شيخ شيعي هرب من "حزب الله" مُفضِّلا الغرب

Open Domain
Open Domain
الشيخ حسن مشيمش

شيخ شيعي هرب من "حزب الله" مُفضِّلا الغرب

انتسب الشيخ حسن مشيمش إلى "حزب الله" سنة 1987، عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، أثناء تلقيه العلوم في مدينة قم الايرانية. وخرج من الحزب عينه في سنة 1998، بعدما كان مساعد أمينه العام الأول صبحي الطفيلي 1948 لشؤون رجال الدين والنشاطات الاجتماعية. وهو يقيم اليوم لاجئا منفيا في إلمانيا، بعد تعرضه إلى الحوادث الآتية:

- صباح 7 يوليو/تموز 2010 اعتقلته السلطات الأمنية السورية على معبرها الحدودي من لبنان، أثناء توجّهه برا إلى مكة في الخليج، مع بعض أفراد عائلته. اتهمته بـ"العمالة للعدو الصهيوني"، وزجت به في سجونها.

- في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2011 أطلقت سراحه، وسلّمته إلى السلطات اللبنانية التي احتجزته وسجنته وحاكمته بالتهمة عينها.

- في 19 ديسمبر/كانون الأول 2011 طلب قاضي التحقيق العسكري اللبناني عماد الزين إعدامه.

- في 15 أبريل/نيسان 2013 أصدرت المحكمة العسكرية اللبنانية قرار سجنه 5 سنوات.

- في 15 أبريل/نيسان 2014 أخلت المحكمة أياها سبيله بكفالة قدرها 5 ملايين ليرة لبنانية. وقال بعد إطلاق سراحه: "تمنيتُ الموت ألف مرة على التعذيب أثناء أشهر اعتقالي الأولى".

- في غضون سنة 2017 غادر لبنان إلى فرنسا طالبا من سلطاتها اللجوء السياسي اليها. وقال إنه دفع رشاوى باهظة للحصول على جواز سفر.

- في 21 مايو/أيار 2020 طلبت السلطات الفرنسية منه مغادرة أراضيها، فتوجّه برا إلى ألمانيا. نزل في برلين وطلب اللجوء إليها من السلطات الألمانية. وقال إن السلطات الفرنسية رضخت في قرار إبعاده من أراضيها إلى طلب السلطات الإيرانية محابية (مصدر هذه السلسلة من المعلومات الشيخ حسن مشيمش، ومواقع إخبارية عدة على الإنترنت).

من الخوف

أمام بيته في بلدته الجنوبية كفرصير اللبنانية القريبة من النبطية، جالست الشيخ حسن مشيمش، فسجلت مقتطفات من سيرة حياته، قبل مدة من رحيله عن لبنان. ومنذ سنة 2020 أتواصل معه هاتفيا بعدما طلب اللجوء في إلمانيا.

مثل حياته كلها، تبدو رحلة الشيخ حسن مشيمش في عوالم الدين والتديُّن الإسلامية الشيعية الجديدة، شديدة القلق والاضطراب منذ طفولته. ففي الشياح بضاحية بيروت الجنوبية، حيث وُلد سنة 1964، سرعان ما فاجأه مجتمع الحرب الأهلية البادئة في لبنان سنة 1975 بين الشياح وعين الرمانة، فأصيب بقلق وخوف طفليين "وجوديّين" من الموت.

وفي مراهقته اختط طريقه إلى "إسلام الهداية الرسالي" الشيعي الجديد (حسب وضاح شرارة في كتابه "المدينة الموقوفة - بيروت بين القرابة والإقامة"، 1985) جوابا منه على قلقه واضطرابه في مجتمع الحرب الذي كان عاملا أساسيا في نشأة موجة الإسلام ذاك، تجذّره وانتشاره وتحوّله إسلاما "جهاديا حسينيا استشهاديا" في ثنايا المجتمع الشيعي اللبناني منذ العام 1982، بعدما كانت حركة السيد موسى الصدر الشيعية قد مهّدت له منذ عشيّات الحرب الأهلية في لبنان.

