كل امرأة سيدة في موقعها والأمومة لا تعني غياب الفاعلية

كيف ننتقل من "التمكين" إلى التمكن"؟

كل امرأة سيدة في موقعها والأمومة لا تعني غياب الفاعلية

خلال أسبوعين من شهر مارس/آذار يحظى "الجنس الناعم" بالاهتمام الإعلامي والشعبي على مستوى العالم، من طريق الاحتفاء بـ"يوم المرأة العالمي" ثم الاحتفال بـ"يوم الأم". وعلى الرغم من أن الاحتفال والاحتفاء لم يكونا واضحين سابقا في المجتمع السعودي، إلا أن الاهتمام والمشاركة وتبادل عبارات التهاني باتت واضحة في مثل هذه المناسبات، نتيجة عوامل عدة، منها ما أفرزته العولمة وما يسميه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان بـ"الحداثة السائلة" التي تُعتبر وسائل التواصل الاجتماعي جزءا منها من حيث انتشار المعلومات على مستوى العالم.

فأين القاسم المشترك بين هذين الاحتفالين بالمرأة، ولماذا قُطف مفهوم "الأم" ودور المرأة الأمومي، من غصون أدوار المرأة الأخرى، وعُزّز هذا الدور بشكل خاص فلسفيا ودينيا عبر التاريخ؟

أسطورة ليليث والنسوية المؤدلجة

تحاول بعض الحركات النسوية المؤدلجة توظيف أسطورة ليليث، المرأة الشيطان، كأساس فكري واجتماعي، ساعية إلى قولبة هذا النموذج وتعديل وجهه لتوظيفه كنموذج ومصدر إلهام للمرأة "الحقوقية" المستقلة، عبر ترسيخ مفهوم أن المرأة القوية هي التي تطالب بالمساواة مع الرجل وتنتزع حقوقها "المسلوبة"، في محاولة لتسويق تلك الخرافة لتكون شعارا عالميا للمرأة القوية، لا يكرس سوى فكرة الصراع والتناحر.

فبحسب بعض روايات هذه الأسطورة القديمة، فإن ليليث هي المرأة التي خلقها الله مع آدم، لكنها تمردت عليه ورفضت الخضوع لسلطته وهربت لتصبح عشيقة الشيطان.

هذا الاتجاه القائم على المواجهة والخصومة مع الرجل، الذي يحتلّ بصورة مباشرة أو غير مباشرة خطاب الحركات النسوية المؤدلجة، هو في جوهره جزء من الاتجاهات العديدة، والمتناقضة أحيانا، التي تتناول قضايا المرأة وحقوقها وأدوارها. نجد في الحكايات والأساطير والنظريات والرؤى المختلفة على مرّ التاريخ، ما يجسّد المواقف المتناقضة من المرأة، ما بين مدافعٍ عنها أو مناهضٍ لها أو مفسِّرٍ لهذا "الكيان"، معترِفٍ بإنسانيته الكاملة حينا، ومكبِّلٍ له ضمن حدود القفص "الجنساني" حينا آخر.

وبقدر ما ساهمت الحركات المؤدلجة في تأسيس منطق المواجهة الذي يفيد بأن المرأة لا تحصل على حقوقها إلا انتزاعا وغلبة من الرجل، ساهمت الثقافة الذكورية والفكر الأبوي في اختزال المرأة في إطار جسدها ووظائفه، إذ تعتبر هذه الثقافة أن الدور "الطبيعي" للمرأة يتحدّد في قدرتها على جذب الرجل، ولا ترى أيّ قيمة لها خارج تلك الطبيعة البيولوجية، حتى إن مقاييس القيم الجمالية أصبحت "مقاييس وظيفية" بحسب تعبير عبد الوهاب المسيري المفكر المعروف. فالمرأة لها سمة أنوثتها التي تحصل من خلالها على رجل، ومن ثم تحصل على بيت وعائل. بالتالي، فأيّ دور آخر يمكن أن تؤديه المرأة خارج هذه الصورة، يعتبر هبة ومنحة من الرجل. وهو ما يصبّ في النهاية في خدمة الاتجاه الأيديولوجي الأول، الأيديولوجي والاحترابي.

