جميع أنحاء الأمبراطورية. وفازت "جمعية الاتحاد والترقي"، نتيجة العنف الجسيم والتلاعب بالأصوات، بـ 269 من أصل 275 مقعدا في "مجلس المبعوثان" (البرلمان)، وانتخب أحد قادتهم خليل بك، رئيسا للمجلس العثماني، بينما لم يفز حزب كامل باشا سوى بستة مقاعد.

وشُكلت حكومة جديدة برئاسة محمد سعيد باشا، تلتها حكومة غير حزبية لأحمد مختار باشا. وعلى الرغم من سيطرة "الاتحاد والترقي" الكاملة تقريبا على البرلمان، بقيت الجمعية بدون أي نفوذ في مجلس الوزراء. وإذ شعر ضباط الجيش الموالون لكامل باشا بالقوة الكافية لشن هجوم مضادّ، أرسلوا إنذارا إلى البرلمان، مطالبين بحله في غضون 48 ساعة، بحجة أن التصويت عليه تمّ بشكل غير قانوني وتحت التهديد والترهيب. فكانت النتيجة أن السلطان محمد الخامس، أصدر، تحت ضغط الضباط، مرسوما سلطانيا بحلّ البرلمان في 5 أغسطس/آب 1912 والدعوة إلى انتخابات جديدة في 25 أكتوبر/تشرين الأول.

حكومة كامل باشا

بيد أن تلك الانتخابات لم تجرِ بسبب الاندلاع المفاجئ لحرب البلقان الأولى واستقالة الصدر الأعظم في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1912، فاستدعي كامل باشا ليحل محله، الأمر الذي أثار رعب "جمعية الاتحاد والترقّي" التي اتهمته بأمور شتّى، بينها أنه ألعوبة في يد البريطانيين. في تلك المرحلة كان كامل رجلا هادئا متقدّما في السن، في التاسعة والسبعين من عمره، لكنه كان لا يزال يحتفظ بما يكفي من روح القتال لتحقيق برنامج طموح من شقين: الأول حسم الحرب في البلقان بسرعة، والثاني سحق "جمعية الاتحاد والترقي".

كانت طلائع الجيش البلغاري تتقدّم بسرعة ووصلت بالفعل إلى منطقة جاتلجا غرب اسطنبول، مما دفع كامل باشا إلى النظر بجدية في نقل العاصمة العثمانية إلى الداخل التركي. وافق السياسي المخضرم على هدنة في 3 ديسمبر/أيلول 1912 وأرسل مندوبين إلى مؤتمر لندن للسلام، الذي دعت إليه القوى العظمى، حيث رغبت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا في أن يتنازل كامل باشا عن مدينة أدرنة لتركيا، وهو ما اعتبره إملاء، فرفضه بشدّة، مقترحا بدلا من ذلك أن يتمّ وضع المدينة تحت إشراف لجنة دولية. غير أن "جمعية الاتحاد والترقّي" لم تقبل بذلك، واستخدمت محادثات أدرنة للتخلص من الباشا، مشيعة بأنه على وشك التخلي عن المدينة إلى بلغاريا إرضاء للإنكليز.

الانقلاب

في 23 يناير/كانون الثاني 1913، قرّرت "جمعية الاتحاد والترقّي" عزل كامل باشا، حين حشد ضابط طموح في الحادية والثلاثين من العمر اسمه أنور بك قواته عند بوابات مسجد نور العثمانية الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر في حي الفاتح بمدينة إسطنبول، منتظرا أوامر بالزحف على المجمع الحكومي العثماني القريب، الذي يضم من بين المباني الأخرى مكتب الصدر الأعظم.

من طرف آخر من المدينة، كان رفيقه طلعت بك يحرز تقدّما مماثلا. وعند بوابات وزارة الأشغال العامة، تجمّع حشد من الناس، وهم يهتفون بملء حناجرهم أن كامل باشا خائن، واضطرمت المشاعر عندما امتطى أنور حصانه الأبيض الأصيل في شوارع إسطنبول، قبل أن يدخل المجمّع الحكومي في وضح النهار، في نحو الساعة 2:30 من بعد الظهر، ليجد كامل باشا على رأس اجتماع وزاري.

في 23 يناير/كانون الثاني 1913، قرّرت "جمعية الاتحاد والترقّي" عزل كامل باشا، حين حشد ضابط طموح في الحادية والثلاثين من العمر اسمه أنور بك قواته عند بوابات مسجد نور العثمانية الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر في حي الفاتح بمدينة إسطنبول، منتظرا أوامر بالزحف على المجمع الحكومي العثماني القريب