تبدو رحلة الشيخ حسن مشيمش في عوالم الدين والتديُّن الإسلامية الشيعية الجديدة، شديدة القلق والاضطراب منذ طفولته. ففي الشياح بضاحية بيروت الجنوبية، حيث وُلد سنة 1964، سرعان ما فاجأه مجتمع الحرب الأهلية البادئة في لبنان سنة 1975 بين الشياح وعين الرمانة، فأصيب بقلق وخوف طفليين "وجوديّين" من الموت

وكان بحث حسن مشيمش الفتى المراهق محموما في أحياء ضاحية بيروت الجنوبية، للعثور على هاد أو مرشد يتكفّل هدايته الدينية، قبل سفره إلى النجف العراقية، ثم إلى قم الإيرانية سنة 1980، طلبا لعلوم الدين والمشيخة في هاتين المدينتين اللتين تشكلان قبلة التشيُّع في العالم، وتربطهما بجبل عامل الشيعي (الجنوب اللبناني) صلاتٌ نسبية ودينية وثيقة وقديمة.


بدأ الشيخ حسن مشيمش رواية رحلته في الحياة والتديُّن بقوله إنه وعى في بيئة أهله في الشياح التي لا يستطيع اعتبارها متديّنة في طفولته ومراهقته، بل غير متديّنة: "أمي وأبي كان تديّنهما تقليديا. والدي كنتُ ولا أزال أرى أن تديُّنه وفهمه شؤون الدين والدنيا سطحيّان. إخوتي وأولاد عمي غير متديّنين قط". أما تعلّمه الابتدائي فتلقاه في مدارس خاصة، أهلية وشبه مجانية في الضاحية الجنوبية. وأنا (الكاتب) من أكبر الشيخ مشيمش بدزينة من السنوات، تلقيتُ تعلُّمي الابتدائي في واحدة من تلك المدارس في الشياح. والشبان الذين أداروها عاونهم في إنشائها وتدريس الدين فيها آباؤهم أو بعض أقاربهم، كانوا غالبا عامليين (وهذه تسمية إهل جنوب لبنان حتى ستينات القرن العشرين) وآباؤهم من عائلات توارثت تعليما دينيا، قبل عزوف أجيالها الجديدة عن هذا التعليم ومشيخته منذ عشرينات القرن عينه.

Getty Images
شبكات خطوط الكهرباء العشوائية في ضاحية بيروت الجنوبية


مرحلة تعلّم مشيمش المتوسطة بدأها في مدرسة رسمية شُيّدت في الشياح بدايات الحرب الأهلية، فتعرَّف إلى الأجواء الدينية مطلع سنة 1978 وانخرط فيها: "كنت من أوائل من دخلوا تلك الأجواء. ليس بواسطة أبي أو أمي أو بيئتي. بل لأن تساؤلات غامضة المصدر انبعثت في صدري، ربما جراء خوفي من الموت في يوميات الحرب وجولاتها بين الشياح وعين الرمانة. كان أترابي ومجايليَّ من أقاربي "فلتانين" على الرقص والموسيقى والمجون والسينما والخمر. معهم دخلتُ إلى معظم صالات السينما في شارع الحمراء البيروتي قبل هدايتي". 


لكن الخوف والجزع من القصف العشوائي ومشاهدته بعض القتلى والجرحى، ضاعفت قوة الأسئلة لدى حسن المراهق: "أخذ والدي يحدّثني أحاديث سطحية جدا في الدين، فرحتُ أفتّش عمّن يجاوبني عن أسئلتي. علّمني والدي الصلاة، فرحتُ أصلّي وأصوم، وارتحتُ نفسيا". لكن رحلته في البحث عن هاديه ومرشده الديني استمرّت محمومة بعد عزوفه عن الذهاب إلى مدرسته وانقطاعه نهائيا عن الدراسة.
 

