آندي السجين كان رواقيا وحرّا طوال حياته

آندي السجين كان رواقيا وحرّا طوال حياته

في كل مرة أشاهد فيلم "سجن شوشانك" أجد أمامي اختبارا في تحديد ملامح الفلسفة الرواقية التي تهيمن عليه. على الرغم من وجود أفلام أخرى من مثل "المجالد" الذي يلقي ضوءا على شخصية الأمبراطور الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس، إلا أن "سجن شوشانك"، يحتوي على تفاصيل أكثر عن أبيكتيتوس ونظريته في الحرية الداخلية، حيث يمكن المستعبَد أن يصبح حرا في استقلاله الروحي، وإن كان لا يملك جسده. أبيكتيتوس كان مُسترقّا، وقد أعطب سيده رجله من باب المتعة. هذا يشبه ما حدث لآندي دوفرين عندما دخل السجن.

الحرية التي أسس لها أبيكتيتوس، لا يمكن نيلها بتغيير العالم. وهي ليست في الأشياء. بل إن الأفكار التي يكوّنها الإنسان عنها هي ما يجعله سعيدا. الخير والشر ليسا في تلك الأشياء، بل في موقف الانسان تجاههما، أي أن السعادة إرادة واختيار.

منذ لحظة دخول آندي السجن، رأيت فيه أبيكتيتوس الرواقي، يمشي بهدوء ولا يتكلم كثيرا على الرغم من كآبة المنظر، يراقب التفاصيل الدقيقة ويحتفظ بها في داخله ولا يشتكي ولا يعترض على شيء. يتجول في ساحة السجن، كأنما يتنزه في حديقة، بلا همّ ولا غمّ، غير مبالٍ بما يحدث في العالم، كأنه يرتدي معطفا واقيا يحميه من المكان. عندما يتحدث عن موسيقى موزارت التي يسمعها دائما في قلبه وعقله في كل مكان، وكيف أنها تمنعه من نسيان عالم آخر، غير العالم المصنوع من الصخور، وكيف أنه عالم لا يستطيع أحد أخذه منه، فهو يتحدث عن عالم أبيكتيتوس وحريته الداخلية التي أنقذته خلال سنوات الرقّ والعذاب.

من أين يأتي العذاب؟ إننا نتعذب بسبب خيالنا، أكثر من أي عذاب نجده في الواقع. ما يعذبنا ليس وجود الأشياء أو غيابها بقدر الأحكام التي نطلقها على ما يعنيه لنا هذا الغياب أو ذلك الحضور. العذاب يظهر مع أحكامنا التي لا تميّز بين ما يقع تحت سيطرتنا وما ليس كذلك.على سبيل المثل، أن تحب أحدا ما، هذا أمر تحت سيطرتك، ولك أن تمنح قلبك لمن شئت، وأن تدع هذا الحب ينمو ويترعرع ويتمدد، لكن ليس داخلا في سيطرتك أن يبادلك هذا الإنسان المحبة، وإن أحبك فليس بأيديكما أن تخلُد هذه المحبة إلى الأبد. تمييز ما تحت السيطرة وما ليس كذلك، يشبه حزام الأمان.ومع أنالرواقية لا تطلب منك أن تصبح ريشة في مهب الريح أو شيئا سلبيا تتحكم فيه الظروف، بل تدعو إلى العمل، وأن تحب ما شئت أن تحب، لكنها تدعوك أيضا أن لا تتعلق بشيء يمكن أن يُنتزع من يدك في أي لحظة وأنت تنظر.

ما دمتَ في عالم المعيش، فتعلّم أن تعيش. تعلّم أشياء جديدة في كل يوم. تعلّم أن تصادق نفسك وسيصبح الكل أصدقاءك. تعلّم أن تحب الناس والأشياء وسيحبّك الناس والأشياء. ولتكن طيبتك صادقة نزيهة لا زيف فيها، بحيث ينتج منها ألا تكتفي بخدمة نفسك، بل أن تخدم كل من تلاقي، حُبا.

يصف أحد المساجين آندي بأنه كانت له طريقته الهادئة في التعاطي مع الأمور، يمشي في باحة السجن، ويتحدث مع الآخرين، وكأن لا شيء غير "طبيعي" في المكان ولا الزمان، متوافقا مع طبيعة الأشياء كرواقي حقيقي.لا شك أن آندي انطلق من هذه النظرة: نحن لا نستطيع التحكم في تصرفات الآخرين، لكننا نستطيع التحكم في رد فعلنا تجاه أفعالهم. لا نستطيع تحديد الأحكام التي يصدرها الناس في حقنا، لكننا نلتزم قول الصدق، ونتمسك بأهداب الأمل في أن تتحسن الأحوال نحو الأفضل.