هذا الاتجاه القائم على المواجهة والخصومة مع الرجل، الذي يحتلّ بصورة مباشرة أو غير مباشرة خطاب الحركات النسوية المؤدلجة، هو في جوهره جزء من الاتجاهات العديدة، والمتناقضة أحيانا، التي تتناول قضايا المرأة وحقوقها وأدوارها


مقام القداسة

من يطلع على التراث العربي والإنساني يجده زاخرا بالإشارات الصريحة والضمنية إلى مكانة المرأة الاجتماعية، لا سيما بوصفها أما. فقلما وجد من لا يرفع الأم إلى مقام القداسة والتصور الأسطوري الذي يضفي عليها صبغة المثالية ويلصق بها سمات العطاء اللامتناهي. وها هو الشاعر أبو القاسم الشابي يتغنى بطهر المرأة الكامل:

يا لها من طهارة تبعث التقديس في مهجة الشقي العنيد 

يا لها من رقة تكاد يرف الورد منها في الصخرة الجلمود

لنا في أبيات شعرية أخرى مثل قول حافظ إبراهيم الأشهر "الأم مدرسة إذا أعددتها"، أو الأقوال المأثورة مثل "الجنة تحت أقدام الأمهات" (وهو القول المنسوب بصور أخرى إلى الرسول الأكرم) أو "أعظم كتاب قرأته هو أمي" المنسوب إلى أبراهام لينكولن، ما يعزّز صورة "المرأة الأم" في ثقافات العالم. كان هذا الدور الوظيفي البيولوجي (ولا يزال في العديد من أنحاء العالم)، سببا لمحاربة عمل المرأة، وقبل ذلك سببا لرفض تعليمها (كما نرى اليوم في أفغانستان)، فها هو الأسقف غريغوريو بارباريجو مدير الكلّية اللاهوتية في جامعة بادوا، يعلن في القرن السابع عشر رفض تعليم المرأة، قائلا: "لا يمكن، لقد خلقت المرأة للأمومة وليس للتعليم"، ولا نزال نجد صدى هذا الكلام في بعض الأماكن في القرن الحادي والعشرين. حتى أن بعض علماء النفس والأطباء النفسانيين الذين يحتضنون المعايير الجنسية للثقافة المعاصرة، لا يرون أبعد من التصورات النمطية لطبيعة الأنثى، وليس لديهم ما يقولونه خارج هذا النطاق الضيق.

هذا التعاطي مع طبيعة المرأة، وهذا الإعلاء لدورها، كونها أما فقط، هو مفهوم سياقي تحدده الثقافة التي تنتمي إليها. وفي زمن تتغير فيه الكثير من المسلّمات الاجتماعية وتتبدّل الأدوار المجتمعية التقليدية، بات العمل (والإنتاجية) عن بعد ممكنا ومتيسرا للرجل والمرأة، حيث لم يعد الرجل في حاجة إلى الخروج من المنزل وحيث باتت المرأة جزءا لا يتجزأ من تسيير عجلة الاقتصاد. على الرغم من ذلك، تظل هناك مقاومة لعدم التراجع عن حصر دور الأم في سياق التضحية المتواصلة، بل تصبح مطالَبة، إلى جانب دورها الإنجابي، بأن ترتبط بهذا الدور كمصير مشترك. نجد أن الكثير من الأدوار تتغير تبعا لتلك التطورات، إلا دور الأمومة الذي لا يمكن التراجع عنه.

تؤكد التشريعات الجديدة في الأنظمة واللوائح المرتبطة بالمرأة أهمية دورها في دعم الاقتصاد الوطني والخطط التنموية الشاملة، والإسهام في رفع تنافسية المملكة إقليميا وعالميا


تمكين وتمكّن

انتشرت مفردة "تمكين" المرأة، كالنار في الهشيم في المجتمع السعودي حتى بدت بالنسبة إلى البعض أمرا جديدا ومستحدثا. إلا أن المرأة السعودية لطالما كانت قائدة في طبيعتها، متى ما تهيأت لها الظروف المناسبة. ويظهر جليا اهتمام القيادة المكثف الذي هيّأ للمرأة سبل التمكين عبر المشاركة في عملية التنمية السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وهو ما عبر عنه قائد التغيير الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، بالقول "أنا أدعم السعودية والمرأة جزء منه لذا فأنا أدعم المرأة"، ليعيد الدفة إلى مكانها الصحيح.