سارع ابن شقيقٍ لكامل باشا إلى امتشاق بندقيته وإطلاق النار على المتسللين، لكنهم ردّوا على النار وأردوه، فخرج وزير الحرب ناظم باشا لمواجهة المسلحين، صارخا: "ما الذي يجري؟ أجئت لدهم مكتب الصدر الأعظم؟"، فأدّى أنور التحية العسكرية للوزير وفق البروتوكول العسكري، وحاول أن يؤكّد له أنه لم يكن هدف عمليتهم. ولكن بينما كان يقول ذلك، اقترب متآمر آخر، اسمه يعقوب جميل، من ناظم باشا وأرداه قتيلا. ولا يزال المؤرخون العثمانيون يجادلون حول ما إذا كان القتل متعمدا أم لا، حيث وصفته "جمعية الاتحاد والترقّي" بـ"الحادث المؤسف"، وادّعى أنور لاحقا أنه لم يكن يريد قتل ناظم باشا، بل كان يفكر في الواقع في أن يحلّ هو محلّ كامل باشا كرئيس للوزراء. وذكّرت "جمعية الاتحاد والترقّي"، لإثبات وجهة نظرهم (مش واضح تماما وجهة نظر مَن)  في ما بعد، بأنهم سمحوا لزميله، وزير الداخلية أحمد رشيد، بالمغادرة دون أن يصاب بأذى، على الرغم من أنه كان أكثر عداء للجمعية من ناظم باشا.

استقالة تحت تهديد السلاح


دخل أنور إلى مكتب الصدر الأعظم، وفي مشهد درامي، أجبر كامل باشا على أن يكتب خطاب استقالته، إلى السلطان، تحت تهديد السلاح. تمّ بعدها تنصيب محمود شوكت باشا، أحد أعضاء "جمعية الاتحاد والترقّي"، صدرا أعظم ووزيرا للحرب، لكنه لم يبقَ في منصبه أكثر من خمسة أشهر، قضى بعدها اغتيالا. واستغلّ أنور وطلعت، اللذان تولّيا حقيبتي الحرب والداخلية على التوالي، عملية اغتياله لإنهاء أي معارضة بقيت لحكمهما في جميع أنحاء الأمبراطورية. وتمّ سجن المعارضين وحظر الأحزاب السياسية وغلق الصحف. وبدأت بذلك ديكتاتورية "جمعية الاتحاد والترقّي" التي استمرت حتى السقوط النهائي للأمبراطورية في عام 1918.

إرث انقلاب عام 1913


ترتبط تلك الفترة في العالم العربي على الغالب بإعدام القوميين العرب في أغسطس/آب 1915 في بيروت، أردفها العثمانيون بشنق واحد وعشرين شاعرا وصحافيا ونائبا في دمشق. جرى ذلك كلّه بأوامر من صديق أنور وطلعت وزميلهما المقرّب، جمال باشا، وزير البحرية وقائد الجيش الرابع في سوريا، الذي يلقّبه العرب بـ"السفاح"، ولسوف تساعد عمليات الإعدام التي أمر بها، من بين أمور أخرى، في اندلاع الثورة العربية الكبرى في يوليو/تموز 1916، برئاسة شريف مكة، الحسين بن علي.


لم تعرف الأمبراطورية العثمانية منذ تلك اللحظة سوى الحرب والتمرّد، حيث انتفض مواطنوها السابقون – البلغار واليونانيون والمقدونيون والعرب، وكذلك الأرمن، الذين قضوا ذبحا بشكل جماعي على يد الباشوات الثلاثة أنور وطلعت وجمال. في يونيو/حزيران 1913، اندلعت حرب البلقان الثانية، وقاد أنور جيشا لاستعادة أدرنة من بلغاريا، وقد أبلى في ذلك بلاء حسنا.

رتبط تلك الفترة في العالم العربي على الغالب بإعدام القوميين العرب في أغسطس/آب 1915 في بيروت، أردفها العثمانيون بشنق واحد وعشرين شاعرا وصحافيا ونائبا في دمشق

بعد ذاك ارتقى طلعت باشا إلى منصب الصدر الأعظم بين فبراير/شباط 1917 وأكتوبر/تشرين الأول 1918. لكنه وأصدقاءه واجهوا محاكمة، وحكم عليهم بالإعدام قرب نهاية الحرب، وأُجبروا على مغادرة البلاد والعيش في المنفى. غير أن اثنين منهم قضيا بعد ذلك على يد القوميين الأرمن في ما سمّي بـ"عملية نمسيس،" التي هدفت للانتقام من الجرائم العثمانية ضدّ الشعب الأرمني في أي مكان من العالم. قُتل طلعت باشا برصاصة واحدة أثناء مغادرته شقته في هاردنبرغشتراسه في برلين لشراء زوج من القفازات، في 15 مارس/آذار 1921.

وكان قاتله صوغومون تيهليريان، عضو الاتحاد الثوري الأرمني الذي أُعدِمت عائلته عن بكرة أبيها خلال فترة مجازر الارمن، بينما قُتل جمال باشا برصاص ثلاثة من الأرمن في تفليس في 21 يوليو/تمّوز 1922. أما أنور فقتل على يد ضابط أرمني في جمهورية بخارى الشعبية السوفياتية (أوزبكستان الحديثة) في 4 أغسطس/آب 1922، وكان الوحيد من بين الثلاثة الذي قضى وهو يقاتل لكن على يد ضابط ارمني من القوات السوفياتية، وكان أنور لا يزال في الأربعين من العمر.

font change