سياسة "الصين الواحدة" في عامها الواحد وخمسين: ماذا بقي من زيارة نيكسون؟

GettyImages
GettyImages
ريتشارد نيكسون يلتقى بالزعيم الصيني ماو تسي تونغ

سياسة "الصين الواحدة" في عامها الواحد وخمسين: ماذا بقي من زيارة نيكسون؟

يوريكا! كانت هذه الصيحة هي الكلمة الوحيدة في البرقية التي أرسلها مستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر إلى الرئيس ريتشارد نيكسون في البيت الأبيض بعد زيارته للصين سرا في يوليو/تموز 1971. كان كيسنجر قد نجح للتو في التفاوض بشأن ما سيصبح قريبا عامل تغيير في السياسة الدولية: زيارة نيكسون التاريخية إلى الصين، في ذروة الحرب الباردة. كانت هذه الزيارة الأولى من نوعها لرئيس أميركي إلى الصين منذ سقوط البلاد تحت الحكم الشيوعي في عام 1949. مرت الدبلوماسية السرية لكيسنجر عبر باكستان، الدولة الوحيدة في العالم التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة والصين.

كان لا بد من تهيئة الجو قبل حدوث ذلك، وكان الرأي العام الأميركي في حاجة إلى الاستعداد. ألقى نيكسون خطابا متلفزا في 15 يوليو/تموز 1971، أخبر فيه الشعب الأميركي أنه سيزور الصين قريبا، وكان قول ذلك يتطلب جرأة كبيرة. كانت حرب فيتنام لا تزال مشتعلة، حيث مات الآلاف من الشباب الأميركيين من أجل المعركة الكبرى ضد الشيوعية الدولية. وكان على الصين أيضا أن تعد الرأي العام، فقامت بدعوة فريق كرة الطاولة الأميركي إلى سلسلة من الألعاب في عام 1971، والتي أطلق عليها اسم دبلوماسية كرة الطاولة. لم يقم أي رئيس آخر بزيارة الصين أثناء وجوده في منصبه. قام بذلك يوليسيس س.غرانت عام 1879، أي بعد مغادرته البيت الأبيض. أما الرئيس هربرت هوفر قد عاش في الصين كمدير للتعدين قبل وصوله إلى منصب الرئيس، وكان ذلك عام 1900. وعام 1960، قام الرئيس دوايت أيزنهاور بزيارة دولة إلى المنطقة، ولكن لم تكن تلك الزيارة إلى بكين بل إلى تايوان.

بنى نيكسون حياته المهنية بالكامل على الوقوف في وجه الشيوعية الدولية، سواء في الاتحاد السوفياتي أم أوروبا الشرقية أم فيتنام الشمالية والصين. وسبق له أن أدان بشدة سلفه هاري ترومان في الأربعينيات من القرن الماضي لخسارته الصين أمام الشيوعيين، مشيرا إلى الفشل الأميركي في منع الثورة الشيوعية في الصين. عُلِّقت العلاقات الدبلوماسية في عام 1949 ولم تعترف الإدارات الأميركية المتعاقبة بأي دولة أخرى غير جمهورية الصين الوطنية ومقرها تايوان، بقيادة حليفهم المسن تشانغ كاي تشيك. وبدا سفر نيكسون لمقابلة العدو اللدود لتشانغ، ماو تسي تونغ، أمرا مهينا للغاية بالنسبة للعديد من الأميركيين الذين اعتبروا حينها أنه يحوم على حافة بدعة أيديولوجية. ولكن مع مرور الوقت، بدأوا في تقدير جرأته ورؤيته وشجاعته.