الخوف والجزع من القصف العشوائي ومشاهدته بعض القتلى والجرحى، ضاعفت قوة الأسئلة لدى حسن المراهق: "أخذ والدي يحدّثني أحاديث سطحية جدا في الدين، فرحتُ أفتّش عمّن يجاوبني عن أسئلتي. علّمني والدي الصلاة، فرحتُ أصلّي وأصوم، وارتحتُ نفسيا"

مخاض الهداية الدينية


كان والد حسن مشيمش صاحب دكان سمانة في الشياح. وكان والده وأعمامه معروفين بأنهم متديّنون وينظّمون حملات حج وعمرة إلى مكة المكرمة، وزيارات إلى مزارات شيعية في العراق وإيران، ويقومون بدور المعرّفين في الحملات والزيارات. وفي كفرصير بلدتهم كانوا متعهّدي غسل الموتى وتكفينهم ودفنهم، وإحياء مجالس عزاء عن أرواحهم. لكنهم في هذا كله "لم يخلطوا الدين بالسياسة" حسب الشيخ مشيمش.


الحاج كوراني الذي اهتدى الفتى مشيمش على يديه وراح يزوده كتبا من الفقه الشيعي، كان صاحب محل بيع فراريج قرب بيت أهله. وسرعان ما بدأ يتغيّر نمط حياته: "انقطعتُ عن الاستماع إلى الموسيقى والأغاني انقطاعي عن صحبة أقراني إلى حفلات الرقص والدبكة، وعن مصافحة النساء والفتيات، عازفا عن الاحتكاك بالسافرات منهن. فأخذ من يعرفونني وتجمعني بهم صلة ما يسخرون مني وينصرفون عن صحبتي، كأنني كائن غريب. لكنني منذ البداية كنتُ مسرورا باهتدائي وحدي إلى الإسلام ورسالته. أبناء عمي وسبعة من إخوتي يكبرونني سنا وثامن يصغرني، استمروا جميعا في إقبالهم على ملذّات الدنيا".


وكان مشيمش منذ فتوّته من أولئك الباحثين عن "بيّنة وقرينة دينيّتين" لما قرأه وسمعه من أحاديث من الحاج كوراني. ووجد في حركة "أمل" البيّنة والقرينة اللتين لم تحملاه على الانضواء تنظيميا ولا عسكريا في صفوفها، بل "أخذتُ أتردد إلى مساجد الدعاة والخطباء في أحياء الضاحية الجنوبية، لأكون مثل من قرأت لهم". 
 

كان مشيمش منذ فتوّته من أولئك الباحثين عن "بيّنة وقرينة دينيّتين" لما قرأه وسمعه من أحاديث من الحاج كوراني. ووجد في حركة "أمل" البيّنة والقرينة اللتين لم تحملاه على الانضواء تنظيميا ولا عسكريا في صفوفها

وروى الشيخ مشيمش أن عدد الشبان في مسجدي الغبيري والحسنين في بئر العبد وحسينية الشياح التي كان يتردد عليها لم يكن يتجاوز العشرين في البداية. وفي ورشة أخيه لفرش السيارات التي راح يعمل فيها في فتوته، كانت صور للسيد موسى الصدر وللإمام الخميني معلّقة على جدرانها إلى جانب آيات قرآنية. 


كانت بيروت وأحياء ضاحيتها الجنوبية آنذاك قد صارت مسارح مفتوحة مترامية اجتاحتها منظمات الحرب ومجتمعها الذي رسا وتصلّب في حرب السنتين (1975 - 1976) وبعدها حتى منعطف الحرب الكبير الذي أدت إليه الحملة العسكرية الإسرائيلية الضارية والمدمّرة على المنظمات الفلسطينية المسلّحة المرابطة في لبنان. فاجتاحت الحملة تلك الجنوب وشطرا من جبل لبنان الجنوبي وصولا إلى بيروت صيف 1982. 