ليس هناك أفضلية أو تمييز جندري يحفز ذهنية "الفوقية والتراتبية"، إنما تطبيق عملي للعقد الاجتماعي الذي يربط الحكومة بالشعب، عبر تغيرات مدروسة من بينها تعزيز مكانة المرأة كشريك في تنمية المجتمع، والأرقام والشواهد كثيرة على ذلك، من أهمها برنامج "وصول" الذي يسهل تنقلات المرأة من عملها وإليه، وبرنامج "قرة" لدعم الموظفة الأم من خلال الاعتناء بطفلها أثناء ساعات الدوام. في المقابل، اعطاء الرجل إجازة رسمية حين يرزق بطفل.

هذه التشريعات التي سُنّت في نطاق العمل والاقتصاد والثقافة والرياضة وغيرها من المجالات، توازن الكفة، كما تحمّل المرأة مسؤولية مضاعفة في أن تثبت تمكنها في ظل "التمكين". ذلك أن رؤية المملكة 2030 مهدت الطريق أمام بنات الوطن للإسهام في مختلف أوجه الحراك التنموي، وتبوؤ المرأة المناصب القيادية، الذي تجاوزت الأرقام فيه حاجز التوقعات، إذ بلغت حصة المرأة في سوق العمل (خلال الربع الثالث من عام 2020)، نسبة 31.3 في المئة، وهو ما يعكس مدى نجاح خطط التوطين والتمكين وارتفاع نسبة الوعي بأهمية مشاركة المرأة في سوق العمل، والدور الذي يحدثه التمكين في المؤشرات الاقتصادية.

كما توّجت برامج الرؤية ومبادراتها التنفيذية بإعلان "الرياض عاصمة للمرأة العربية" لعام 2020 تحت شعار "المرأة وطن وطموح"، وتؤكد التشريعات الجديدة في الأنظمة واللوائح المرتبطة بالمرأة، أهمية دورها في دعم الاقتصاد الوطني والخطط التنموية الشاملة، والإسهام في رفع تنافسية المملكة إقليميا وعالميا، مما مكّن دورها ومنحها الثقة الكاملة بأنها على قدر عال من المسؤولية، وفي الوقت نفسه ترك لها أن تجيب عن السؤال الآتي: كيف تصنع هي التمكن الذاتي في ظل التمكين؟

 

الفاعلية

يأخذني الاعتزاز بعيدا، كوني امرأة سعودية، حين انظر من حولي وأجد نفسي كباحثة أكاديمية في مجال الدراسات النفسية الاجتماعية افادت من فرصة الابتعاث -على سبيل المثل-  كفرصة للوعي الذاتي وتطوير الهوية، وإثبات الفاعلية والقدرة على اتخاذ القرارات، والسيطرة، والتنظيم الذاتي، لتحقيق التمكن الشخصي والاجتماعي.

بالتالي، فإن دور المرأة لم يعد قاصرا على كونها زوجة وأُما فقط، بل إنها بدأت تذهب في فاعليتها الذاتية وتمكنها الفردي إلى أبعد من ذلك، خاصة في  قرارات حول العديد من القضايا الحساسة، مثل متابعة التعليم العالي في الخارج والبحث عن فرص عمل تأكيدا لشخصيتها وممارساتها ونجاحها في الوصول إلى المستويات العليا في المسؤوليات الاجتماعية والحكومية.

الفاعلية هي مفهوم القوة التي نأمل في تحقيقها، لكي تتزن الكفة ويتحقق التماسك المجتمعي المأمول. فأن تكون إنسانا يعني أن تكون فاعلا، وأن تكون فاعلا هو أن تتمتع بالقوة. في هذا السياق، تعني القوة قدرة الفرد، رجلا أو امرأة، على أداء عمله ومسؤولياته. وقد اختصر المنظّرون الاجتماعيون الثقافيون مثل باختين وفوكو، القوة، بأنها صنع استراتيجيا للذات والهويات، والأنشطة، والأدوات والموارد الثقافية، والتاريخ، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من كوامن القوة والتمكن. وهذا هو المعنى الكامن للتمكين، فهو مزاولة لفعل "التمكن"، وكل امرأة سيدة في موقعها الذي تستحقه، والأم ليست استثناء في هذه المعادلة.

font change
مقالات ذات صلة