التغيير الثقافي: خريطة طريق نحو المستقبل

التغيير الثقافي: خريطة طريق نحو المستقبل

استجاب علم النفس الاجتماعي منذ نشأته، أي منذ نهاية القرن الثامن عشر، للأحداث الإنسانية المختلفة بصراعاتها المحتدمة الناتجة من المتغيرات الثقافية، وذلك عبر دراسات تناولت التصورات النمطية والتحيزات، الضمنية منها والصريحة، والاضطرابات المدنية والجريمة والعدوان والمطالبات بالحقوق المدنية.وكانت للحركات النسوية والصراعات الجندرية والمواقف المتعلقة بالنوع الاجتماعي ومطالبات المرأة بدور في التنمية، نصيب مهم من تلك الدراسات. مع المتغيرات الاجتماعية -الثقافية والنمو السكاني والاقتصادي الذي يمر به المجتمع السعودي والعربي والعالم أجمع، خاصة في مرحلة يمكن تسميتها "ما بعد الكورونا"، نجد أننا بحاجة إلى الدراسات والتحليلات المعمقة للتعرف إلى طبيعة تلك المتغيرات التي تختص بها مجتمعاتنا وتبيان آثارها على المستويين الفردي والمجتمعي.

في الحديث عن الثقافة وتأثيرها، من المعروف أن المجتمعات الغربية لا تتبنى أي فكرة أو مشروع بحثي اجتماعي أو اقتصادي أو وطني دون التخطيط الاستراتيجي له. ما يهمني هنا هو التخطيط الاستراتيجي المستمد من دراسة المتغيرات الاجتماعية وما تنطوي عليه من فرص وتحديات وأخطار. إن إطلاق منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) “مؤشرات الثقافة 2030”، يشكل خريطة طريق تحدد دور الثقافة في خطط التنمية المستدامة. فالثقافةُ جسدٌ قابل للتفكيك والتأمل وإمعان النظر، يحمل همه الباحث في العلوم الإنسانية متسلحا بأدواته الرصينة ليشرِّح هذا الجسد بعقلانية واعية وموضوعية، ويتفحص تاريخه وحاضره ومستقبله، ويرسم خططا تتناسب مع خصوصيته وإدراك موقعه في خريطة العالم وتحديد علاقاته وهويته الخاصة ليسير جنبا إلى جنب مع المؤشرات العالمية باعتبارها ركيزة تشاركية تكاملية.

تتردد في أوطاننا أمثلة شعبية من قبيل "لا تولم العصابة قبل الفلقة” أو “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"، وهذه الأمثلة تحمل دلالات وحمولات ثقافية -في أغلبها لاواعية- تعكس آلية التفكير الفردي والمجتمعي بإرثه التراكمي. فوضع الأهداف وترتيب المراحل والتخطيط الاستراتيجي الممزوج بالصبر والتأني، ضرورة لا بد منها لتحقيق تغيير اجتماعي مثمر وتنموي مستدام. لكن المطلع على واقع الحال في الدراسات النفسية الاجتماعية لدينا في العالم العربي بشكل عام، يستوقفه تضخيم حجم الأثر على حساب التخطيط الاستراتيجي وغياب السؤال البعيد المدى حول "كيفية" الوصول إلى هناك وكيفية تقييم التأثير الاجتماعي ورسم خطوط الأساس، ومن ثم استثمار نتائجه لتحقيق تنمية مستدامة.

من طبيعة "التغيير" أن يكون صعبا في البداية وفوضويا في المنتصف وواضح المعالم في خط النهاية، كما أن إدراك "الثقافة" كعملية خلق مستمرة للذات وتبني لبناتها بعيدا من التفكير النمطي أو الإقصائي للآخر، ضرورة ملحة. فأسطورة الأبيض مقابل الأسود والشرق مقابل الغرب لم تعد مجدية.

كما أن الذات - من جهة أخرى- لا تنفك عن كونها جزءا من هذا العالم، مترابطة معه ومع الآخر، وهذا يعزز التنوع الثقافي العالمي، فلا تغيير يمكن أن يحدث دون الإمساك بأضلاع التغيير الثقافي الثلاثة والوعي بها: ماهية الذات وتموضع الآخر وطريقة فهم مضامين مفهوم الثقافة.

من طبيعة "التغيير" أن يكون صعبا في البداية وفوضويا في المنتصف وواضح المعالم في خط النهاية


فعلى الرغم من أنه يتم نقل المتلازمات الثقافية عبر المواقف والتفاعلات داخل المؤسسات والأفراد، إلا أن الثقافة كما عبرت عنها روث بنديكت في كتابها "أنماط الثقافة" (2006) ليست "شخصية مكتوبة بخط كبير"، كما أن الناس -أي الأفراد- أيضا ليسوا "ثقافة مكتوبة بخط صغير"، إذ يمكنهم تبني الفكرة السائدة لثقافتهم أو رفضها. أولئك الذين يرفضون المتلازمة الثقافية السائدة، يصمهم العامة بأنهم "مذنبون أو متجاوزون". لذا تنبغي دراسة التباين الفردي في سياق ثقافي من دون اختزال الثقافة إلى مجرد مجموع أعضائها، ومن دون النظر إلى الأفراد على أنهم كائنات غير اجتماعية أو غير ثقافية تعمل خارج تأثير النظام الاجتماعي والثقافي الذي تعيش فيه. فالتخطيط يبدأ من الفرد ومنه ينتقل الى المجتمع والثقافة والعالم بأسره ليعود من جديد ليخدم الفرد المحلي والعالمي.

يتسم التغيير بالسيرورة، وربما أفضل تعبير عنه هو مقولة "إنك لا تسبح في النهر الجاري مرتين"، فالثقافات تتبدل ويتبدل معها سلوك الأفراد وما نعرفه عنهم اليوم قد لا نعرفه غدا، لذا وجب التخطيط ورسم الأهداف لبناء استراتيجيات تتبنى التغيير وتسير معه بطريقة وتسارع لا يطمسان معالم الهوية الثقافية الأساسية ويعرف أفراده إلى أين يسيرون معه.

font change
مقالات ذات صلة