كانت تنمو على هوامش الحرب مجموعات إسلامية وشبكاتها الجديدة. ومقدّمات الحرب الأهلية في لبنان وانفجارها في ضواحي بيروت تحديدا، كانا يُنشئان - تحت المجتمع العادي وفي غفلةٍ منه - متاهاتٍ وأدغالا طحنت أجيالا من الشبان والفتيان. وقد يكون مشيمش الفتى وأمثاله من جيلها الثاني. وهو روى نقلا عن صديقه حسن سعيد بيطار مشاركته في الخامسة عشرة من عمره سنة 1979 في "مجالس دروس دينية كان يقيمها فرع لبنان لحزب الدعوة العراقي، في مساجد الشياح والغبيري وبئر العبد في ضاحية بيروت الجنوبية. وكانت الدروس تنعقد  في ضوء كتابي "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، من تأليف محمد باقر الصدر مؤسس الحزب عينه في النجف سنة 1957".

وفي شهادة بيطار أن "المستمع إلى تلك الدروس بعقل ابن 15 سنة، من الطبيعي أن يعتقد أنه يصغي إلى عِلْم مُشْتَق من علوم الله سبحانه". وكان مدرّس حزب الدعوة في حلقات المساجد تلك يقول: "ذوبوا في الخميني كما ذاب هو في الإسلام. وكان من الطبيعي لولد مسلم مثلي وُلِدَ في عائلة وبيئة شيعيتين، أن يعتقد أن الخميني قائد سياسي وفقيه تقي زاهد وعابد راكع ساجد. وسنذوق في ظل سلطته وولايته وحكومته الإيرانية أحلى نوع من أنواع الدولة العادلة، ومستحيل أن يكون فيها فقير ومظلوم وأمِيٌّ".


حرب أهلية شيعية


في سن الخامسة عشرة فاتح الفتى مشيمش والده بتدينه الرسالي وبرغبته في تلقي علوم الدين، فاصطحبه سنة 1980 في زيارته النجف وسواها من المزارات والأضرحة الدينية في العراق وصولا إلى قم ومشهد في إيران. وذلك أثناء عمله دليل جماعات من الحجاج اللبنانيين الشيعة الراغبين في زيارتها. وروى أن "الجو كان متوترا في النجف ويتعرض رجال الدين الشيعة وحوزاتهم فيها إلى القتل والتشريد على يد نظام صدام حسين. لذا تركني في قم وأعطاني بعض المال وأوصى معارفه من رجال الدين اللبنانيين برعايتي".


مكث حسن مشيمش 8 سنوات في قم، وعاد إلى لبنان شيخا معمّما سنة 1988. في المدينة الدينية الإيرانية، وبعد انتصار الثورة الإسلامية الخمينية في إيران سنة 1979، نشط في السجالات الفقهية المحمومة التي قامت بين أمثاله من طلبة علوم الدين الشيعة اللبنانيين وسواهم هناك. وعلى الرغم من حضوره ونشاطه الدعوي والتثقيفي في الدوائر التي مهّدت لتأسيس "حزب الله" في لبنان (سنة 1985) بين قم وسهل البقاع وضاحية بيروت الجنوبية وجنوب لبنان، أثناء عوداته المتقطّعة من إيران، ظل على قلق وتنازع مقيمين في نفسه: "قلبي مع السيد موسى الصدر. وعقلي مع الإمام الخميني ودولته، دولة الولي الفقيه الإسلامية. وملتُ فكريا إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فحفظت محاضراته التي كانت تصلني إلى قم مسجلة على أشرطة كاسيت، وجذبتني شخصيته على مستوى لبنان الذي في أثناء زياراتي إياه، التقيتُ الشيخ شمس الدين (1936 - 2001)  وترددتُ إلى حوزته للعلوم الدينية".
 