نيكسون في بكين

GettyImages
الرئيس الأمريكي يزور سور الصين العظيم

جرت الزيارة الرئاسية في الفترة من 21 إلى 28 فبراير/شباط 1972. التصق العالم بجهاز التلفزيون، يشاهد في ذهول نيكسون وهو يغادر طائرة الرئاسة برفقة زوجته بات، التي كانت ترتدي معطفا أحمر طويلا، اختارته بعناية ليتناسب مع الصين الحمراء. قام الزوجان الرئاسيان بجولة في ثلاث مدن، وزارا مقابر أسرة مينغ الملكية ولاك الغربية في هانغتشو، التي ألهمت بجمالها الشعراء والفنانين. وتصدرت صور نيكسون وهو يقف أمام سور الصين العظيم يشرب نخبا مع رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي عناوين الصحف العالمية.

وصف كيسنجر تشو في مذكراته عام 1982 سنوات الاضطرابات بأنه من بين أكثر المحللين دهاء في الشؤون الدولية. كان رئيس الوزراء الصيني، على حد تعبير كيسنجر، مثيرا وسريعا ومشدودا ومرحا. كان ذلك مختلفا تماما عما حصل عام 1954، في الحادثة الشهيرة التي رفض وزير الخارجية السابق جون فوستر دالاس مصافحة تشو أثناء لقائهما في مؤتمر في جنيف.

الرئيس ماو

ثم جاءت اللحظة التاريخية التي كان العالم ينتظرها: لقاء نيكسون مع ماو تسي تونغ، الرجل الذي تعلم الأميركيون كراهيته على مدى ثلاثة عقود حافلة. كان ماو في عامه التاسع والسبعين، وكان قد خرج من المستشفى قبل تسعة أيام فقط. تطلب الأمر شجاعة كبيرة من الرجلين للجلوس معا، وحتى تبادل الابتسامات والنكات. وعلى سبيل الدعابة، قال ماو: "أعتقد أن صديقنا القديم شيانغ كاي شيك لن يوافق على هذا". ثم التفت إلى نيكسون وابتسم قائلا: "لقد صوتت لك خلال الانتخابات الأخيرة" (في إشارة إلى عام 1968، عندما هزم نيكسون المرشح الديمقراطي هوبرت همفري). وأجاب نيكسون بشكل ساخر: "لقد صوّت لأهون الشرين". انتهى الاجتماع بتمثال بجعة من الخزف، قُدم كهدية للرئيس ماو.

"إذا استطعنا إيجاد أرضية مشتركة نستطيع كلانا الوقوف عليها وبناء جسر يصل بيننا وبناء عالم جديد، ستنظر إلينا الأجيال القادمة وتشكرنا على الاجتماع الذي عقدناه الأسبوع الماضي"

الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون

بيان شنغهاي

أنهت زيارة نيكسون للصين عام 1972 سنوات العداء الأميركي- الصيني، مما عجل في نهاية المطاف بإنهاء الحرب الباردة في شرق آسيا، ووصف نيكسون تلك الزيارة فيما بعد بالأسبوع الذي غيّر العالم. في لقاءاته المتتالية مع تشو، ناقش الرئيس الأميركي سلة من القضايا الدولية الملحة المتعلقة بفيتنام وروسيا ومستقبل تايوان. إذ لم يتخل الأميركيون رسميا عن التزاماتهم تجاه الجزيرة، إلا أن نيكسون، وقبيل عودته إلى الوطن، قام بتوقيع "بيان شانغهاي" الذي دعا إلى سياسة الصين الواحدة. وذكر البيان بلغة حذرة للغاية أن على جميع الصينيين على جانبي مضيق تايوان المحافظة على وجود صين واحدة فقط. وكان هذا البيان هو الأول من بين ثلاثة بيانات رئيسية هدفت إلى الحد من التوتر وبناء الثقة وتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.