المبدأ الرواقي واضح منذ دخول السجن: كيف أُحكم قبضتي على حياتي؟ هذا السؤال البسيط قاد الرواقيين إلى سؤال معقد: ما طبيعة الكون وكيف سنعيش فيه؟ وهذا السؤال عن الخارج يقود إلى الداخل: ما طبيعة روحي؟ ثم الخلوص للجمع بين الاثنين وأنهما متناغمان تماما. كل جزء مني هو جزء من الكون، وستمضي الأشياء على طبيعتها، وسيظل الإنسان في وسطها، يخوضها، يجربها، في كل لحظة كشيء لا يقبل التجزئة. السجن أفضل مكان لنعرف العيش في لحظة الآن، بعيدا عن ماض اختفى ومستقبل لا يمكن الثقة به ولا تحديده. لقد قُذف بك إلى هنا، وليس ثَم غير هنا والآن. تجربتك في حياتك الخاصة متناغمة، مثلما أن الكون متناغم، وعندما تعيش هكذا، سوف تنظر إلى الكون بثقة، لأنك تناغمت مع كل شيء متناغم معه. لا شيء يأتي مبكرا ولا شيء يأتي متأخرا، فلا مشكلة مع الزمن.

الحرية التي أسس لها أبيكتيتوس، لا يمكن نيلها بتغيير العالم. وهي ليست في الأشياء. بل إن الأفكار التي يكوّنها الإنسان عنها هي ما يجعله سعيدا


الإشارات الرواقية الذكية في الفيلم يصعب إحصاؤها، منها أن آندي لا يصف المساجين بالمساجين، وإنما يصفهم بأنهم "زملاؤه في العمل"! الرواقية تقدس العمل تقديسا لا يقل عن تقديس الماركسيين له، لكنه عمل غير ثوري. إنه العمل الهادئ غير المنفعل لجعل الأمور تتحسن، بلا غضب ولا رفض للواقع. تقديس العمل يظهر مرة أخرى عندما يرفض شرب البيرة، فالرواقي لا يشرب الخمرة التي تجعله ضعيفا، وإن كان آندي قد انتزع لـ"زملائه في العمل" حق شرب البيرة إن شاؤوا.هذا تعليم عام، فالرواقية ترفض كتب الأسرار والمعارف الخاصة والحكمة المضنون بها على غير أهلها، بل يصرح الرواقيون بأن الحكمة التي لا تُنقل إلى كل الناس لا خير فيها، ولا ينبغي لأحد أن يقبل بها، بل يتعين عليه أن يرفضها إن كان نزيها، والأشعار والحكم التي كتبوها في هذا المضمار مذهلة بحق.

لماذا مرر آندي الموسيقى إلى المساجين؟ لأن الموسيقى حرية شعر بها فأراد بها تحرير المساجين، تحريرا للروح لا للجسد. لماذا فعل ذلك وهو يعلم أنه سيعاقَب بالضرب الشديد والسجن الانفرادي؟ لأن هذا جزء من عمل الرواقي: تمرير الحرية الروحية إلى الآخرين. روح الرواقي غربا، تشبه روح "المنقذ" في فلسفة الزن شرقا، ذلك الإنسان الذي ملك الحرية لكنه يرفضها حتى يتحرر معه كل البشر والحجر والشجر. ما القاسم المشترك بينهما؟ إنها روح التصوف التي لا تحمل إلا الحب والرحمة ولا شيء سواهما.

في نهاية القصة، نال آندي دوفرين حريته الكاملة، الروحية والجسدية. لكننا إن دققنا النظر فسنجد أن الحرية الكلية سُبقت بإلماحات وإشارات عن حريات جزئية حققها عبر أحداث القصة: مشهد المعاملة الخاصة التي انتزعها لرفاقه من حارس السجن، وموسيقى موزارت التي صدحت في أرجاء السجن، كلها حريات جزئية تشي بما هو كليّ.

الحرية لم تغب قط. لقد كان حُرّا طوال حياته.

font change
مقالات ذات صلة