مكث حسن مشيمش 8 سنوات في قم، وعاد إلى لبنان شيخا معمّما سنة 1988. في المدينة الدينية الإيرانية، وبعد انتصار الثورة الإسلامية الخمينية في إيران سنة 1979، نشط في السجالات الفقهية المحمومة التي قامت بين أمثاله من طلبة علوم الدين الشيعة اللبنانيين وسواهم هناك

عندما بدأ حسن مشيمش دراسة علوم الفقه الإسلامي الشيعيّ في قم سنة 1980، كان عدد طلابه اللبنانيين في المدينة المدينة الإيرانية لا يتجاوز 20 شابا. لكن العدد ارتفع إلى أكثر من مئتين لما غادرها مشيمش عائدا إلى لبنان شيخا معمما سنة 1988. وهو روى أنهم كانوا منقسمين اتجاهات دعوية متنازعة ومتنابذة التوجهات "السياسية":
- فئة على مذهب السيد محمد حسين فضل الله (1934 - 2010) ودعوته. وهو مرشد ما سمّي الحالة الإسلامية الجديدة وخطيبها في ضاحية بيروت الجنوبية في الثمانينات، ومن مؤسسي "اتحاد الطلاب المسلمين في لبنان" بعد عودته من دراسته علوم الدين في النجف سنة 1966. وكان هناك إلى جانب محمد باقر الصدر (1935 - 1980) مؤسس "حزب الدعوة" الإسلامي الشيعي العراقي سنة 1957.
- فئة توالي الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1936 - 2001) الذي كان في "حزب الدعوة" أيضا، أثناء دراسته الدينية في النجف. وعمل مع فضل الله على تأسيس "المجلس الإسلامي الشيعي" في لبنان، إلى جانب رئيسه السيد موسى الصدر، وتولى منصب نائبه، ثم رئيسه بعد مدة من اختفاء الصدر سنة 1978.
- فئة توالي حركة "أمل" الشيعية المقاتلة في حروب لبنان الأهلية.
- فئة تبنت مذهب الولي الفقيه الذي وضعه الإمام الخميني عقيدة للحكم والثورة الإسلامية المنتصرة في إيران سنة 1979.
- فئة من المستقلين المنصرفين إلى علوم الدين من دون انجذابهم إلى تيار فقهي - سياسي محدد.
الغالب أن هذه التيارات ما كانت لتتخذ طابعا فقهيا - سياسيا محدثا ومتنازعا على هذه الصورة، لولا المنعطف الكبير الذي استجد على علوم الدين الشيعية في خضم الثورة الخمينية الإيرانية وانتصارها. بعد شهرين على عودة الشيخ حسن مشيمش إلى بلدته كفرصير، وقع الصراع العنيف والمسلح بين "أمل" و"حزب الله" في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية. وروى الشيخ العائد من قم أن محازبي "أمل" في بلدته "ضربوا حصارا" على ناشطي "حزب الله" الذي كان في عدادهم: "منعوا الصلاة في المسجد إذا أمّ المصلين فيه شيخ من حزب الله. ثم سرعان ما ضيّقوا علينا النشاط في البلدة. ولما حاولتُ التفاهم وإياهم لحملهم على رفع حصارهم عنا، لقاء قصر نشاطنا على أداء الشعائر والخطب الدينية العامة من دون الدعوة إلى نصرة الحزب، رفضوا حتى أن نتواصل مع مشايخه خارج البلدة. وفيما كنت أقرأ في المسجد دعاء دينيا، عطلوا أجهزة الصوت فيه، وضربوا صهري الذي نقل إلى المستشفى جريحا ملفوفا بحرام. ثم لم يلبثوا أن فجروا سيارتي في أحد شوارع كفرصير التي أمعنوا فيها بممارساتهم الميليشيوية الموتورة".


سكرتير شؤون العلماء


روى الشيخ مشيمش ذيول الحروب بين حركة "أمل" والمقاتلين الفلسطينيين ثم بين الحركة والحزب وحملات الاغتيال ضد الشيوعيين واختطاف الرهائن الاجانب بالقول: "كانت عائلات (بلدته كفرصير) وشبانها منقسمين بين محازبين شيوعيين وأمليين وخمينيين في حزب الله. أما عائلتي فكان شبانها إما شيوعيين وإما من حزب الله الذي كنت من مشايخه. لذا تعرضوا وتعرضت إلى تنكيل حملني أخيرا وسواي من أمثالي على الفرار من البلدة إلى ضاحية بيروت الجنوبية".