قدم نيكسون بعد ذلك نخبا أخيرا لمضيفيه الصينيين في فندق جين جيانغ في شانغهاي قائلا: "إذا استطعنا إيجاد أرضية مشتركة نستطيع كلانا الوقوف عليها وبناء جسر يصل بيننا وبناء عالم جديد، ستنظر إلينا الأجيال القادمة وتشكرنا على الاجتماع الذي عقدناه الأسبوع الماضي". وفي غضون ذلك، علق كيسنجر قائلا: "ينتابني شعور غامر بالراحة كلما غادرت بلدا شيوعيا، إلا الصين". بالطبع، لم تُستعد العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في ليلة وضحاها، بل انتظرت عودتها ستة أعوام أخرى حتى يعاد تأسيسها بشكل رسمي في عهد الرئيس جيمي كارتر في يناير/كانون الثاني 1979. فكر الطرفان أيضا بإنشاء خط ساخن بين بكين وواشنطن، إلا أن ذلك لم يحدث حتى عام 2007.

إنجازات زيارة نيكسون

شهدت زيارة نيكسون العديد من الإجراءات، كان بعضها فوريا، أما البعض الآخر فلم يكن مباشرا. كان أحدها إنهاء العزلة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة للصين. وبدأت العديد من الدول التي كانت تتجنب العلاقات الديبلوماسية مع الصين خوفا من إغضاب الأميركيين بالانفتاح على الصين، ومن بينها بريطانيا واليابان وألمانيا الغربية. بالنسبة لتلك الدول الحليفة للولايات المتحدة، فإن فتح سفارات في بكين كان يعني قطع العلاقات مع تايوان بشكل تلقائي. ألهم تصرف نيكسون قادة آخرين على اتخاذ خطوات جريئة مماثلة، كان أبرزها قيام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة إلى القدس في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1977.

وأدت زيارة نيكسون إلى الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين، إلى جانب نقل التكنولوجيا وعزيز التجارة. فقد خدم تدفق السلع الأميركية الى الصين الاقتصاد الأميركي جيدا وساعد في كبح جماح التضخم.

ولكن تأثير الزيارة الأعمق كان في السياسة. ففي عام 1972، كانت حرب الولايات المتحدة في فيتنام ما زالت مستمرة، وكان نيكسون يأمل في إنهائها بمساعدة الصينيين. كان نيكسون وكيسنجر يحاولان أيضا دق إسفين بين الصين والاتحاد السوفياتي، عملاقا الشيوعية الدولية المتنافسان على السيادة والشرعية منذ وفاة جوزيف ستالين عام 1953. ففي عام 1972، كان الروس قد رفعوا تعداد قواتهم على الحدود الصينية من 21 وحدة مسلحة عام 1969 إلى 45 وحدة في عام 1972. واقترح كيسنجر أثناء زيارته السرية إلى الصين عام 1971 وساطة طرف ثالث عبر رومانيا، وهي دولة شيوعية أخرى، ولكن الصينيين كانوا مرهقين من التعامل مع بوخارست بسبب تخوفهم من الاختراق الروسي. فقد كانت الثقة مفقودة تماما بين بكين وموسكو في عام 1972.

ومن خلال تواصله مع الصين، أمل نيكسون بإثارة المزيد من التوتر في العلاقات الصينية الروسية، مذكرا السوفيات بوجود قوة كبرى ثالثة يجب استيعابها في الساحة العالمية. وربما شجعت زيارة الصين القادة السوفيات على توقيع معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية بعد شهرين فقط من عودة نيكسون من بكين. في مايو/أيار 1972، أصبح نيكسون أول رئيس أميركي يزور موسكو، حيث استقبله زعيم الحزب الشيوعي السوفياتي لينويد بريجينيف. كما كسرت زيارته للصين الحاجز النفسي بين البلدين، ما أدى إلى زيارة دنغ شياو بينغ للولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني عام 1979. وأقيم عشاء رسمي في البيت الأبيض على شرف شياو بينغ، حضره كارتر والرئيس السابق نيكسون، الذي كان قد استقال عام 1974 بسبب تورطه في فضيحة ووترغيت.

كان نيكسون وكيسنجر يحاولان أيضا دق إسفين بين الصين والاتحاد السوفياتي، عملاقا الشيوعية الدولية المتنافسان على السيادة والشرعية منذ وفاة جوزيف ستالين عام 1953.