وبما أن منطقة الشياح التي يقيم فيها أهله وسواهم كثيرون من عائلات بلدته، ظلت وحدها من أحياء الضاحية الجنوبية تحت سيطرة حركة "أمل"، لجأ الشيخ مشيمش وسواه من الفارين من عسف الحركة في بلداتهم الجنوبية إلى الإقامة في حارة حريك التي هُجّر عنوة أهلها وسكانها المسيحيون، وبدأ ينشأ فيها ما سمي "مربع حزب الله الأمني"، أي معقل إقامة مشايخه وقادة أجهزته كلها. هناك أقام الشيخ مشيمش في بيت عتيق منفرد ملاّكه مسيحيون، و"كانت تستأجره وربما تحتله امرأة درزية أخلته لي لقاء 3 آلاف دولار. وهناك تعرّفت إلى السيد محمد حسين فضل الله، والتقيت في بيته الشيخ نعيم قاسم والسيد حسن نصر الله، ودرسنا معا عنده بين العام 1989 والعام 1992، إلى جانب 7-8 أشخاص آخرين. وعملتُ مشرفا دينيا على صحيفة "حزب الله" (العهد) وبدأت أنشر فيها مقالاتي. ثم تفرغت مسؤولا عن ثمانٍ من صفحاتها مخصصة للتعبئة الدينية.

"كان منصبي مهما، وراتبي الشهري 300 دولار. أخي الأصغر المقاتل المتفرغ في حزب الله عرّفني إلى أمينه العام الشيخ صبحي الطفيلي، وطلب مني أن أتوسط له لديه ليحصل منه على إجازة أو تفويض. وأخذ المشايخ يتسابقون على صحبتي كي أنشر مقالاتهم في "العهد"، فصرت مشهورا وذائع الصيت. وفي الأثناء قرأت روايات لمصطفى لطفي المنفلوطي ونجيب محفوظ. وأجاز الشيخ الطفيلي أخي (استشهد لاحقا) ثم أجازني، فرحت أتقاضى الزكاة التي يحصّلها الشيخ من الناس حسب شطارته واتساع علاقاته. وطلب مني الطفيلي أن أتخلى عن عملي في "العهد"، لأشغل منصب سكرتيره في الأمانة العامة لشؤون علماء الدين، ففعلت وظللت في المنصب حتى العام 1998".
 

ضرب محازبو "أمل" في بلدته كفرصير على ناشطي "حزب الله" الذي كان في عدادهم: "منعوا الصلاة في المسجد إذا أمّ المصلين فيه شيخ من حزب الله. ثم سرعان ما ضيّقوا علينا النشاط في البلدة. ولما حاولتُ التفاهم وإياهم لحملهم على رفع حصارهم عنا، لقاء قصر نشاطنا على أداء الشعائر والخطب الدينية العامة من دون الدعوة إلى نصرة الحزب، رفضوا حتى أن نتواصل مع مشايخه خارج البلدة

إلى جانب منصبه ذاك كان "شغل" الشيخ مشيمش "الخاص" هو "الدعوة والتبليغ الديني" باسم حزبه، بعدما أجازه أو كلّفه بذلك أمينه العام. استمر في شغله هذا من العام 1990 إلى العام 1998. وفي تلك السنوات "رحتُ أتنقل بين بلدان كثيرة من العالم - زامبيا، السنغال، سيراليون، شاطئ العاج، بنين (كوتونو)، بوركينا فاسو، سويسرا، ألمانيا، وفرنسا - داعيا ومبلّغا فيها أبناء جاليات المهاجرين الشيعة اللبنانيين برسالة التشيع الخميني الحزب اللهي، وجامعا منهم زكاة الخمس عن أموالهم.

Getty Images
مسلحون من حركة "أمل" اثناء المعارك ضد "حزب الله" في الضاحية الجنوبية في مايو 1988

وغالبا ما كان يمول رحلاتي من أتعرّف إليهم من المهاجرين أثناء زياراتهم أهلهم في لبنان. وهذا جعلني قطب شبكة علاقات واسعة في أوساط أبناء الجاليات الشيعية المهاجرة. وكان دوري أن أقدّم لهم صورة جميلة ولطيفة عن "حزب الله". وكانت كل رحلة من رحلاتي تستغرق بين 15 يوما وشهر ونصف الشهر، وتصل أحيانا إلى ستة أشهر. ونشأتْ بيني وبين أبناء الجاليات علاقات شخصية واسعة ومتفاوتة".
وروى الشيخ مشيمش أن صلته بالأمين العام الأول لـ"حزب الله" صبحي الطفيلي كانت حميمة وعلى مثال "صداقة عائلية"، حتى بعد انتخاب السيد عباس الموسوي (1952- 1992) أمينا عاما ثانيا في العام 1991، قبل مقتله في العام التالي بغارة إسرائيلية على موكبه أثناء عودته من جنوب لبنان. أما الطفيلي فشغل منصب عضو مجلس قيادة شورى القرار، ومسؤول شؤون الدعوة والتبليغ وعلماء الدين في الحزب. "وأصدرنا معا مجلة متخصصة في توعية رجال الدين. وبقينا على هذه الحال حتى اعتراض الطفيلي على قرار حزب الله إدخال أعضاء فيه إلى البرلمان اللبناني سنة 1996".

تلفزيون لتمويل "حزب الله"

في ذاك العام أطلق الطفيلي ما سمي "ثورة الجياع" التي كان معظم المشاركين فيها من أبناء عشائر منطقته (البقاع الشمالي) المقيمين في أحياء العمران العشوائي الكثيف في أطراف ضاحية بيروت الجنوبية. فتصدت قوة من الجيش اللبناني لـ"الثائرين" الصاخبين، وربما المسلحين، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى كثيرين، وإعلان "حزب الله" فصل الطفيلي من صفوفه وإقصائه.


أما الشيخ مشيمش فقال: "حيّدت نفسي عن تلك المعمعة أو المفرمة الحزبية، فلم ألتحق بالطفيلي وجمّدت نشاطي في الحزب من دون أن أخرج من أطره العامة. وكان حسن نصر الله - منذ توليه منصب الأمين العام الثالث في حزب الله خلفا لعباس الموسوي - قد شرع في إعادة تنظيم أمانة الحزب العامة وتأطيرها على نحوٍ جديد أشد التصاقا بالحرس الثوري الإيراني. وقد أدت تراكمات وخلافات كثيرة إلى وقوع الطلاق الخلعي بيني وبين القيادة الحزبية، وعودتي إلى بلدتي كفرصير التي احتضنتني كثرة من أهلها. من على منابر البلدة رحتُ أذيع أخطاء القيادة التي وصلتني منها إنذارات شفهية، كي أسكت وأبتلع لساني، فلم أستجب، فأمطروني بوابل من الشائعات: شيوعي، موالٍ لحركة "أمل". وربما لأن عائلتي سقط منها أربعة شهداء في المقاومة الإسلامية، اكتفوا بحصاري وقطع مواردي المالية، ولم يقدموا على إسكاتي بالقوة والعنف، مثلما فعلوا مع بعض المشايخ الذين اعتدوا عليهم وطردوهم من قراهم".