تقديم سريع حتى عام 2023

مرت الذكرى الواحدة والخمسون لزيارة نيكسون إلى الصين في 21 فبراير/شباط 2023. وجرى الاحتفال بهذه الذكرى قبل 21 عام بزيارة تاريخية قام بها الرئيس جورج دبليو بوش إلى بكين. ولكن، لا يبدو أن أحدا تذكرها هذا العام، وإن كان تذكّرها البعض، إلا أنهم بعيدون كل البعد عن احترام هذه المناسبة. فالعلاقات الصينية- الأميركية اليوم في أدنى مستوياتها على الإطلاق بعد أن قامت الولايات المتحدة بملاحظة منطاد تجسس صيني وإسقاطه في 4 فبراير/شباط من هذا العام قبالة ساحل ولاية كارولينا الشمالية. الصين أصرت على أن ذلك المنطاد لم يكن يحمل أهدافا تجسسية، بل كان جهازا مدنيا يقوم بأبحاث للأرصاد الجوية. وأثار ذلك خلافا ديبلوماسيا بين البلدين، حيث أجّل أنطوني بلينكن رحلة كانت مخططة إلى بكين. ووصف كبير الديبلوماسيين الصينيين وانغ يي رد الفعل الأميركي بأنه "لا يصدق، ويكاد يكون هستيريا"، على الرغم من كونه التقى بلينكن في مؤتمر ميونخ للأمن بعد أيام قليلة.

ولكن الأمر لم يكن فقط مجرد منطاد بالنسبة للعلاقات الأميركية الصينية: فالبلدان كانا يخوضان في السنوات الماضية معارك يصفها البعض بالحرب التكنولوجية الباردة. فالمعارك اليوم تخاض في الفضاء الإلكتروني، وليس على الأرض. يصف الرئيس السابق دونالد ترامب الصين بأنها منافس استراتيجي في كل شيء تقريبا. أما الرئيس جو بايدن فقد زاد الطين بلة بسبب عدم رغبته بتكريم بيان شانغهاي لعام 1972. كان بايدن في بداية مسيرته السياسية عندما جرى توقيع هذا البيان، قد فاز لتوه بمقعد في مجلس الشيوخ الأميركي. وعلى الرغم من كونه يتذكر سياسة الصين الواحدة جيدا، إلا أن الرئيس الأميركي الحالي قد قرر إلغاءها حين وافق على زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لتايوان في أغسطس/آب 2022. وفي فبراير/شباط من العام الماضي أرسل بايدن نائب مساعد وزير الدفاع مايكل تشيس إلى تايوان في ذروة أزمة منطاد التجسس

وقرب انتهاء ولايته في عام 2019، أثار ترامب حفيظة الصينيين أيضا بإرسال هينو كلينك، نائب مساعد وزير الدفاع لشرق آسيا إلى تايوان. رفض البنتاغون التعليق على زيارة تشيس، بل زاد الطين بلة بالقول أن الولايات المتحدة ما زالت متحالفة مع تايوان ضد التهديد الحالي لجمهورية الصين الشعبية. وقال المتحدث باسم البنتاغون مارتن ماينرز: "إن التزامنا تجاه تايوان صارم للغاية". وفي سبتمبر/أيلول 2022، قال بايدن إن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان في حال تعرضها لهجوم صيني غير مسبوق.

ومن الواضح أن الأميركيين غير راضين عن الكثير من الأشياء المتعلقة بالصين، بما فيها تقاربها مع روسيا ورفضها إدانة الحرب الأوكرانية. وعلى الرغم من أن بايدن قال أنه يخطط للحديث مع الرئيس شي جين بينغ للوصول إلى حقيقة مشكلة بالون التجسس، إلا أن لدى الأميركيين الكثير من الأهداف الأخرى في حال رغبوا بزيادة استنزاف ما تبقى من العلاقة بين البلدين.

لم تجر أي مكالمة هاتفية حتى هذه اللحظة.

font change