رسالة من بلاد الغرب


عن جولاته داعيا مبلغا أبناء الجاليات الشيعية المهاجرة في أوروبا روى الشيخ مشيمش أن ما شاهده وعاشه هناك كان "دوره كبيرا في خياراتي وفي التراكمات والخلافات التي أدت أخيرا إلى انفصالي عن حزب الله. في رحلتي الأولى إلى مدينة جنيف السويسرية آتيا من افريقيا، أردت أن أمشي في شوارعها مشاهدا مستطلعا. اشتريت حذاء رياضيا (إسبادرين) ورحتُ أجوب تلك الشوارع الجميلة النظيفة التي سحرتني طوال نهارين. ولما عدت إلى الفندق ونزعت الحذاء من قدميّ، رأيته على حاله نظيفا وجديدا، فتساءلت: ماذا كان سيحل به لو كنت أمشي في مدينة من الشرق، أو في شوارع ضاحية بيروت الجنوبية؟ كان ذلك سنة 1993. وعندما وضّبت حقيبتي لأعود إلى بيروت وجدتني أضع ذلك الحذاء النظيف إلى جانب قمصاني. وحين هبطت بي الطائرة في مطار بيروت، صدمتني مشاهد العمران العشوائي المكدس في الأوزاعي وحي السلم القريب من المطار، كأنني أبصرتها للمرة الأولى. في حارة حريك صدمتني أبواب الحديد التي كنت أبصرها كل يوم فلا أنتبه إلى تصفيحها واجهات المتاجر، ولا إلى أسلاك الكهرباء التي تتدلى وتتشابك مثل أمعاء الذبائح في فضاء الشوارع وتدخل إلى البنايات والبيوت من شرفاتها المسدلة عليها براقع مغبّرة من البلاستيك المتضارب الألوان. وصفعت بصري علب المرطبات المعدنية الفارغة المرمية على جنبات الأرصفة والشوارع التي تكثر الحفر فيها وتتكدّس أكوام النفايات. ورحتُ أحدّق في أشكال البنايات المخالفة والمعتدية على الطرق العامة، وفي السيارات المركونة على نحوٍ يقفل الشوارع ويمنع العابرين من السير على الأرصفة". 


و"رأيتني أتساءل: لماذا هذا العمود أو ذاك يُهمَل منحنيا أو معوجّا هكذا، فلا يكترث أحد بانتصابه؟ ولماذا نعيش على هذه الحال من الفوضى يا الله، فيما نسترسل في شتم الغرب كل يوم، تاركين بلدنا غارقا في الخراب، مدّعين أن مجتمعنا وقيمه مثال للعالم كله؟! وحين رحت أجاهر بكلامي هذا ساخرا مما نحن فيه، أخذوا يقولون لي: صرتَ مثل غيرك متأثرا بالغرب الذي يسرق ثرواتنا وينشئ بها حضارة عظيمة ومجتمعا عظيما. هيا فليعد إلينا تلك الثروات لنبني بها حضارة أعظم من حضارته. فأقول في نفسي: والله لو حصلتم على أموال سويسرا كلها، ستظلون كما أنتم. ولو حصل عليها السيد فضل الله أو السيد نصر الله، فلن يستعملاها إلا في ارتكاب مغامرة عسكرية تجلب لهما الشهرة في أرجاء العالم".


أخذت أمثال هذه الملاحظات والأسئلة تتراكم في ذهن الشيخ مشيمش أثناء رحلاته الأوروبية الكثيرة وعودته منها إلى لبنان. فراح يراقب هناك حركة الناس في الشوارع، أشكال العمارة والعمران ويفكر في نظامها وفي أشكال وأحجام أثاث البيوت، ثم يقارنها بما يعرفه ويشاهده هنا في بلاده. وهو قال إنه سأل نفسه ألوف المرات: "ما الذي جعلني أتأثر بما أشاهده في الغرب، استدخله في ذهني فيقلقني ولا تمّحي صوره من ذاكرتي، بينما كثيرون سواي شاهدوا ما أشاهده فامحى من دون أن يترك أثرا في حواسهم وأذهانهم؟ أهذه لعنة أصابتني وحدي؟".
أخيرا بعد انفصاله عن "حزب الله"، كتب في باريس نصا عنوانه "رسالة من بلاد النجاسة". ومما كتبه فيها: "أكتب إليكم من جوار برج إيفل الذي لا يختلف عن برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية، إلا بفارق بسيط: برج إيفل عارٍ تماما كنساء فرنسا، وبرج البراجنة تحجبه البنايات المتنافرة المقبضة من صيبة العين، فلا يبصره سوى الأطهار الطاهرون".

font change